بعد
إعلان الرئيس التونسي قيس سعيد عن إجراءاته في الخامس والعشرين من تموز/ يوليو 2021،
قمنا بنحت مصطلح "الاستحالة المزدوجة" لوصف "السقف" الذي
سيتحرك تحته كل الفاعلين السياسيين، بصرف النظر عن اختلافاتهم في توصيف
"الإجراءات" بين معارضٍ يصفها بالانقلاب ومساندٍ يعتبرها "تصحيحَ
مسارٍ".
وقد
قصدنا بالاستحالة المزدوجة عدم قابلية المشهد التونسي للسيناريو التركي (خروج
الشعب للدفاع عن المسار الديمقراطي ومواجهة "الانقلاب" دفاعا عن النخب
الحاكمة بإسلامييها وعلمانييها)، وعدم قدرة النظام الجديد على استنساخ السيناريو
المصري (الدخول في مواجهة دموية ضد "الإسلاميين" وهم هنا حركة النهضة).
ولا شك في أن تلك "الاستحالة المزدوجة" قد كانت -مع عوامل داخلية
وخارجية أخرى- من أهم العناصر التي حكمت إعادة هندسة المشهد السياسي، وحددت موازين
القوة بين منظومة الحكم ومعارضتها إلى أيامنا هذه.
بتواطؤ
مكشوف من أهم ممثلي "الديمقراطية التمثيلية" في "العائلة
الديمقراطية"، وبإسناد نشط من الإعلام والمجتمع المدني والمركزية النقابية
المتحالفة مع ورثة المنظومة القديمة، وبرعاية من محور "الثورات المضادة"
الذي تقاطعت مواقف الرئيس معه في مسألة الإسلام السياسي داخليا وخارجيا، استطاع السيد
قيس سعيد أن يدفع بتناقضات المنظومة الحاكمة وأزماتها الدورية إلى الأقصى.
أثبتت كل "المحطات التاريخية" التي عاد الرئيس فيها إلى الشعب (الاستشارة، الاستفتاء، جمع التزكيات للمترشحين إلى مجلس النواب) وجود هوة سحيقة بين دعوى التمثيل الحصري للإرادة الشعبية وبين واقع شعبية الرئيس ومشروعه السياسي. كما زاد في تهرئة "الشرعية" عجزُ الرئيس عن الوفاء بوعوده "التصحيحية" في المستوى الاقتصادي، والعجز عن إسناد تلك "الشرعية الهشة" بمشروعية الإنجاز
ورغم
مخالفة أغلب الإجراءات لنص الدستور، حرص الرئيس -في المرحلة الأولى- على شرعنة
إجراءاته باعتبارها مشروعا للإصلاح من داخل الدستور وفي إطار "حالة
الاستثناء" المؤقتة. ومع صدور المرسوم 117 المؤرخ في 22 أيلول/ سبتمبر 2021،
كان واضحا أن الرئيس سيحوّل واقعيا حالة الاستثناء إلى "مرحلة انتقالية"
تمهّد للتأسيس الثوري الجديد أو الجمهورية الجديدة. وهو ما اتضح عندما طرح الرئيس
خارطة الطريق للخروج من "حالة الاستثناء" بعيدا عن أي حوار وطني شامل:
الاستشارة الوطنية الإلكترونية، الاستفتاء على الدستور الجديد، الانتخابات
البرلمانية المبكرة بقانون انتخابي جديد.
رغم
أن "أزمة الشرعية" قد بدأت مباشرة بعد الإعلان عن الإجراءات (بحكم رفض
طيف كبير من التونسيين لها) وتزايدت إثر صدور المرسوم سيئ الذكر (المرسوم 117)
الذي يعطي للرئيس صلاحيات تنفيذية وتشريعية مطلقة وخارج أية مساءلة أو محاسبة، فإن
تلك الأزمة قد ترسخت بعد الانطلاق في تفعيل "خارطة الطريق الرئاسية"
بالتوازي مع الهجمة الممنهجة على كل المؤسسات الدستورية والأجسام الوسيطة، وتوظيف
منطق التعليمات الأمنية ومؤسسة القضاء العسكري لإدارة الخلافات السياسية.
فقد
أثبتت كل "المحطات التاريخية" التي عاد الرئيس فيها إلى الشعب
(الاستشارة، الاستفتاء، جمع التزكيات للمترشحين إلى مجلس النواب) وجود هوة سحيقة
بين دعوى التمثيل الحصري للإرادة الشعبية وبين واقع شعبية الرئيس ومشروعه السياسي.
كما زاد في تهرئة "الشرعية" عجزُ الرئيس عن الوفاء بوعوده "التصحيحية"
في المستوى الاقتصادي، والعجز عن إسناد تلك "الشرعية الهشة" بمشروعية
الإنجاز (ارتفاع التضخم، ارتفاع المديونية العمومية، غياب المحاسبة لرموز الفساد
الحقيقيين، الخضوع لإملاءات صندوق النقد الدولي، تواصل الاقتصاد الريعي، شح المواد
الأساسية، انخفاض قيمة الدينار، التوجه لبيع بعض المنشآت العمومية وتسريح الموظفين
للتخفيف من النفقات العمومية.. الخ).
يبدو أن مشروع الرئيس لم يستقطب إلا القليل من الشخصيات الاعتبارية ذات المصداقية الشعبية، إذ لا يمكن ربط أغلب رموز مشروعه بأي ماض نضالي زمن المخلوع أو قبله، كما لا يبدو أن الرئيس الذي راهن على الشباب قد استطاع إقناعهم بالانخراط في خارطة طريقه. أما "النخب الحليفة" فإن الكثير منها قد اتخذ مسافة نقدية من مشروع الرئيس بعد صدور المرسوم 117 وضرب المؤسسات الدستورية
لقد
أكدت مسألة التزكيات اللازمة للترشح للانتخابات البرلمانية القادمة وجود أزمة
عميقة للنظام الحاكم في تونس (لم يصل عدد المترشحين إلى 1000 في حين بلغ عدد
المترشحين في انتخابات 2019 أكثر من 15000). وهي أزمة عميقة تتجاوز مسألة العزوف
الشعبي عن الشأن السياسي لتتصل بما أسماه الرئيس وأنصاره بـ"النخب
البديلة" من جهة، وتتعلق من جهة ثانية بالنخب الحليفة.
فمن
جهة "النخب البديلة"، يبدو أن مشروع الرئيس لم يستقطب إلا القليل من
الشخصيات الاعتبارية ذات المصداقية الشعبية، إذ لا يمكن ربط أغلب رموز مشروعه بأي
ماض نضالي زمن المخلوع أو قبله، كما لا يبدو أن الرئيس الذي راهن على الشباب قد
استطاع إقناعهم بالانخراط في خارطة طريقه. أما "النخب الحليفة" فإن
الكثير منها قد اتخذ مسافة نقدية من مشروع الرئيس بعد صدور المرسوم 117 وضرب
المؤسسات الدستورية، وحتى أولئك الذين ما زالوا يساندونه -بمنطق رد الفعل
البافلوفي، أي نكاية في حركة النهضة- فإن أغلبهم قد رفض الترشح للانتخابات البرلمانية
(مثل أمين عام حركة الشعب زهير المغزاوي، ومنجي الرحوي؛ اليساري المعروف، والنائبة
السابقة مباركة عواينية؛ أرملة الشهيد محمد البراهمي).
إن
أزمة الحكم في تونس ليست إلا وجه العملة الذي نجد قفاه في أزمة المعارضة، وهما
"معا" يُشكلان أزمة الحقل السياسي التي ليست في جوهرها إلا أزمة
الأساطير التأسيسية للدولة- الأمة، ومن بعدها أزمة إدارة الثورة بمنطق "استمرارية
الدولة".
فرغم
فقدان الرئيس لجزء هام من قاعدته الشعبية، ورغم خسارته لنسبة معتبرة من الدعم
النشط للنخب، فإن المعارضة تبدو عاجزة عن أن تُمثّل تهديدا وجوديا للمنظومة
الحاكمة. ولا يعود هذا العجز في رأينا إلى صلابة ركائز سلطة الرئيس وضعف الضغط
الخارجي؛ بقدر ما يعود إلى عبثية استراتيجيات المعارضة من جهة علاقاتها البينية،
ومن جهة استعادة مصداقيتها أمام الرأي العام.
يبدو أن أزمة الشرعية التي يمر بها النظام التونسي لن تدفع به إلى القيام بمراجعات جذرية مهما كانت نسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية القادمة. فالرئيس غير معني بقياس شعبيته واقعيا، وهو يمتلك -كالعادة- ألف تبرير لشيطنة الآخرين و"أَمثلة" نفسه ومناصريه، وتحويل الانتكاسة إلى "ملحمة" و"حدث تاريخي"
إن
الاستهداف الممنهج لكل الأجسام الوسيطة واقعيا ودستوريا لم يدفع بالأحزاب إلى مغادرة
المربعات التقليدية للخلاف "الهوياتي"، وكأنها لم تجد فيه سببا كافيا
لتجاوز منطق النفي المتبادل. كما أن "السمعة السيئة" للعديد من وجوه
المعارضة، خاصة رموز التوافق لم تجعل الأحزاب المعارضة تفكر في تصعيد نخب قيادية
جديدة وتغيير خطاباتها السياسية (ولا يهم هنا أن يكون الموقف الشعبي عن حق أو عن
باطل، فهذا أمر غير مهم لأن "الحقيقة" هي ما يؤمن به الناخبون). إننا
أمام معطيات تجعل المواطن يرى في المعارضة مجرد تدوير للوجوه القديمة وتمهيدا
للعودة إلى الوراء، ولا يرى فيها بديلا ذا مصداقية للرئيس ومشروعه وتبشيرا بمستقبل
أفضل.
قياسا
على مخرجات الاستشارة الوطنية والاستفتاء على الدستور، يبدو أن أزمة الشرعية التي
يمر بها النظام التونسي لن تدفع به إلى القيام بمراجعات جذرية مهما كانت نسبة
المشاركة في الانتخابات التشريعية القادمة. فالرئيس غير معني بقياس شعبيته واقعيا،
وهو يمتلك -كالعادة- ألف تبرير لشيطنة الآخرين و"أَمثلة" نفسه ومناصريه،
وتحويل الانتكاسة إلى "ملحمة" و"حدث تاريخي".
أما
المعارضة فإنها ستستمر في انقساماتها وفي تعميق خلافاتها البينية، كما ستعتبر فشل
الانتخابات دليلا على عدم شرعية الرئيس وتصحيح المسار برمته. ولكنّ هذه المعارضة
-على الأرجح- ستظل عاجزة عن تجاوز اللحظة السالبة (التشكيك في شرعية الرئيس
والاحتجاج الميداني على سياساته) إلى اللحظة الموجبة (تقديم بديل سياسي عقلاني وذي
مصداقيةٍ عند عموم المواطنين، وهو ما سيفرض على القوى الإقليمية والدولية المؤثرة
في الشأن التونسي أن تراجع سياساتها في تونس، بما في ذلك إملاءات صندوق النقد
الدولي ومطلب التطبيع الذي يصاحبه بصورة غير معلنة).
twitter.com/adel_arabi21