كالأسد الرابض
المتحفّز ينتظر شبله الذي عاد إليه بعد رحلة طويلة منهكة، يصوّر لنفسه كيف سيضبط
دقّات قلبه الصاخبة في صدره، وهي تعلو بقوّة قبل رؤية المشهد فكيف بها عند دخول
المشهد بكلّ أثقاله؟ كيف سيعانق هذا الحمل الوديع؟ ماذا عساه يقول؟ كيف سيصبح
مؤلفا لقصص الأطفال والحكايات الممتعة ليدخل عوالم طفله؟ العناق وحده قصّة.. هل
يرفعها لأعلى أم يهبط إليها؟ هل تدرك ما يحويه قلبه من هوى وعشق وشعور بالانتصار
على عدوّ لئيم يحرمه من كلّ شيء؟ "هل أروي لها الحكاية من أوّلها الى آخرها؟
وكيف؟ بأية لغة أقول لها إنّي انتصرت على سجّاني الغول اللئيم ونجحت في تحرير نطفة؟
وزرع طبيب الرحمة النطفة في رحم أمّك، توقّف يا مجنون وعد إلى رشدك، ماذا تقول يا
نضال؟ تحرير ونطفة وطبيب ورحم؟ هل تدرك بنت الأربع سنوات هذه المصطلحات؟ فكّر
بطريقة ثانية".
وكانت بقيّة
الأسود الرابضة في مقاعد غرفة الزيارة تترقّب إشراقة أحبّتها بعين، بينما العين
الثانية ترقب قسمات وجه نضال والسّحب التي تجتاحه، منها المعصرات التي اقترب
مطرها، ومنها ما تتنحّى قليلا لأشعة الشمس الجزلة التي تنعكس على صفحة وجهه. كان
الكلّ حريصا على رؤية هذا الوجه الطلق الذي يوشك أن يزهر بولوج محبوبته الصغيرة من
بوابة غرفة الزيارة (طبعا مع محبوبته الكبيرة). وكانت بعض المخاوف تضرب أعماق
قلبه، هل يتفطن لها خبثهم ويربط بينها وبين قصّة منشئها فيمنعها الزيارة؟
ويجوب شريط
الحكاية الغريبة منذ أن بدأت فكرتها في سجن عسقلان فكانت مستنكرة مرفوضة كأنها رجس
من عمل الشيطان، ثم أشبعها الأسرى بحثا وأحاطوها بكلّ الاحتياطات الآمنة التي لا تبقي
ولا تذر لأي مانع أو شكّ في صدر أحد، وتنامى التحدّي في صدور الأسرى الذين أرادوا
أن يسجّلوا حالة انتصار على هذا العدوّ اللئيم الذي يمنعهم من كلّ تفاصيل الحياة
التي تتمتع بها كلّ الكائنات، تقدّم الصفوف أسيرا محكوما بعدة مؤبدات (عمّار زبن)
ليحرّر نطفة رغم أنف سجّانه، ثم زرعت زرعا أخرج شطأه فآزره فاستغلظ ثمّ استوى على
سوقه ليكون أخا لأختيه ويسمّى مهنّد، أصبح هناك سفير للحريّة خرج لهم من رحم
السجون.
وكان حبل الوقت
يشتدّ على رقبة الشيخ نضال، يريد أن يطمّن قلبه أوّلا ثم قلوب الأسرى على أن لحظة
العناق قد مرّت بسلام، قد احتواها بجناحيه ولفّها بيديه بحنوّ تسمع في ثناياه وجيب
قلبه فيعزف أجمل لحن عرفته الحياة على قلبها الصغير.
وصلت الأصوات من
بعيد ففتحت القلوب كلّ مداركها، أضاءت سماء القلوب بكل الألوان الزاهية كليلة عيد،
رآها الشيخ من بعيد فهبط قلبه، قاوم الهبوط يا نضال، خذ نفسا عميقا وسبّح بحمد
ربّك الذي يُخرج الحي من الميت ويخرج الميّت من الحيّ. كيف سرت هذه الحياة التي
تسير على قدمين صغيرتين الآن وكانت من قبل تغرق في أدغال الموت والقهر والعذاب؟
سبّح الرب المعبود يا نضال، فالحيّ سبحانه وحده مانح الحياة ولا رادّ لأمره.
وكان العناق وكان
لا بدّ من الحكاية، فأنت يا نضال شيخ العربية في السجن، ونطقت الحياة الخارجة من
السجن بكلمة: بابا، أيّ عسل يطيق حلاوة هذه الكلمة من هذا الفم الصغير؟ لم يعتد
نضال رؤية الأفواه الصغيرة والأيدي الصغيرة وهذا الرأس الذي تسعه كفّة اليد، منذ
سنوات طويلة لا يرى فيها إلا "الإكس لارج"، الآن أمامه ما هو أصغر من
الحجم الصغير، أمامه قطّة جميلة تتمطّى بين يديه وتطلب منه الحكاية:
كان يا مكان ذئاب
تحبّ افتراس الإنسان (لا هذه كبيرة عليها كلمة "افتراس")، تحبّ حبس
الناس في غرف صغيرة مغلقة تسمّيه سجنا، وقد مكثوا في هذا السجن سنوات طويلة ، وكان
حراس السجن لئام ويحيطون بالسجن من كلّ مكان وهم مسلحون بأسلحة القتل والإجرام،
وكان هناك من الناس الطيبين رجل يقال له نضال.
قطعت القصّة ابنته
وهتفت: مثل اسمك يا بابا؟
نعم صحيح، هذا
الرجل أراد أن يُخرج من السجن رسالة حبّ لزوجته، كانت صغيرة ولكنّ معانيها كبيرة، (هذه
الجملة صعبة يا شيخ، انظر إلى عينيها كيف دارت مائة وثمانين درجة). أقصد أن هذه
الرسالة كتب فيها لزوجته: إنّي أحبّك حبّ الناس للقمر، وأريد لحبنا الكبير أن يلد
لنا مولودا جديدا. ونجح في تهريب الرسالة (التفت يمينا وشمالا ليتأكد أن السجان
بعيد وهمس) داخل علبة الشيبس. طارت الزوجة من الفرح وحملت الرسالة إلى البيت، شعرت
من أعماقها بحبّها العظيم لزوجها الأسير، ودعت الله أن يفرّج كربه ويطلق سراحه،
بعد أيام شعرت أن حبّها هذا يصنع جنينا في رحمها، وبدأ مع مرور الأيام يكبر ثم
أصبح يتحرّك وبعد تسعة شهور شعرت بأن من في بطنها اشتاق لرؤية أبيه، وكانت الولادة،
وأنتج الحبّ الكبير طفلا يبكي ويضحك ويشرب الحليب.
وفاجأت ابنة
الأربع سنوات أباها الذي يحاول أن يقطع معها المسافة الزمنية ما بين النطفة
المحررة وبين هذا العمر الجميل، فسألت سؤال العارف، والابتسامة تتلألأ في وجهها
الصغير: هذه قصّتي يا بابا، صحيح؟ فهزّ رأسه وقال نعم صحيح.
سرعان ما انتهت
الزيارة، انقضّ السجانون بأصواتهم النكرة على نزع فتيل المشاعر الملتهبة، انفضّ
الأطفال بوجوه عابسة غاضبة عن الزجاج الفاصل، قطّبت ابنة نضال المحرّرة جبينها
وتراجعت بحزن لا يسعه هذا العالم الضيّق، ملأ أركانها حزن عميق وشنّفت أذنيها للأدعية
التي يبتهل بها الأسرى وذووهم أن يكون الفرج قريب.
وصل فوج الزائرين
ساحة السجن، تقاطر المعتقلون من كل فجّ قريب، التفّ أسرى الفورة حول نضال، قال أحدهم:
والله إن هذا انتصار ما بعده انتصار، وقال آخر يا لها من حياة تخرج من مدفن الأحياء:
سبحانه: يُخرج الحيّ من الميّت، وكانت عبارة مبروك الزيارة سيدة الموقف، هذه
المرّة كان لها طعم خاص. سينعم نضال في ترانيم الزيارة ووقع وجيب قلب ابنته الصغير
وكلماتها التي عزفت لحنا استوطن أعماق وجدانه ولا سبيل له للخروج أبدا.