رغم عجز نظام الحكم في
تونس عن توفير
الحاجيات الأساسية للمواطنين وتحييد "الغرف المظلمة" المتحكمة في "مسالك
التجويع والترويع" والمتسببة في تفقير الشعب وحرمانه من حقوقه
الاقتصادية، ورغم
تدهور التصنيف السيادي لتونس وتقلص مخزونها من العملة الصعبة، وارتفاع عجز
الميزانية في ظل تعثر المفاوضات مع الجهات المانحة/ الناهبة، يبدو أن الرئيس قيس
سعيد يتجه نحو تأكيد هيمنته السياسية بتفعيل مقاربته الاقتصادية، التي سمّاها
الأستاذ رضا شهاب المكي (المعروف برضا لينين) بـ"النظام الاقتصادي التشاركي
التضامني"، وذلك بتأسيس "الشركات الأهلية" وتوفير موارد مالية
جديدة للدولة عبر مرسوم" الصلح الجزائي" مع الأشخاص الطبيعيين
والمعنويين، المتورطين في جرائم مالية قبل الثورة وبعدها.
بصرف النظر عن الجدل المتواصل حول
شرعية "تصحيح المسار" برمته، فإن مرسوم "الصلح الجزائي"
والمرسوم المتعلق بـ"الشركات الأهلية"، يجسدان غياب أي مقاومة حقيقية للمراسيم
الرئاسية، ويكرسان نزعة الاستفراد بالرأي وتهميش كل المؤسسات، بما فيها تلك المعينة
من طرف الرئيس
قيس سعيد. وآية ذلك موقف المجلس الأعلى للقضاء الذي رفض بصورة
"محتشمة" إقرار مرسوم الصلح الجزائي بحكم وجود إخلالات كثيرة؛ لعل أهمها
تلك التي "تعلقت بإدخال إصلاحات جوهرية طالت ليس فقط المنظومة القضائية في
مستوى الأقضية الثلاثة، وإنما شملت أيضا القانون المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء في
الجانب المتعلق خاصة بصلاحياته في إدارة المسارات الوظيفية للقضاة، والإشراف عليها
والسهر على كفالة الضمانات المقررة لفائدتهم بهذا العنوان".
لمّا كان "التأسيس الثوري الجديد" يهدف أساسا -حسب مشروع الرئيس- إلى تحقيق العدالة الاجتماعية عبر الإنصات إلى "الإرادة الشعبية" وتجسيدها في تشريعات، فإن إعادة هندسة المشهد السياسي تقتضي بالضرورة إعادة هندسة المشهد الاقتصادي
ونحن لسنا هنا بوارد نقد موقف
المجلس للقضاء، الذي لا يستطيع موقفه أن يغير شيئا من سلطة المراسيم المحمية
بالدستور ذاته، ولكننا فقط نشير إلى أن بناء "اقتصاد سياسي" جديد يقتضي
المُضي قُدما في سياسة تهميش المؤسسات الدستورية وغيرها، بمن في ذلك "الشركاء
الاجتماعيون" ومناصرو تصحيح المسار.
وبحكم عدم تخصصنا في مجال الاقتصاد،
فإننا نقصد بالاقتصاد السياسي علاقةَ الاقتصاد وتوزيع الثروات بالتشريعات التي
تسنّها الدولة أو المنظومة الحاكمة. ولمّا كان "التأسيس الثوري الجديد"
يهدف أساسا -حسب مشروع الرئيس- إلى تحقيق العدالة الاجتماعية عبر الإنصات إلى
"الإرادة الشعبية" وتجسيدها في تشريعات، فإن إعادة هندسة المشهد السياسي
تقتضي بالضرورة إعادة هندسة المشهد الاقتصادي، أي تقتضي مقاربة تنموية "بآليات
وقوانين مبادئ جديدة"، كما صرّح رضا شهاب المكي.
ولكننا إن نظرنا في المرسوم المنظم
لعمل الشركات الأهلية أو للصلح الجزائي، فإننا سنتساءل عن مدى "جدّة" تلك
المقاربة التنموية وفعاليتها في ظل المحافظة على الخيارات الكبرى للدولة، سواء في
علاقتها بالرأسمال "الوطني" (الاقتصاد الريعي)، أو بالرأسمالية العالمية
ومؤسساتها المالية. فما قد يسميه منظرو مشروع الرئيس وأنصاره بـ"توافق بين
القطاع العام والقطاع الخاص"، هو في الحقيقة مجرد إعادة تسمية أو استيلاء على
أطروحات سابقة صدرت -في أغلبها الأعم- عمن يعدهم الرئيس أعداء الشعب والثورة.
ما قد يسميه منظرو مشروع الرئيس وأنصاره بـ"توافق بين القطاع العام والقطاع الخاص"، هو في الحقيقة مجرد إعادة تسمية أو استيلاء على أطروحات سابقة، صدرت -في أغلبها الأعم- عمن يعدّهم الرئيس أعداء الشعب والثورة
فالصلح الجزائي كان أحد مبادرات
"المنظومة الفاسدة"، ولن يكون للرئيس من فضل -في صورة نجاحه- إلا تفعيل
تلك المبادرة وضمان مداخيل إضافية لميزانية الدولة. أما المشاريع الأهلية، فإنها
كما قال أحد الخبراء الاقتصاديين، مجرد مزج بين تجربتي التعاضد ومجلة الشركات
التجارية.
إننا أمام رؤية اقتصادية أو سردية
سياسية "هجينة"، تتراكب فيها الخلفية اليسارية الاشتراكية وإكراهات
الاقتصاد الريعي، ضمن بنية سلطوية تدعي "التأسيس الثوري الجديد"، وهي في
جوهرها مجرد بحث عن متنفس جديد للأزمة البنيوية للاقتصاد التونسي، بل للدولة-الأمة، وما يحكمها من خيارات ثقافية واقتصادية وسياسية كبرى منذ الاستقلال الصوري عن
فرنسا.
فأي معنى للتأسيس
"الجديد" في ظل المفاوضات مع الجهات المانحة والخضوع لإملاءاتها التي لن
يكون المتضرر الأكبر منها إلا الفئات الأكثر هشاشة؟ وأي معنى للتأسيس "الثوري"
في ظل مقاربة إصلاحية في سقفها الأعلى؟ بل أي معنى للتأسيس أصلا في ظل هيمنة النخب
الشيو- تجمعية على دواليب الحكم، تلك النخب التي كانت هي النواة الصلبة لمنظومات
الحكم المتعاقبة قبل الثورة وبعده؟ وأي معنى للتأسيس في ظل بقاء التشريعات الريعية
التي تجعل أغلب القطاعات ذات المردودية المالية العالية حكرا على بعض العائلات؟
إننا أمام رؤية اقتصادية أو سردية سياسية "هجينة"، تتراكب فيها الخلفية اليسارية الاشتراكية وإكراهات الاقتصاد الريعي، ضمن بنية سلطوية تدعي "التأسيس الثوري الجديد"، وهي في جوهرها مجرد بحث عن متنفس جديد للأزمة البنيوية للاقتصاد التونسي،
ختاما، فإن الحكم على المشروع
الاقتصادي للرئيس، يقتضي العودة إلى "التأسيس الثوري الجديد" في المستوى
السياسي. فرغم نجاح الرئيس في إعادة هندسة المشهد "الحزبي" والمؤسساتي،
ورغم نجاحه في دسترة النظام الرئاسوي، فإننا لا نسلّم له ولأنصاره بأن ما فعله هو
عملية تأسيس ثورية. فـ"تصحيح المسار" هو في الحقيقة مجرد عملية تعديل
ذاتي قامت بها النواة الصلبة للمنظومة الحاكمة بضوء أخضر دولي وإقليمي، وبدعم كبير
من اللوبيات المالية المتنفذة (خاصة البنوك الخاصة)، والأجهزة الحاملة للسلاح وأغلب
مكونات المجتمع المدني.
وسيكون من التناقض أن نتحدث عن
"ثورية" تدعمها النواة الاقتصادية والإدارية والنقابية والمدنية للمنظومة
"القديمة"، كما سيكون من اللغو أن نتحدث عن مقاربة تنموية أو اقتصادية
"ثورية"، تعجز عن المساس بالتشريعات الريعية في الداخل، وتواصل سياسة
الارتهان لإملاءات الجهات المانحة/ الناهبة في علاقتها بالخارج. وهو ما يعني أن
"التأسيس الجديد" ليس في جوهره السياسي والاقتصادي إلا
"مجازا" أو استعارة من الاستعارات التي تحتاجها النواة الصلبة لمنظومة
الحكم، كي تُشرعن مصالحها المادية والرمزية في هذه المرحلة التاريخية، كي تحمي
مصالح الرأسمالية العالمية، التي تظل هي المتحكم الحقيقي في "الاقتصاد
السياسي" التونسي، رغم كل الادعاءات السلطوية ومزايدات المعارضة.
twitter.com/adel_arabi21