هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
نشرت صحيفة "ذا تايمز" البريطانية مقال رأي للكاتب ديفيد كيناستون، تحدّث فيه عن التغيرات التي شهدتها بريطانيا في عهد الملكة إليزابيث الثانيّة على عدة مستويات.
وقال الكاتب، في مقاله الذي ترجمته "عربي21"؛ إن بريطانيا التي ورثتها الأميرة إليزابيث في شباط/ فبراير 1952، أصبحت اليوم مختلفة تماما.
ولقد كان هناك شعور قاتم مرتبط بذكرى حرائق الفحم، وظلت المدن الكبرى تعاني من الخوف من مساكن العشوائيات والقنابل.
وبعد قرابة سبع سنوات من الانتصار في الحرب العالمية الثانية، ساد على المستوى الوطني شعور بالرضى إلى حد كبير، لكن على مدى العقود السبعة التالية، تغير كل شيء تقريبا، بدءا من شكل الاقتصاد البريطاني ذاته.
وفي الخمسينيات من القرن الماضي، كانت بريطانيا ولا تزال قوة صناعية عظيمة، ولكن منذ الستينيات بدأت العملية الحتمية المتمثلة في تراجع التصنيع، وتسارعت منذ الثمانينيات.
وتحدث السياسيون بأمل عن "مسيرة الصانعين" و"إعادة التوازن" للاقتصاد، ولكن بحلول سنة 2019، أصبحت الصناعة التحويلية تشكّل عُشر اقتصاد المملكة المتحدة فقط، مقارنة بألمانيا حيث تمثّل الثلث.
وأشار الكاتب إلى أن النمو كان من نصيب قطاع الخدمات، الذي كان مهيمنا بالكامل تقريبا بحلول أوائل القرن الحادي والعشرين.
بحلول سنة 2017، كانت الصناعات الإبداعية، مثل الأزياء والإعلان والأفلام والتلفزيون، تنمو بمعدل ضعف الاقتصاد، أما الرابح الأكبر، فقد كان قطاع الخدمات المالية، التي تركزت في لندن.
وبحلول الألفية الجديدة، عادت لندن إلى ما يشبه ما كانت عليه قبل حرب 1914-1918: أي مركزا ماليا دوليا.
وبطبيعة الحال، انتقد الكثيرون الاعتماد المفرط للاقتصاد على الخدمات المالية، لكن الاقتصاديين في البلاد لم يتمكنوا من اقتراح نموذج بديل ممكن.
وأضاف الكاتب أن عالم العمل ككل شهد تحولين ضخمين؛ أحدهما التغيّر الجذري للقوى العاملة من خلال تزايد نسبة النساء العاملات والعمل الجزئي، والعاملين لحسابهم الخاص، والآخر يتعلّق بالانحدار المزدوج للعمل المنظم والأمن الوظيفي.
وبلغت عضوية النقابات العمالية ذروتها في سنة 1979 بأكثر من 13 مليون عضو قبل انهيارها في الثمانينيات، نتيجة للبطالة الجماعية والتشريعات المعادية والهزيمة الدراماتيكية لإضراب عمال المناجم.
وبحلول سنة 2018، كان أقل من 14 بالمئة من الموظفين في القطاع الخاص من أعضاء النقابات.
وما يعنيه تراجع العمالة المنظمة، هو أن بريطانيا أصبحت واحدة من أسواق العمل الأكثر مرونة في العالم، وهو أساس اقتصاد "الوظائف المؤقتة" الذي يؤثر على مئات الآلاف من العمال.
وفي المقابل، غيّر وباء كوفيد وظهور ثقافة العمل من المنزل، قواعد اللعبة مرة أخرى.
وباختصار، أصبح اليقين الوحيد المتبقي هو عدم اليقين.
شهدت البلاد تحولا أكثر عمقا، فخلال الثمانينيات وما بعدها، تمت خصخصة الاقتصاد البريطاني، مما أدى إلى تسويق الاقتصاد والمجتمع ككل، حيث كان كل شيء على ما يبدو معروضا للبيع.
كان المال، بالطبع، مرتبطا بالمتاهة البيزنطية التي كانت تمثل النظام الطبقي البريطاني، وهو نظام كان قائما خلال الجزء الأول من حكم الملكة إليزابيث.
وكان ويلسون وهيث وكالاهان وثاتشر ومايجور، أبرز خمسة رؤساء وزراء متعاقبين تلقوا تعليما حكوميّا.
ولا تزال رئيسة الوزراء الجديدة ليز تروس تمثل الأقلية، في حكومة يهيمن عليها وزراء تلقوا تعليمهم في مدارس خاصة.
وتضاءل التحول من التصنيع إلى اقتصاد الخدمات بسرعة، ليُقضى على الهيمنة العددية للطبقة العاملة من الحرفيين.
وفي الوقت نفسه، أدى التوسع السريع في قطاع التعليم العالي إلى تغيير التوقعات الاجتماعية، حيث قاد ماركس وسبنسر ثورة في الفوضى الطبقية.
وقد تآكلت الثقة في شخصيات السلطة التقليدية بشكل مطرد منذ الستينيات، سواء كانوا سياسيين أو مديري بنوك أو معلمين، وأصبح المجتمع أقل احتراما لهم من أي وقت مضى.
وكانت الأسئلة المتعلقة بالجنس والعرق، هي محور الخطاب العام على نحو متزايد.
وبحلول القرن الجديد، ادعى أحد كبار القادة السياسيين، وهو دينيس هيلي، أن "الطبقية" أصبحت مفهوما لا معنى له.
وبعد عقد من الزمان، في ظل تزايد عدد بنوك الطعام، حصل أغنى السكان على 15 بالمئة من إجمالي الدخل، ولم يكن من الواضح ما إذا كانت عقيدة السوق الحرة الخاصة بثاتشر وبلير ستستمر في الهيمنة.
وفي سنة 2015، ساهمت قيادة جيريمي كوربين لحزب العمال في عودة مسألة المساواة (أو "العدالة الاجتماعية") أخيرا إلى طاولة المفاوضات السياسية.
ورغم هزيمة كوربين في سنة 2019، دفعت أزمة تكلفة المعيشة الحالية الحكومة إلى تبني جزء من أجندته مرة أخرى.
في سنة 2019، صعد بوريس جونسون للسلطة في غضون ثلاث سنوات.
فهل كان كل ذلك خطأ أنتوني كروسلاند لأنه بدأ في الستينيات بإلغاء المدارس النحوية، تلك التي كانت فريدة من نوعها؟ أم إن المشكلة هي استمرار وجود قطاع تعليم خاص مزدهر وعالي الموارد؟
وانضم اليوم جميع السياسيين إلى الحراك الاجتماعي، ولكن حتى بعد التزام حزب العمال في سنة 2019 بدمج المدارس الخاصة في القطاع الحكومي، بدأ النقاش الجاد حول كيفية تحقيق ذلك.
ويضم مجلس الوزراء المعين حديثا اليوم 22 خريجا من المدارس الخاصة، تسعة منهم من أبناء التعليم العمومي.
وأشار الكاتب إلى أن مظاهر انعدام المساواة واضحة أيضا في النتائج والفرص، سواء بين الطبقات أو بين الأجيال، وفي الإسكان.
اقرأ أيضا: عمره 7 قرون.. الأمير ويليام يرث عقارا بقيمة مليار دولار
ففي مطلع خمسينيات القرن الماضي، كان متوسط دخل مستأجر منزل في المجلس مشابها تقريبا للمتوسط الوطني.
وعلى امتداد العقدين التاليين، أدى مزيج من التشريعات وإزالة الأحياء الفقيرة إلى تقليص قطاع الإسكان العام بشكل كبير، بينما دفعت السلطات المحلية ببرامج طموحة للإسكان الاجتماعي الجديد.
ومن ثم حدث تحول كبير في الثمانينيات، حيث أدت سياسة الحق في شراء المساكن الشعبية لمارغريت ثاتشر إلى تقليص قطاع الإسكان العام بشكل حاد، وازدهار القطاع الخاص.
لقد كان السكن بالطبع جزءا واحدا فقط من البيئة التي تغيرت بشكل جذري.
بطريقة أو بأخرى، كانت الحياة بلا شك أكثر بساطة خلال النصف الأول من عهد الملكة إليزابيث.
وكان الاتصال دائما إما عن طريق الرسائل أو البطاقات البريدية، ولم يكن استخدام الهاتف مجانيا وسهلا.
لم يكن هناك سوى عدد قليل من القنوات التلفزيونية المتاحة للمشاهدة، ويمكن القول إنه كان هناك المزيد من الوقت للتفكير.
باختصار، كان المرء يعرف مكان وجوده.
تغيرت العلاقة بين الزوج والزوجة من العيش في مجالات منفصلة إلى شيء أكثر مساواة، وأصبح الطلاق شائعا، خاصة بعد سن تشريع "طلاق من دون خطأ" لعام 1969.
ويمكن القول أيضا؛ إن الجزء الأكثر أهمية في التحول هو العلاقة المتغيرة بين الآباء والأطفال.
وتشير جميع الأدلة القصصية إلى أنه في الأيام الخوالي، كان هناك القليل من النقاش المفتوح والتشاور بين الأجيال.
وعلى النقيض من ذلك، تبدو العلاقة الآن أسهل وأكثر حرية، مع وجود عدد قليل من الموضوعات خارج الحدود.
بالنسبة للنساء، اتسعت الآفاق على نطاق واسع.
وفي أواخر سبعينيات القرن الماضي، كان لدى أقلية فقط من الأطفال أم تخرج للعمل، في حين أنه بحلول سنة 2019، بالكاد ربع النساء اللائي تتراوح أعمارهن بين 16 و64 عاما لا يعملن.
وارتفع متوسط سعر المنازل في المملكة المتحدة من 11 ألف جنيه إسترليني في منتصف السبعينيات، إلى 283 ألف جنيه إسترليني بحلول هذا العام، حيث استغل وكلاء العقارات ومقرضو الرهن العقاري إمكانات الأسر ذات الدخل المزدوج.
ومن الناحية الثقافية، اختفت تماما الافتراضات المعيارية في الخمسينيات من القرن الماضي -التي روجت لها المجلات الشعبية مثل "وومان" و"وومنس أون"-، بشأن الزوجة باعتبارها ربة منزل متفانية.
ظلت المرأة ممثلة تمثيلا ناقصا بشكل خطير في البرلمان، وظلت المناصب العليا في المجتمع حكرا على الرجال في الغالب.
ورغم سن عدد من التشريعات، لا تزال الفجوة بين الأجور كبيرة، وقد نتج عن هذا الخلل تكلفة باهظة.
هل كنا سنواجه الأزمة المالية المروعة لو كانت النساء مسؤولات عن البنوك التي يغذيها هرمون التستوستيرون؟
وبدأت الهجرة على نطاق واسع في منتصف خمسينيات القرن الماضي؛ بداية من جزر الهند الغربية ثم من الهند وباكستان، مع وجود وفرة في الوظائف الشاغرة في اقتصاد التوظيف الكامل للعمالة.
ونادرا ما كان موقف البريطانيين البيض تجاه هذه الظاهرة حماسيّا بشكل مباشر، ونادرا ما كان عدائيّا بشكل صريح، ولكن بشكل عام عدم الثقة في الغرباء كانت طاغية.
ولم تتمكن الجبهة الوطنية والأحزاب العنصرية الأخرى من إحداث تأثير كبير، وظهرت لندن ومدن أخرى على أنها مراكز متعددة الأعراق.
مع ذلك، حتى بين الطبقة العاملة البيضاء المؤيدة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، كان الموقف تجاه المهاجرين يتسم بدرجة من التسامح إلى حد كبير، رغم الجهود الدنيئة لبعض السياسيين الشعبويين.
وكان ذلك التسامح الواسع، إن لم يكن ثابتا على مر القرون، أعظم فضيلة لبريطانيا، ومن الإنصاف القول بأن زيادة التسامح كانت سببا في زيادة الذكاء العاطفي.