في تحرك مباشر لا تخطئه دبلوماسية، تواجَه المتحدث باسم الرئاسة التركية
إبراهيم قالن ومستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان في أمر الاستفزازات
اليونانية في جزر
بحر إيجة والمتوسط، ولا يمكن أن تصل الأمور إلى هذه المواجهة إلا
أن يكون الكيل قد طفح مع أنقرة.
لماذا تحرك اليونان أوراق ملف جزر إيجة الآن؟
في مقال "
عواصف إيجة التي هبت على ربيع تركيا"، سألنا هذا
السؤال الذي توسع مداه الآن ليشمل جزر البحر المتوسط أيضا، والمشمولة باتفاقات
دولية تمنع تسليحها، وعندما يتم تسليح تلك الجزر، فيعني ذلك أن زيلينسكي جديد يصنع
في منطقة أخرى في القارة العجوز، وأن خطة جديدة لزعزعة أمن القارة تنفذ بخطى
حثيثة، تكتيكياً تستهدف
تركيا، واستراتيجياً المقصود منها أوروبا.
على المستوى التكتيكي فإن الحالة الفاعلة لأنقرة تشير إلى وجوب وقف هذا
النمو السياسي والعسكري لتركيا قبل أن تصبح غولاً لا يمكن التصدي له، كما يرى
الغرب، وقد أفصحت واشنطن عن تلك النوايا. وفي ما يشبه خارطة طريق للتخلص من تركيا أردوغان
سياسياً، وضعت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية ما اعتبرته نهاية لأزمات
الغرب في الفترة الأخيرة، والتي تتمثل في هذا الصعود المستمر لأنقرة. فحتى قاعد إنجرليك
نفسها أصبحت عبئا على أمريكا والناتو، إذ يرى نائب مستشار الأمن القومي الأمريكي
في عهد جورج بوش، جون هانا، أن تركيا تسير ببطء، ولكن بشكل مؤكد أن
تركيا أصبحت عبئا على الناتو، وسيأتي اليوم الذي سيضطر فيه صانعو القرار الأمريكيون
للسؤال عن كيف يمكن التعامل مع حليف للناتو بات لا يمكن ترويضه؟!
الحالة الفاعلة لأنقرة تشير إلى وجوب وقف هذا النمو السياسي والعسكري لتركيا قبل أن تصبح غولاً لا يمكن التصدي له، كما يرى الغرب، وقد أفصحت واشنطن عن تلك النوايا. وفي ما يشبه خارطة طريق للتخلص من تركيا أردوغان سياسياً، وضعت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية ما اعتبرته نهاية لأزمات الغرب في الفترة الأخيرة، والتي تتمثل في هذا الصعود المستمر لأنقرة
فتجميع تركيا لأوراق الضغط في كل الملفات المؤثرة والفاعلة فيها جعلتها
تفرض كلمتها في كثير من القضايا، لا سيما أنها باتت تستفيد من كل فرصة تتاح لها من
أجل جني المكاسب واصطياد الخصوم، أو حتى تسجيل هدف في دول كانت ترى في نفسها آمراً
على مر العقود. كما أن حراك أنقرة لإفساد تحالفات شرق المتوسط بمحاولة تصفير
المشاكل مع كل من تل أبيب والقاهرة، وتنسيق المواقف مع إيطاليا مستفيدة من التباعد
النسبي للأخيرة مع فرنسا الداعم بقوة لكل تكتل يقف ضد مصالح تركيا، والذي جعل تركيا
تتحرك بروية في هذا الملف، وهو ما ناقشناه في مقال "
عندما أسكتت أنقرة
أنواء شرق المتوسط" لتبطل مفعول المفخخات وتنزع فتيل القنابل حتى تتمكن
من تحصيل نصيبها الذي تراه مشروعا في غاز شرق المتوسط بعد محاولات قوية ومستمرة
لإقصائها، هو ما أربك اليونان ومن يقف وراءها، وجعلها تحرك الوضع في كل من إيجة
والمتوسط.
تحركات أمريكية من وراء الستار
إذا كان لقاء المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن ومستشار الأمن
القومي الأمريكي جيك سوليفان قد تطرق إلى التعاون المشترك في مجال الصناعات
الدفاعية والجهود الدبلوماسية لوقف الحرب الدائرة في أوكرانيا، في أقرب وقت ممكن
وفق القانون الدولي، وعضوية فنلندا والسويد في حلف شمال الأطلسي، إلا أن هذه اليد
التي تُمد من أجل التعاون تزرع السلاح في الجزرة المشمولة باتفاق عدم التسليح في
المتوسط.
فبحسب التقارير الأمنية فإن اليونان مستمرة في شحن المركبات المدرعة التي
تبرعت بها الولايات المتحدة الأمريكية إلى الجزر في ايجة والمتوسط، ورصدت طائرات
بدون طيار تركية الشحنات غير القانونية للولايات المتحدة المصدرة إلى اليونان
والمنقولة إلى الجزر منزوعة السلاح.
وفي تحد واضح اعترف وزير الدفاع اليوناني بتسليح الجزر منذ عدة أشهر، ما
يؤكد أن اليونان مستمرة منذ فترة في تسليح تلك الجزر، لكن الجديد في الأمر أن
الجزر الأقرب صارت تشكل تحديا لتركيا وبأيد أمريكية، صاحبة اليد الأخرى للتعاون مع
تركيا. وإذا ما وضعنا الصور التي التقطتها المسيرات التركية للبرمائيات الأمريكية
مع خطاب وزير الدفاع اليوناني بأن بلاده أصبحت أكبر قوة برمائية وصاحبة أكبر أسطول
برمائي في البحر الأبيض المتوسط، وإن كانت التصريحات للاستهلاك الشعبي، فإنها تكشف
عن إصرار يوناني مدفوع بغرض أمريكي، بهدف إشغال تركيا واستهلاك قدراتها في معارك
أرادت من خلال الاتفاقيات وقف النزيف فيها.
على المستوى الاستراتيجي فإن التحركات الأمريكية والدفع باليونان لمواجهة تركيا تهدف لما هو أبعد من تركيا، إذ أن أوروبا المتمردة تحتاج إلى عصا تروضها
التحركات الأمريكية قرأتها الإدارة التركية مبكراً، ودفعت الرئيس أردوغان
إلى الحديث عن إعادة الحديث عن لااتفاقية التي بموجبها استحوذت اليونان على الجزر
الأقرب جغرافيا للسواحل التركية، هذه الاتفاقية التي وقعت في فترة لا يمكن القبول
بها في الوقت الحاضر. وفي المقابل، نشرت اليونان 16 خريطة لتبرير وجودها في بحر
إيجة والمتوسط، في محاولة منها إلى إثبات عدوان تركيا السياسي من خلال ادعاءات
أحقيتها في الجزر، وإن كان الأمر بالأساس يكمن في خرق اليونان لاتفاق عدم تسليح
الجزر وتهديد الأمن القومي التركي، حيث السلاح المزروع والذي يبلغ مداه إلى عمق
تركيا.
أوروبا هدف آخر لأمريكا
على المستوى الاستراتيجي فإن التحركات الأمريكية والدفع باليونان لمواجهة
تركيا تهدف لما هو أبعد من تركيا، إذ أن أوروبا المتمردة تحتاج إلى عصا تروضها،
ولعلها كانت "
أوكرانيا حرب
الفرص"، وهو ما نقشناه فيما يخص أمريكا في الجزء الثاني من هذه السلسلة تحت
العنوان السابق. ونضيف عليه بأن أمريكا حاولت من خلال إعلامها وحلفائها الإقليميين
والأوروبيين اتخاذ تركيا فزاعة تخوف بها أوروبا ومحيط تركيا الإقليمي، مستفيدة في
ذلك من سياسة تركيا التي تلعب على المتناقضات وتستفيد منها وصولا لامتلاك أوراق
لعب، وفسرتها أمريكا وحلفاؤها الغربيون على أنها سياسة غير مأمونة يلعبها حليف
مراوغ، فيما رأتها أنقرة محاولة لإثناء الحلفاء عن سياسة التبعية التي تريد أن
تعاملها بها. فعندما سحبت أمريكا منظومة "باتريوت" الدفاعية، ذهبت أنقرة
إلى شراء منظومة "أس 400" الروسية.
هذه الفزاعة جعلت الصحافة والإعلام الغربي لا يفوّت يوما إلا ويتحدث عن
القلق من السياسات التركية، ومستدعياً
الصراع التاريخي بين أوروبا والدولة
العثمانية، ما جعل البعض يشط إلى حد وصف الرئيس التركي وحزبه بالعثمانيين الجدد.
وهي حالة تغذيها أمريكا للاستفادة منها، في إطار سعيها لخلق فزاعة على غرار ما
تفعل مع العرب. ولعل التماهي الاقتصادي بين أوروبا وروسيا خلال الأعوام العشرين
الماضية رشح تركيا لتقوم بهذه المهمة، لا سيما مع اختلافها دينيا مع المجموعة
الأوروبية.
ولعل الخطر الثاني والذي استفادت منه أمريكا هو غزو روسيا لأوكرانيا، والذي
كان رد فعله عقوبات أفضت إلى قطع روسيا جزئياً النفط والغاز عن أوروبا قبل تفجير
خط نورد ستريم المشبوه، الذي يجب البحث عن المستفيد منه، هذه الضربة التي من شأنها
أن تعيد روسيا إلى مربع العدو بعد أن صهرتها العولمة الاقتصادية في محيطها
الأوروبي، وهو ما لا يصب في مصلحة أمريكا التي تريد أن تبيع نفطها وغازها، حتى لو
كلف ذلك المشترين أضعاف نقله.
في ظل كل هذه التداعيات، وفي ظل محاولات الاستفادة الأمريكية من الحالة في البحرين المتوسط وإيجة، بل وخلق الظروف التي من شأنها أن تستفيد منها، هل يمكن أن تدخل تركيا في حرب مع اليونان مدفوعة بهذه الاستفزازات اليونانية ومن ورائها الدعم الأمريكي والتحريض الأوروبي؟
هل ستكون إيجة والمتوسط وحرب تركيا القادمة؟
في ظل كل هذه التداعيات، وفي ظل محاولات الاستفادة الأمريكية من الحالة في
البحرين المتوسط وإيجة، بل وخلق الظروف التي من شأنها أن تستفيد منها، هل يمكن أن
تدخل تركيا في حرب مع اليونان مدفوعة بهذه الاستفزازات اليونانية ومن ورائها الدعم
الأمريكي والتحريض الأوروبي؟
سؤال تمكن الإجابة عليه من خلال قراءة سلوك الإدارة التركية خلال العام
الماضي، فالرئيس أردوغان وصف الوجود اليوناني على تلك الجزر بالاحتلال، ولوّح
بالحرب خلال زيارته منذ شهر في مهرجان "تكنوفيست البحر الأسود 2022"
لتكنولوجيا الطيران والفضاء في ولاية سامسون في شمال تركيا، حين قال: "انظروا
إلى التاريخ.. إذا تماديتم أكثر فسيكون ثمن ذلك باهظاً.. لدينا جملة واحدة
لليونان: لا تنسوا كيف طردناكم من إزمير"، في إشارة إلى الحرب التركية ضد
القوات اليونانية في الفترة من 1919 إلى 1922، قبل أن يستطرد: "لا نعترف
باحتلالكم للجزر، سنقوم بما يلزم عندما يحين الوقت.. يمكننا أن نأتي على حين غرة
ذات ليلة".
وإذا وقفنا عند عبارة "عندما يحين الوقت"، نفهم أن الوقت الحالي
على الأقل ليس مناسباً لتركيا التي تمر، كما العالم، بظروف اقتصادية ليست سهلة،
كما أن الوضع الإقليمي والدولي لا يسمح الآن لهذه المغامرة، ومحاولة أردوغان فتح جبهة
في سوريا تريد أمريكا التخفيف عليها بفتح جبهة جديدة في إيجة والمتوسط، تجعله يفكر
كثيراً، إلا أنه في النهاية إذا ما وصلت الأمور كما تريد أمريكا إلى حرب عالمية
ثالثة، فإن الوقت أظنه سيحين بينما يختلط الحابل بالنابل.
لكن كلمة أخيرة لقادة أوروبا، والذين أظنهم قد استفاقوا لمخططات أمريكا..
الكل خاسر من دفع العالم إلى الهاوية، إلا أمريكا، وأظن أن اقتصادات أوروبا لن
تتحمل مشروع مارشال جديدا يعطي النفس لأمريكا العجوز ويدخل أوروبا إلى غرفة
الإنعاش.