كتب

لماذا لم توجد عصور وسطى إسلامية؟ بحث في المفاهيم والدلالات

"تصدير مصطلح "العصور الوسطى" الذي ضلل أوروباً نفسها ليس مفيداً هنا بالمرة، وعلى المرء أن يستغني عنه نهائياً".
"تصدير مصطلح "العصور الوسطى" الذي ضلل أوروباً نفسها ليس مفيداً هنا بالمرة، وعلى المرء أن يستغني عنه نهائياً".

صدر عن دار الجمل، (ط1، بيروت ـ بغداد، 2020)، الترجمة العربية لدراسة ألمانية بعنوان: "لماذا لم توجد عصور وسطى إسلامية؟ الشرق وتراث العصور العتيقة"، للمستشرق الألماني د.توماس باور، ترجمة: د. عبد السلام حيدر. والكتاب في نسخته الألمانية صدر بعنوان (Warum es kein islamisches Mittelalter gab: Das Erbe der Antike und der Orient)، عن دار  Beck C. H. (August 28, 2018).

تتناول تلك الدراسة خطأ الدارسين الغربيين لما يعنونه بالعصور الوسطى الإسلامية، وبيان أن العصور الوسطى في أوروبا والتي اتسمت بالظلامية والتخلف كانت تقابلها حضارة إسلامية ملأت السمع والبصر في تلك الفترة، وأنه من الظلم وعدم الحيادية بمكان أن يعمم الدارسون مصطلح "العصور الوسطى" على كل من أوروبا وإمبراطورية الإسلام في تلك الفترة الزمنية تحديدًا.

يحتوي الكتاب الذي يتألف من 226 صفحة على مقدمة وخمسة فصول. في المقدمة يشير المستشرق الألماني د.توماس باور: "لقد تعلمنا أن نزن المصطلحات التي نستخدمها في الحديث عن الناس والثقافات بحساسية أكبر، الكثير من الأوصاف القديمة مثل (زنجي) أو (المحمديين) يتم الآن تجنبها وبدقة، ومع ذلك فإن مصطلح "العصور الوسطى الإسلامية" غير قابل للنقاش إلى حدٍّ كبير، على الرغم من أن مارشال هودجسون قد شكك به في السبعينيات وبشكل تأسيسي، لكن ماذا يعني مصطلح (العصور الوسطى الإسلامية؟) وما هي آثاره على إدراكنا للثقافات الإسلامية في فترة ما قبل الحداثة؟ وأية نتائج يتركها على الدراسات الحضارية المقارنة؟".

تحت عنوان "ستة أسباب ضد (العصور الإسلامية الوسطى)"، يفتتح باور كتابه بتوضيح الاستخدامات غير الدقيقة لمصطلح العصور الوسطى الإسلامية، حيث يرى أن هذا "المصطلح ليس مثالياً بالفعل"، وأن المصطلح "ليس غامضاً فحسب، بل ويرتبط أيضاً بسلسلة طويلة من الافتراضات، عما هو قروسطي"، هذا التركيب يسمح بوقوع الكثير من الأخطاء وسوء الفهم، ولم يكن هذا المصطلح أبداً "مصطلحاً بريئاً. فمنذ البداية، قصد به المخالفة والتضاد". هذا المصطلح لم يكن له "أية حدود زمنية مؤكدة أو مكانية محددة مع أي عصر في الماضي". فالمصطلح "صُنع أوروبياً ليعبر عن ظروف أوروبية محددة". ناهيك عن كون المصطلح يفتقر إلى أي "أساس موضوعي".

يقارن باور تحت عنوان "الشرق والغرب بالمقارنة: من (الأمية) إلى (الأرقام)"، بين نماذج تاريخية متنوّعة ضمن جغرافيا متسعة شملت (مصر، وفلسطين، وسوريا، وبلاد الرافدين، وإيران)، هذه المقارنة أتاحت لباور أن يستنتج بأن هذه الفضاءات الجغرافية، لم تعش عملية تحوّل تشبه ما حدث في أوروبا بين الفترة التي تُعرف بالعصور القديمة والمرتبطة بمركزية الإمبراطورية الرومانية والفترة التي تلت سقوطها وهو ما اصطلح على تسميته بالعصور الوسطى التي تنتهي في القرن الخامس عشر تقريباً مع عصر النهضة الإيطالي.

وفي بحثه عن "الصورة الكاملة: من البحر المتوسط إلى هندوكوش"، يري باور أنه "ينبغي اعتبار مصطلح (العصور الوسطى الإسلامية) مصطلحاً منقوصاً تماماً". وأن استخدامه "يعطل إمكانية عمل تحقيب ملائم". ويشير باور إلى أن "المصطلح الحقبي الذي يراد له تسمية فترة تاريخية شاملة (أي ليس فقط تاريخ للأدب أو للموسيقى أو للتقنية) أن يفي المتطلبات الأربعة التالية: 1- ينبغي أن يكون غير قيميّ، أي لا يحمل دلالات سلبية أو إيجابية.

 

من الواضح أن هذا ليس الحال فيما يخص مصطلح (العصور الوسطى).

 

2 ـ كذلك فإن مصطلح "حقبي سديد" لا بد وأن يسري على نطاق واسع.

 

3 ـ الحقب يجب أن تدمغ الحياة بشكل شامل. فمن المستحب أن يعين تغير اللغة أو تغير الدين كحد من هذه النوعية. لذا لا ينبغي أن نتحدث عن حقبة جديدة إلا عندما تتغير ظروف الحياة وبعمق.

 

4 ـ يجب أن تكون التغييرات التي تشمل حقبة جديدة نهائية ودائمة.

ويشدد باور على أن "العصور الوسطى" غير موجودة أصلاً. لكن في العالم الإسلامي تبنى مؤرخون بارزون الرؤية التي أشاعها المؤرخ الألماني كارل بروكلمان في عمله الكبير عن تاريخ الأدب العربي عبر التفرقة بين عصر كلاسيكي وما بعد كلاسيكي، ووفقاً للصورة التقليدية المعتادة للتاريخ فإن فترة التدهور والتراجع في أوروبا تزامنت مع عصر ازدهار الإسلام. تلا ذلك فترة من الصعود المستمر والانتصار الباهر في أوروبا التي استمرت حتى وقتنا الحاضر، بينما دخل الإسلام بعد عصر الازدهار في فترة لا نهاية لها من التدهور والكساد.

يلقي المؤلف نظرة فاحصة على العلوم التي تمت العناية بها في المجال الثقافي، تحت عنوان "العصور الإسلامية العتيقة المتأخرة: المرحلة التكونية للعلوم الإسلامية". يثير باور فكرة مهمة وهي أن الرحالة والموظفين المسؤولين عن الشؤون الاستعمارية وعلماء الأعراق شككوا في مسألة "انحطاط تلك الفترة"، فقد كان هناك عصر ذهبي في القرنين الثامن والتاسع الهجريين في العالم الإسلامي عندما ترجمت نصوص العلوم اليونانية والفلسفة إلى العربية والتي استطاع الغرب الاستفادة منها.

 

يشدد باور على أن "العصور الوسطى" غير موجودة أصلاً. لكن في العالم الإسلامي تبنى مؤرخون بارزون الرؤية التي أشاعها المؤرخ الألماني كارل بروكلمان في عمله الكبير عن تاريخ الأدب العربي عبر التفرقة بين عصر كلاسيكي وما بعد كلاسيكي، ووفقاً للصورة التقليدية المعتادة للتاريخ فإن فترة التدهور والتراجع في أوروبا تزامنت مع عصر ازدهار الإسلام..

 



يصف باور بوضوح كيف استمرت الثقافة الحضارية القديمة من الأندلس إلى شمال أفريقيا وسوريا إلى بلاد فارس ولماذا شكل القرن الحادي عشر نقطة تحول في كل أنحاء أوراسيا، من هندوكوش إلى أوروبا الغربية، والتي سرعان ما تبعها العصر الحديث في العالم الإسلامي.

يستخلص المؤلف بأن مفهوم "العصور الوسطى الإسلامية" غير دقيق، ويقدم سبعة أسباب لتفادي استخدام مصطلح "العصور الوسطى" عموماً، و"العصور الوسطى الإسلامية" خصوصاً؛ فتعبير "العصور الوسطى الإسلامية": 1 ـ غير دقيق. 2 ـ مضلل. 3 ـ يستخدم بشكل تشهيري. 4 ـ يبقي العالم الإسلامي في نطاق الغرائبية. 5 ـ وفي الوقت نفسه يصادره بطريقة إمبريالية. 6 ـ ليس له أي أساس واقعي. 7 ـ يحجب رؤية الحدود الحقيبية الحقيقية. 

وفي نهاية البحث يقول باور: إن "تصدير مصطلح "العصور الوسطى" الذي ضلل أوروباً نفسها ليس مفيداً هنا بالمرة، وعلى المرء أن يستغني عنه نهائياً".

وأخيرًا، أتمنى أن يسير الباحثون العرب على درب المستشرق الألماني توماس باور في نقده لمصطلح "العصور الوسطى الإسلامية".


التعليقات (0)