أفكَار

إسلاميو المغرب.. مسار الجمعية الإسلامية بالقصر الكبير

عبد العلي حامي الدين يوثق لمسيرة الجمعية الإسلامية بالقصر الكبير
عبد العلي حامي الدين يوثق لمسيرة الجمعية الإسلامية بالقصر الكبير

بعدما تعرفنا في حلقات سابقة على الشبيبة الإسلامية وعن التنظيمات التي انحدرت منها، وهي جماعة التبين والجماعة الإسلامية (حركة الإصلاح والتجديد)، نتعرف ابتداء من هذه الحلقة على تنظيمات إسلامية أخرى لم ترتبط في نشأتها بالشبيبة الإسلامية، وتحكمت في نشأتها ظروف ومعطيات مختلفة، جعلتها تتميز بخصائص أخرى عن التنظيمات المنحدرة من تنظيم الشبيبة الإسلامية الذي طبعه عبد الكريم مطيع بأسلوبه الخاص.

من بين التنظيمات التي نشأت خارج الشبيبة الإسلامية الجمعية الإسلامية بالقصر الكبير التي تأسست على يد مجموعة من الشباب في دجنبر 1976، ونجحت في بناء فروع لها خاصة في شمال المغرب.
 
سياق النشأة 1967- 1976.. بين جماعة التبيلغ وأفكار الإخوان المسلمين

النواة الأولى للجمعية الإسلامية نشأت في مدينة القصر الكبير، وهي مدينة تتواجد في الشمال الغربي للمملكة المغربية على ضفاف نهر اللوكوس الذي يحيط بها من جهتي الغرب والجنوب، اشتهرت تاريخيا بمعركة وادي المخازن (سنة 986 هـ الموافق 1578 م)، أو معركة الملوك الثلاثة التي انتصر فيها المغرب على الاجتياح البرتغالي.

تميزت منذ ستينيات القرن الماضي باعتبارها مركزا لجماعة الدعوة والتبليغ والتي كان ينشط فيها الأستاذ البشير اليونسي الذي سيصبح فيما بعد المسؤول الأول عن الجماعة، وقد تأثر به عدد من شباب المدينة من بينهم مجموعة من التلاميذ الذين كانوا بالإضافة إلى ترددهم على مسجد الفتح (مركز جماعة الدعوة والتبليغ) يخوضون في نقاشات فكرية وثقافية وسياسية متأثرين إلى حد كبير ـ في مرحلة أولى ـ بالأفكار القومية والتحررية للزعيم العربي جمال عبد الناصر وبشعاراته الداعية إلى الوحدة العربية وتحرير فلسطين..

في هذا السياق، وتأثرا بهزيمة 1967 وبالنكسة الكبيرة التي أصابت العالم العربي والإسلامي بعد احتلال جزء جديد من الأراضي الفلسطينية سيتعرف التلميذ أحمد الريسوني على التلميذ محمد الدكالي وستتوطد علاقتهما.. كان يجمعهما الانخراط في جماعة التبليغ والمشاركة في برامجها الدعوية، بالإضافة إلى شغف القراءة المكثفة للكتب والمجلات الفكرية الرائجة، إسلامية وغيرها، وخوض النقاشات والسجالات مع نظرائهم من مشارب فكرية وفلسفية مختلفة، خاصة مع المتأثرين بموجة الأفكار الماركسية المناهضة للدين في تلك المرحلة، فتشكلت حالة من الوعي الثقافي والفكري تطرح أسئلة جديدة لم تكن جماعة الدعوة والتبليغ تتوفر على إجابات شافية حولها، فبدأ التعرف على كتابات إسلامية جديدة من قبيل كتب فتحي يكن وسيد قطب وسعيد حوى وسيد سابق ومحمد قطب وغيرهم..، وبدأ هؤلاء الشباب ينظمون جلساتهم في المسجد بشكل منتظم وينفتحون على أدبيات الإخوان المسلمين وهو ما ما بدأ يثير انتباه العموم إلى تميز هؤلاء الشباب الذين يبدو خطابهم مختلفا عن بساطة خطاب جماعة التبليغ ومحدوديته..

استمرت النواة الثنائية المشكلة من أحمد الريسوني ومحمد الدكالي تعمل في مركز جماعة التبليغ ومسجد الفتح وتستقطب مجموعة من الشباب من بينهم عبد اللطيف المراكشي محمد الطاهري وعبد الله الطاهري وصلاح الدين الرايس ومحمد الزيادي، وستتعزز المجموعة بشاب متدين اسمه عبد الناصر التيجاني يمتلك تجربة في العمل الثقافي وكان ينشط في دار الشباب التي تعتبر مركزا للفعل الثقافي والفكري في المدينة، وقد سبق له خلال السنة الدراسية 1970- 1971 أن خاض إضرابا عن الدراسة داخل الثانوية المحمدية وشارك في احتجاجات تلاميذية وصل صداها إلى الشارع العام، واعتقل على إثرها وهو في السادسة عشرة من عمره بتهمة المسؤولية عن اندلاع الإضراب وتعرض للضرب والتعذيب، قبل إطلاق سراحه، كما نشط بعد ذلك في إلقاء المحاضرات والمشاركة في ندوات إسلامية على مستوى الثانوية والقسم الداخلي وعلى مستوى المدينة.

كان مسجد الفتح بالمدينة هو ملتقى هؤلاء الشباب الذين يستفيدون من التوجيهات التربوية لجماعة التبليغ ولكنهم متحمسون لقراءة الكتب الفكرية ومتابعة الأحداث السياسية الجارية في المغرب وخارجه.. وبدأت الجلسات التربوية تتنامى وتتكاثر وكان تلاميذ هذه الجلسات يغادرون المدينة لمتابعة دراستهم في بعض الثانويات من خارج المدينة ولاسيما بالعرائش وتطوان وطنجة وغيرها، فأصبحت هذه الحركية تتنامى وسط تلاميذ وطلبة القصر الكبير أينما كانوا، كما بدأت تنفتح على شباب آخرين..

في هذا السياق سينتقل أحمد الريسوني لمدينة الرباط رفقة محمد الدكالي لمتابعة الدراسة الجامعية ولربط علاقات جديدة في العاصمة، ومنها نشأت علاقة قصيرة مع عبد الكريم مطيع الذي كان يطلق عليهم لقب (التبليغ Moderne) أي التبليغ المعاصرة، ويطمح في استقطابهم، لكن فراره خارج المغرب على خلفية حادث اغتيال عمر بن جلون سيوقف هذه العلاقة قبل تطورها..

فكرة التنظيم لم تكن محل اقتناع من طرف رواد هذه المجموعة، بقدر ما كان هاجسهم هو نشر دعوة الإسلام بمنهج شمولي وبخطاب متنور، ومقارعة الأفكار الإلحادية المناهضة للدين التي كانت تنتشر خلال تلك المرحلة وسط الشباب المثقف ولاسيما من ذوي التوجهات الماركسية.. 

ورغم نصيحة الشيخ علي الريسوني (وهو واعظ ومرشد في عموم مساجد وزوايا شفشاون منذ 1964، ازداد سنة 1943 واشتغل بالتعليم والتربية والتاريخ، وهو مهتم كثيرا بالتاريخ الأندلسي) وإلحاحه على قريبه أحمد الريسوني بتأسيس جمعية في إطار القانون، فإن رأي أحمد الريسوني آنذاك لم يكن يستشعر أي حاجة لبناء تنظيم أو العمل في إطار أنماط تنظيمية محددة إلى أن وقعت حاثة اعتقاله التي ستشكل نقطة تحول في أسلوب عمل "شباب التبليغ"، كما كان يتصورهم المراقب الخارجي...

قصة اعتقال أحمد الريسوني صيف 1976 وبروز الحاجة للتمايز التنظيمي عن الشبيبة الإسلامية..

لما وقعت حادثة اغتيال عمر بن جلون وفرار عبد الكريم مطيع خارج المغرب بدأ يشن حملات ضد النظام المغربي، وكان يحث أتباعه خصوصا في الرباط وفي الدار البيضاء على توزيع منشورات تدين الاعتقالات التي تمت في صفوف أعضاء الشبيبة الإسلامية المتهمين بحادث الاغتيال، وتكشف عما تعتبره مؤامرة النظام ضد الشبيبة، وكانت أحياء الرباط مسرحا لحملات أمنية ضد الشباب المنتمون لتنظيم الشبيبة|، وبسبب هذه المنشورات تمكن الأمن من إلقاء القبض على بعض التلاميذ وقد كشف هؤلاء التلاميذ بعد خروجهم من الاعتقال أن تعليمات عبد الكريم مطيع كانت تقضي بتوزيع المنشورات في أحياء العاصمة، وإذا تمكن الأمن من اعتقالهم، فعليهم أن يذكروا أثناء استنطاقهم بأن مصدر هذه المنشورات هو محمد بخات الإدريسي (رحمه الله) وهو شاب متدين كان يرأس جمعية الدراسات الإسلامية وهي جمعية ذات طبيعة علمية، وقد فوجئت الشرطة بهذه المعطيات نظرا لمعرفتهم الجيدة بالشخص ولم يكن يخطر ببالهم أن تكون له صلة بهذه المنشورات الثورية والتحريضية، فتم اعتقاله بطريقة هوليودية مضخمة وتم تعذيبه عذابا شديدا، وكانوا يتعاملون معه كزعيم خطير نجح في إخفاء حقيقته، ولذلك كانوا يبحثون عن كل ما له علاقة به، وهكذا جرى اعتقال عدد كبير من الأشخاص الذين لهم صلة به..

 

فكرة التنظيم لم تكن محل اقتناع من طرف رواد هذه المجموعة، بقدر ما كان هاجسهم هو نشر دعوة الإسلام بمنهج شمولي وبخطاب متنور، ومقارعة الأفكار الإلحادية المناهضة للدين التي كانت تنتشر خلال تلك المرحلة وسط الشباب المثقف ولاسيما من ذوي التوجهات الماركسية..

 



وفي هذا السياق سيتم اعتقال المكتب الإداري لجمعية الدراسات الإسلامية، التي تم تأسيسها سنة 1974، والذي كان يضم إلى جانب محمد بخات كل من عبد الله اكديرة وأحمد الريسوني وعبد اللطيف المراكشي وعبد الله الناصر وصلاح الدين الإدليبي الذي كان خطيب الحي الجامعي السويسي بالرباط وغيرهم، أي حوالي عشرين من أعضاء الجمعية ، بالإضافة إلى شباب آخرين من تنظيم الشبيبة الإسلامية..

كان أحمد الريسوني يومها حديث الالتحاق بالنيابة العامة بالمحكمة الابتدائية في القصر الكبير كموظف، فتم استقدامه للرباط دون أن يكون على علم بخلفيات الاعتقال وأسبابه..

فلما وصل للرباط تم استنطاقه قبل أن يتم الزج به وسط المعتقلين الآخرين الذين كانت لهم علاقة بمحمد بخات، ففهم أن الموضوع له صلة بجمعية الدراسات الإسلامية ونشاطها الدعوي، وقد استمر هذا الاعتقال حوالي أسبوعين، دون تعذيب، لأن الأمن كان قد عرف حقيقة المنشورات، وكان التركيز على أحمد بلدهم (أحد أعضاء القيادة السداسية التي عينها مطيع لتسيير الشبيبة) والذي تبين لهم أنه هو العنصر الرئيسي والرأس المدبر لعملية توزيع المنشورات. 

لكن السؤال الذي بقي عالقا في ذهن أحمد الريسوني من طرف المحققين هو: هل أنت تنتمي إلى الشبيبة الإسلامية أم إلى جمعية الدراسات الإسلامية، فأجاب بالحقيقة وهي أنه ينتمي إلى جمعية الدراسات الإسلامية، فكان هذا هو طوق النجاة من الاعتقال.

وهو ما تبين معه أن الأمن نجح في الفرز بين أعضاء الشبيبة المتورطين في توزيع المنشورات وبين أعضاء وأصدقاء الأستاذ محمد بخات الذين لا علاقة لهم بما جرى.

فتم الإفراج على أصدقاء بخات وتم تقديم الآخرين إلى المحاكمة وعلى رأسهم أحمد بلدهم حيث حكم عليهم بثلاثة أشهر سجنا نافذة وعلى بعضهم بمثلها موقوفة التنفيذ..   
   
عندما أطلق سراح أحمد الريسوني وعاد لمدينة القصر الكبير وهو الشاب المتدين والمثقف الذي كان يستعد للزواج وتنظيم حفل الزفاف، فوجئ بمجموعة من الإشاعات الكثيرة التي انتشرت في المدينة حول أسباب اعتقاله، ومنها الاشتباه في علاقته مع جريمة اغتيال عمر بن جلون وغيرها من الإشاعات التي انطلقت بسبب عدم الوضوح في الانتماء التنظيمي.. وهو ما كان له أثر سلبي على العلاقات التي تم بناؤها خلال السنوات السابقة..

هنا ستنضج فكرة التأسيس القانوني للجمعية وسيقتنع الجميع بضرورة الوضوح التام عبر تأسيس جمعية قانونية تشتغل بشكل واضح، وهكذا تشكلت القناعة بضرورة علنية الدعوة وعلنية التنظيم وعلنية الوسائل، فكان قرار أحمد الريسوني بتأسيس الجمعية الإسلامية بالقصر الكبير بعد التشاور مع النواة الأساسية للعمل آنذاك وهم محمد الدكالي والذي كان موظفا بوزارة العدل أيضا وعبد الناصر التيجاني ومحمد الطاهري، فكان التأسيس في كانون الأول 0ديسمبر) 1976 تحت إسم "الجمعية الإسلامية"، وتم اختيار أحمد الريسوني رئيسا للجمعية وعبد الناصر التيجاني مقررا عاما لها، لتنطلق مسيرة الجمعية الإسلامية على مستوى شمال المغرب في البداية، ثم على مستوى باقي مناطق المغرب قبل أن يبرز أحمد الريسوني كأحد الرموز الأساسية للحركة الإسلامية الذي يسعى لتوحيد الجماعات الإسلامية تحت راية واحدة..

 

 

 

 

 

 

 

يتبع..

 


التعليقات (0)