موسم كأس العالم لكرة القدم موسم للمتعة والترويح والتنافس في كل البلدان، وهو
يتفوق في ذلك على كل المواسم الرياضية الكونية، لكنه في
تونس موسم يخيف المواطن
الحائر في تدبير قوته.
لقد عودت الحكومات التونسية ومنذ زمن طويل مواطنيها بالغدر أثناء لعبة
الكرة، فكثيرا ما استفاق الناس بعد مباراة مشهورة وخاصة بعد مشاركة جادة للفريق
الوطني؛ على زيادة في ثمن المواد الحيوية. وإذا كان هذا حال المواطن مع حكومات
مستقرة فكيف الأمر بحكومة الانقلاب الفاقدة لكل شرعية والعاجزة عن
تمويل الموازنة،
والتي رغم عجزها لم تتوقف عن احتقار مواطنيها ومعاملتهم معاملة السوائم؟ نكتب عن
حكومة منافقة وعن جمهور يعيش حربا أهلية تحت عناوين كروية ولا ينتبه لمآسيه.
انطلقت الحرب الكروية في تونس
لا أزعم التخصص في الشؤون الرياضية، لكن حروب الكرة تقتحم كل مكان. الحرب
الأشرس هي حرب الأندية المحلية حول قائمة اللاعبين المشاركين في كأس العالم،
بالنظر إلى أن تونس بلد مشارك في الدورة. عائدات المشاركة في الدورة توزعها جامعة
(اتحاد)
كرة القدم بين الفرق بحسب مشاركة لاعبيها في الفريق، لذلك نشبت حروب بينية
حول قرارات المدرب الوطني. والغاضبون أكثر من المتحمسين للتشكيلة، وسينعكس هذا
بشكل مباشر على تقييم الأداء ويظهر في التعليقات على وسائل التواصل بما يجعل
المتابعة نوعا من المشاركة في الحرب.
عودت الحكومات التونسية ومنذ زمن طويل مواطنيها بالغدر أثناء لعبة الكرة، فكثيرا ما استفاق الناس بعد مباراة مشهورة وخاصة بعد مشاركة جادة للفريق الوطني؛ على زيادة في ثمن المواد الحيوية. وإذا كان هذا حال المواطن مع حكومات مستقرة فكيف الأمر بحكومة الانقلاب الفاقدة لكل شرعية والعاجزة عن تمويل الموازنة
قائمة المشاركين في الفريق الوطني كانت ولا تزال موضوع صراع سياسي غير كروي
وغير رياضي، وقد كشفت في كل موسم الانقسام والصراع الجهوي التاريخي بين الجهات
السياسية وتعبيراتها الكروية. وأهم علاماته فريق الساحل (النجم) وفريق العاصمة
(الترجي)، حيث الأقوى سياسيا يفرض لاعبيه في المنتخب، بقطع النظر عن كفاءتهم وعن
وجود كفاءات رياضية خارج الفريقين. وحتى المدربون الأجانب كانوا يجدون أنفسهم تحت
ضغط عال ومكبلين
بقرارات سياسية، وقليل منهم من صمد أمام الضغط. وكم من موهبة
رياضية طمست نتيجة هذا الصراع لأنها لم تجد مدخلا للفريق الوطني.
يجهل الجمهور الرياضي هذه الخلفية الانقسامية ولا يرى نتائجها السياسية على
الأرض (سلوك الجمهور الرياضي التونسي مفرط في تعصبه لفرقه المحلية قبل الفريق
الوطني، وهو تعصب عبّر عن نفسه ببذاءات تصل حتى السحل خصوصا بعد تحرر السوشيال
ميديا).
لم يكتب كثيرا في معالجة هذا الأمر بدعوى عدم إيقاظ الفتنة النائمة (كأنها
نائمة فعلا)، لذلك نتجنبه في هذه الورقة لننبه إلى أن التعصب الكروي هو علامة على
الغفلة السياسية، وهي الغفلة التي تتقن الحكومات تحريضها لتتسرب من خلالها فتجعل
حياة الناس أشد بؤسا.
لا يضيرنا هنا أن نستعيد موقفا محافظا سبق التعبير عنه منذ تبينت نية
الحكومات في توظيف الرياضة سياسيا. لقد حولت الحكومات لعبة كرة القدم خاصة إلى أداة
استغفال سياسي للجمهور، بعيدا عن منشئها الأولمبي وعودتها الحديثة كوسيلة تربية
رياضية ومتعة نفسية.
حولت الحكومات لعبة كرة القدم خاصة إلى أداة استغفال سياسي للجمهور، بعيدا عن منشئها الأولمبي وعودتها الحديثة كوسيلة تربية رياضية ومتعة نفسية
وفي تونس وبعد نهاية دورة قطر سنجد أنفسنا قد فقدنا دعم المواد الأساسية
بصفة نهائية وغير قابلة للنقض، ويكون الانقلاب إلى ذلك قد تقدم في فرض
انتخاباته
المهزلة، فهذه هي فرصة الغفلة التامة التي تنتظرها الحكومة. أما لماذا تستغفل
الحكومات شعبها فهذا أمر يحتاج أن نستحضر غوستاف لوبون (Gustave le Bon) في إثارة
الغريزة الجماعية وتحويلها إلى فعل غوغائي، ولم يتبين للحكومات أفضل من الحروب
الكروية حيث يحصل استغفال كامل بأقل القليل من الدماء.
الألتراس يتسيّس.. لكن
تركز أبحاث كثيرة على فئة الألتراس ضمن جماهير كرة القدم، وهي المجموعات
المغالية في حماسها الكروي والتي تحولت إلى مجموعات قائدة في الملاعب وخارجها، وقد
شرعت منذ سنوات تعبر عن مواقف سياسية تتناول المحلي وغالبا القومي والإنساني. وقد
رأينا من شعاراتها أمثلة في المغرب وتونس والجزائر ومصر، فمجموعات الألتراس ضد
الرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، وهي ضد الاحتلال الصهيوني ومع غزة في
جهادها.
من يوجه هذه الجماعات المغالية؟ هذه المجموعات في ظاهرها مغلقة كأنها طوائف
دينية، لكن طبيعة شعاراتها وإن كشفت انخراطا في قضايا كبرى فإنها كشفت أيضا بعدها
عن الواقع المعيش. وهي في تسيّسها لا تعد بشيء لتغير الواقع، بل تحمل شعارات كبيرة
وجميلة وغير فعالة، كتحرير غزة بالصراخ في الملاعب. لذلك فإن الشكل المغلق على
ذاته يكشف أنه مخترق، وأن هذه المجموعات توجَّه من خارجها إلى الابتعاد عن المحلي
وقضاياه الحارقة.
إنها في تقديرنا جزء من لعبة السلطة، مثلها مثل تيارات الطلبة المسيسين في
الجامعة أو ما يسمى سابقا بالحركة الطلابية، والتي كلما عبثت الحكومات بقوت الشعب
خرجت الحركة الطلابية تنادي بتحرير فلسطين.
لم نر جماهير الألتراس لكل الفرق تتحد على مطلب اجتماعي وتخرج من الملاعب
رافعة شعارات سياسية واجتماعية، وعندما رُفعت شعارات ثورية خارج الملاعب لم نجد
فرق الألتراس ضمن الشارع السياسي، وطيلة سنوات عشر من
النضال السياسي في الشارع لم
تتميز أي فرقة من الألتراس بالمشاركة بعنوانها الواضح. وهذا يجعل الألتراس مجرد
تنويعة مصطنعة داخل الجماهير الغافلة المنوّمة بالكرة، تخترقها السلطة مهما كانت
طبيعتها. وما يصلنا اللحظة من تعليقات حول مشاركة تونس في كأس العالم لا يكشف أي
تميز أو تسام فوق صراعات الغفلة الكروية.
الألتراس مجرد تنويعة مصطنعة داخل الجماهير الغافلة المنوّمة بالكرة، تخترقها السلطة مهما كانت طبيعتها. وما يصلنا اللحظة من تعليقات حول مشاركة تونس في كأس العالم لا يكشف أي تميز أو تسام فوق صراعات الغفلة الكروية
أما لماذا قدرت الحكومات على اصطناع جماعات الألتراس واختراقها وتوجيهها
وعجزت النخب المعارضة عن ذلك، فهذا موضوع يدفعنا إلى سؤال أكبر. هل هذه المعارضة
المعلنة هي فعلا معارضة أم هي اصطناع آخر من النظام/ الحكومات للإيهام بوجه
ديمقراطي؟
إننا نكتب هذا بعد الانقلاب، ويهيمن علينا شعور بالعار لفرط الغفلة
السياسية التي تتسرب إلى جمهور الكرة (الموصوف بالجهل) وإلى الأحزاب السياسية
والنخب (الموصوفة بالذكاء). والأغبياء والأذكياء كلاهما يركزان هذه الأيام على
موسم الكرة في قطر، ويتناسون ما تفعل به حكومة عاجزة عن كل مكرمة وقادرة فقط على
استغفال جمهورها.
في حضيض هذا الإحباط نصطنع جملة لـ"التشاؤل"، فحال أهون من حال. الأغبياء
الغافلون أفضل حالا من قطاع من الجمهور التونسي يساند الموقف الفرنسي من قطر في
قضية السماح برفع شعارات المثلية الجنسية في الدوحة، لكن فرنسا لا تنتبه لهم ولا
تمنحهم فيزا مجانية.