حظيت منطقة
الخليج العربي باهتمام متزايد من قبل الباحثين في مجالي "الجيواستراتيجيا"
(Géostratégie) و"الجيوسياسية"
(géopolitique)، وقد كثُرت
الأدبيات ذات العلاقة خلال الألفية الجديدة، بسبب التغيرات النوعية التي طالت بنية
النظام الدولي، وما انفكت تدفع في اتجاه إعادة صياغة فلسفته، وهندسة منظومة
مؤسساته، بُغية نزع الطابع المركزي الأوروبي والغربي عنه، وتحويله إلى نظام متعدد،
يسمح لكل الأطراف الدولية، بغض النظر عن اختلافاتها الحضارية والثقافية، بالمشاركة
الفعلية في اتخاذ قراراته وصنع سياساته.
فـ"الجيواستراتيجيا"، بحسب أصول تعريفها من قبل العميد البحري Pierre Celerier (1906-1978)، تُعنى
بـ"دراسة العلاقة بين المشاكل
الاستراتيجية والعوامل الجغرافية"، أي التأثيرات
الناجمة عن الجغرافيا في علاقتها باستراتيجية المكان أو الموقع. والحال أن المعني
هنا الخليج العربي، بحسبه مجالا حيويا، مؤثرا في التفاعلات الإقليمية والدولية.
كيف يمكن للجيواستراتيجيا، بوصفها حقلا معرفيا، المساعدة على فهم طبيعة التأثيرات
الممكنة والمحتملة للعوامل الجغرافية، وحمولاتها البشرية، والاقتصادية، والثقافية
والحضارية، لمنطقة الخليج العربي على التوازنات الإقليمية والدولية الراهنة؟ وهل
بإمكان الخليج العربي، في ضوء المخاض الذي يعيشه النظام الدولي، المساهمة إيجابيا
في تدبير أزمات النظام الدولي، وتيسير شروط انتقال أطرافه نحو بناء أفضل، يتيح للجميع
حظوظ المساهمة في إعادة صياغة فلسفته، وبناء مؤسساته المشتركة على قدر معقول من
التوازن، والتراضي، والاعتراف بالاختلاف؟ فمما يجعل مثل هذين السؤالين وغيرهما
مشروعين وملحين، دخول العالم مرحلة نوعية قوامها الجهر بعدم الاستمرار في قبول
"مركزيته الغربية"، والدعوة الصريحة إلى ضرورة تحويله إلى نظام تعددي،
يكون لكل القوى والمناطق الحضارية نصيب في التنظيم والتدبير والبناء الجماعي.
هل بإمكان الخليج العربي، في ضوء المخاض الذي يعيشه النظام الدولي، المساهمة إيجابيا في تدبير أزمات النظام الدولي، وتيسير شروط انتقال أطرافه نحو بناء أفضل، يتيح للجميع حظوظ المساهمة في إعادة صياغة فلسفته، وبناء مؤسساته المشتركة على قدر معقول من التوازن، والتراضي، والاعتراف بالاختلاف؟
تنطوي منطقة الخليج العربي على كل المقومات الفاعلة في الجيواستراتيجية الدولية،
كما لديها مجمل العوامل المؤثرة في تصورات الرؤية الجديدة للنظام الدولي. فمن جهة الموقع
الجغرافي وتأثيراته الاستراتيجية، يوجد الخليج العربي في عمق التقاطعات الدولية الرئيسة،
من جهة جنوب قارة آسيا، والجزيرة العربية غربا، وإيران شرقا، ومضيق هرمز وخليج
عُمان جنوبا، والعراق شمالا.
والحال أن أهمية الموقع لا تكمن في قيمته الاستراتيجية، بل في جغرافيته
السياسية أيضا، حيث تتوزع المنطقة على فضاءين جغرافيين متصلين اقتصاديا وسياسيا وطبيعيا،
هما: اليابسة المسماة "دول مجلس التعاون الخليج"، بمساحة تبلغ مليونين
و475 ألف كلم، وأخرى مائية ممثلة في السطح المائي، المسمى "الخليج العربي"،
وتقدر مساحته بـ 148 ألفا و28 كلم، وهو ممتد من شط العرب في الشمال الغربي إلى
مضيق هرمز في الجنوب الشرقي.
والحقيقة أن موقعا بهذه الأهمية الكبيرة لم يشكل عنصر قوة لبلدانه فحسب، بل
مثّل على الدوام شهية الطامعين المتطلعين للهيمنة على خيرات هذه المنطقة. وتُثبت الكتابات
التاريخية والسياسية، ومذكرات الرحالة الأجانب ويومياتهم، درجة الاهتمام التي حظي
به الخليج في جدلية النفوذ والصراع على أراضيه وثرواته الوطنية.
علاوة على قوة الموقع، تختزن منطقة الخليج العربي مقدرات طبيعية ذات قيمة استراتيجية
بالغة التأثير في العالم، يتصدرها النفط ومشتقاته، الذي يُمثل المصدر الأول للثروة
الوطنية، وقوام النهوض بالمجتمعات الخليجية. وقد شكل هذا المصدر، مرة أخرى، محفزا للقوى
الاقتصادية والمالية المهيمنة في العالم، حيث استحوذت شركاتها الكبرى ذات الصلة
بقطاع النفط (الشقيقات السبع) على الإنتاج وسقف الاستهلاك والتسويق، وظلت لعقود (حتى
العام 1973) ذات الكلمة الفصل في استثمار الثروة النفطية لبلدان الخليج العربي.
يتعرض الخليج العربي لموجات ضغط وتأثير على استقلالية قراراته وسيادة سياساته، ولأنه في مفترق طرق تيارات حضارية وسياسية متجاذبة، وستتقوى جاذبيتها في المستقبل. لذلك، سيكون من الحكمة والفعالية أن يحصل وعي حقيقي بالحظوظ المرتسمة أمام بلدانه، والعمل على استثمارها بشكل عقلاني للمحافظة على استقلال وسيادة المنطقة
يمكن لهذه العناصر وغيرها أن تشكل عامل قوة لمنطقة الخليج العربي، أو
بالعكس، يمكن أن تكون تأثيراتها سلبية على مكانتها في العالم، فالأمر مرتبط بشكل
عميق بمدى قدرة الخليج العربي واستعداده للتحكم في عناصر قوة موقعه الجغرافي، وما
يختزن من ثروات وإمكانيات لبناء القوة، وصيانتها، وضمان ديمومتها في عالم مضطرب
ومتوتر باستمرار.
لذلك، يتعرض الخليج العربي لموجات ضغط وتأثير على استقلالية قراراته وسيادة
سياساته، ولأنه في مفترق طرق تيارات حضارية وسياسية متجاذبة، وستتقوى جاذبيتها في المستقبل.
لذلك، سيكون من الحكمة والفعالية أن يحصل وعي حقيقي بالحظوظ المرتسمة أمام بلدانه،
والعمل على استثمارها بشكل عقلاني للمحافظة على استقلال وسيادة المنطقة، وتثمين دورها
في المحافظة على توازن السلم والأمن الدوليين، وفي المقابل السعي إلى تجنب المخاطر،
أو على الأقل ترشيد الخسائر الناجمة عنها.
فمن الواضح أن العالم يعيش توترا حقيقيا، تبدو مؤشراته القوية في الحرب
الجارية في أوروبا بين روسيا وأوكرانيا، والحال أنها حرب بين منظومتين متنازعتين،
هما الغرب بكل دوائره، وروسيا ومعها الصين ودول مساندة لها. والحقيقة أنها حرب
وجود واستمرار وديمومة، ولا يبدو في الزمن المنظور من الغالب أو المنتصر فيها، لا سيما
وأن أطرافها تمتلك القوة النووية، وتمتلك كذلك القدرة على إيقاف قرارات الأمم المتحدة
وتعطيلها (مجلس الأمن).
فمن هنا، تبدو ضرورة وعي الخليج العربي بمكانته الجيواستراتيجية، وضرورة
الاشتغال على استثمارها في اتجاه ضمان استقلاله وسيادته، والحيلولة دون تحويل
بلاده إلى أرض للحروب والصراعات بالوكالة.