بورتريه

حاولوا دفن تجربته.. "الظاهرة" رئيسا للبرازيل للمرة الثالثة

تعهد الزعيم اليساري بجعل بلاده "دولة سعيدة موحدة بلا انقسامات"- عربي21
تعهد الزعيم اليساري بجعل بلاده "دولة سعيدة موحدة بلا انقسامات"- عربي21

نشأ في أسرة متواضعة من مزارعين فقراء، ودفعته ظروف العائلة البائسة إلى العمل ماسحا أحذية، ثم دارت به الأيام، فدخل القصر الرئاسي "بالاسيو دو بلاناوتو" أو "قصر الهضبة" في العاصمة برازيليا، دخول الفاتحين والمنقذ للمرة الثالثة.

 

لقد كان ذات يوم، شابا خجولا غير مهتم بالسياسة، فحياته المبكرة كانت عبارة عن سنوات من المشقة والعمل المنهك.

 

ولد لويز إينازيو لولا دا سيلفا في عام 1945 في بيرنامبوكو، وهي ولاية تقع في شمال شرق البرازيل الذي يعد الأفقر في البلاد، وكان السابع من بين ثمانية أطفال.

 

خلال طفولته و مراهقته، عمل دا سيلفا بائعا متجولا، وماسح أحذية، وصبي توصيل في محل لتنظيف وكي الملابس، ومساعدا في مكتب، ومن ثم ترك المدرسة في سن الرابعة عشرة وقبل أن يبلغ العشرين من العمر تدرب وعمل في الحدادة وقد فقد خنصر اليد اليسرى في حادث عمل.


مثل أي برازيلي كان شغفه الأول خلال فترة المراهقة والشباب هو كرة القدم، ولم يهتم بالعمل السياسي، لكن عام 1969 غير مجرى حياته عندما انخرط في العمل النقابي.


وفي عام 1975 انتخب زعيما لنقابة عمال الحدادة التي كان عدد أعضائها نحو 100 ألف عضو. ونجح دا سيلفا في إحداث تغيير في العمل النقابي في البلاد حيث حولها من نقابات تدور في فلك الحكومات إلى حركة نقابية قوية مستقلة.


وقاد دا سيلفا الإضرابات العمالية الكبرى التي نظمت في المنطقة الصناعية في ساو باولو، وهي إضرابات لم تكن مألوفة في البرازيل التي كانت خاضعة للحكم العسكري.

 

ولم يتسامح العسكر معه فقد سجن في عام 1980 مع قادة نقابيين آخرين وأمضى نحو شهر في خلية تابعة لإدارة النظام السياسي والاجتماعي التابعة للحكومة العسكرية.


وكان هذا العام بداية تحوله إلى العمل السياسي حيث نجح في تأسيس أول حزب اشتراكي في البرازيل وحمل اسم "حزب العمال".

وبمرور الوقت تبنى الحزب مواقف سياسية واقتصادية أكثر اعتدالا بدلا من التغيير الجذري للسلطة.


استمرت شعبية دا سيلفا في الصعود إذ بقي ممسكا بقضايا الفقراء، والدفاع عن مبادئ النزاهة ومحاربة الفساد في أروقة الحكم، وتشجيع البسطاء على الانخراط في العمل السياسي.


كان شخصية محورية في الحركة التي طالبت بعودة الديمقراطية إلى البرازيل، وخسر الانتخابات الرئاسية ثلاث مرات في أعوام 1989 و1994 و1998 قبل نجاحه في الوصول إلى كرسي الرئاسة عام 2002 ليدخل التاريخ بصفته أول عامل يصل قمة هرم السلطة في البلاد.


خلال فترة حكمه شهدت البرازيل طفرة اقتصادية مدفوعة بارتفاع أسعار المواد الخام، وقد خرج ملايين الناس من الفقر وارتقوا إلى الطبقة الوسطى عن طريق ضخ الحكومة لمليارات الدولارات في البرامج الاجتماعية للقضاء على التفاوت الطبقي الشديد الذي كان سائدا في البلاد عبر التاريخ.


كما قام دا سيلفا برفع الحد الأدنى من الأجور فوق معدل التضخم بدرجة كبيرة. ووسع البرامج الاجتماعية التي كانت تنفذها الدولة لتشمل الطبقات الأكثر حرمانا وفقرا في البلاد عبر برنامج المنح العائلية الذي استفاد منه نحو 44 مليون شخص مما ساهم في تعزيز شعبيته في أوساط الفقراء والمهمشين.

 

اقرأ أيضا:  عودة تاريخية لحكم البرازيل.. لولا من السجن للرئاسة (بروفايل)


لم تسلم فترات حكم دا سيلفا من الانتقادات بسبب الترويج لمشاريع عامة مكلفة مشكوك في جدواها، وارتباط بعض الأسماء في تلك المرحلة بفضائح فساد كبرى.


فقد كشفت فضيحة عام 2005 والتي عرفت باسم الدفعة الشهرية الكبرى، وهي خطة سرية لشراء الأصوات في الكونغرس البرازيلي انتهت بإدانة مقربين من دا سيلفا وعرضت إعادة انتخابه للخطر.


وكانت الفضيحة الأخطر خلال حكم دلما روسيف إذ كشف عن قضية رشوة لعقود لشركة النفط الحكومية مع شركات البناء، والتي تعتبر أكبر فضيحة فساد في أمريكا اللاتينية.


في إطار هذه القضية، اتهم لولا دا سيلفا بتلقي خدمات من شركات إنشاءات خاصة وحكم عليه بالسجن عام 2018 بتهمة الفساد وغسيل الأموال، في قضية قادها القاضي آنذاك سيرجيو مورو.


منعته الإدانة من الترشح للانتخابات الرئاسية عام 2018، رغم أنه تقدم استطلاعات الرأي بعد عزل روسيف من منصبها.


لكن الحكم ضد دا سيلفا ألغي لعدم كفاية الأدلة، واستجوب القاضي مورو الذي اعتبر متحيزا ضد دا سيلفا. لكن مورو كرم من بعد فوز اليمني المتطرف جايير بولسونارو برئاسة البرازيل إذ عينه بولسونارو بعد فترة قصيرة وزيرا للعدل في حكومته.


أمضى دا سيلفا 19 شهرا في السجن وأطلق سراحه من قبل المحكمة الفيدرالية العليا، التي ألغت في عام 2021 إدانته نظرا لارتكاب أخطاء في المحاكمات وافتقار مورو إلى النزاهة.


ويبدو أن غالبية البرازيليين لم يفقدوا ثقتهم به رغم حملة التشويه التي تعرض فقد جددوا ثقتهم به مرة أخرى ونجح المرشح اليساري البالغ من العمر 77 عاما في الفوز بجولة ثانية متفوقا بفارق بسيط على منافسه بولسونارو.


عاد إلى منصب الرئاسة الذي سبق وأن شغله لفترتين متتاليتين بين عامي 2003 و2010، مؤكدا أنه الزعيم الأكثر شعبية وتأثيرا في أكبر دولة في أمريكا اللاتينية.


منحته الجامعات في جميع أنحاء العالم درجة الدكتوراه الفخرية، ووصفه رئيس الولايات المتحدة الأسبق باراك أوباما، بأنه "السياسي الأكثر شعبية في العالم".
دا سيلفا لا ينكر ماضيه القاسي بل على العكس من كل ذلك إذ يذكره في غالبية خطاباته، مما كان يمنحه الأفضلية على السياسيين الآخرين خاصة في صفوف الناخبين الفقراء وأصحاب التعليم المتواضع.
ويعد لولا داسيلفا من المؤيدين للقضية الفلسطينية على النقيض من الرئيس المنتهية ولايته، الذي يعد أحد أشد الداعمين للاحتلال الإسرائيلي. كما ظهرت زوجته وهي ترتدي قميصا يحمل علم الاحتلال، خلال تصويتها في جولة الإعادة بانتخابات الرئاسة التي انتهت بخروجها مع زوجها بولسونارو من القصر الرئاسي.
واعترف دا سيلفا عام 2010، بدولة فلسطينية على حدود 1967، وذلك في رسالة نشرتها وزارة الخارجية البرازيلية حينها، وجاء فيها أن هذا الاعتراف يأتي منسجما مع المبادئ التي تدافع عنها البرازيل.
وسبق أن ظهر دا سيلفا في أكثر من مناسبة مرتديا الكوفية الفلسطينية، وكان أبرزها بعد تدشينه "شارع البرازيل" في رام الله خلال زيارته للضفة الغربية عام 2010.


تبدو البرازيل اليوم بائسة ومنهكة، بعد وباء كوفيد الذي أودى بحياة أكثر من 685 ألف شخص نتيجة سياسات بولسونارو السيئة والاستعلائية، والركود الاقتصادي الأخير الذي أغرق الملايين من جديد في الفقر، وأدى إلى ارتفاع الإنفاق المالي ونشوء حالة من الاستقطاب السياسي المزعج.


يقول أستاذ التاريخ في جامعة ديوك في الولايات المتحدة ومؤلف سيرة دا سيلفا، جون فرينش: "لولا ظاهرة سياسية وانتخابية مثيرة ينبغي أن يدرسها العالم ويهتم بها اهتماما بالغا".


لكن لا يبدو أن طريق الولاية الثالثة أمام "الظاهرة دا سيلفا" ستكون معبدة تماما إذ يبدو أن بولسونارو، النسخة البرازيلية من الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وجمهوره الغوغائي سيعرقلون عمله، لكن دا سيلفا سيتجاوز الاستقطاب السياسي غير المسبوق بإعادة الاقتصاد إلى سكة الانتعاش من جديد.


الانتخابات الأخيرة كانت كما قال دا سيلفا "كانت حملة صعبة للغاية. لم تكن لولا ضد بولسونارو، كانت حملة ديمقراطية أمام همجية".

 

وقد تعهد الزعيم اليساري بجعل بلاده "دولة سعيدة موحدة بلا انقسامات".


عودة مذهلة ومدهشة لرئيس قال في مستهل خطابه للفوز: "لقد حاولوا دفني حيا وها أنا ذا".

التعليقات (0)