كتب

في مفهوم الاستشراق وحوار بين وائل حلاق وإدوارد سعيد

"دعوة لإعادة التفكير والنقد ومحاولة أيجاد حلول لحياة أفضل من خلال الانفتاح الواعي على كل الاحتمالات والمجالات المعرفية
"دعوة لإعادة التفكير والنقد ومحاولة أيجاد حلول لحياة أفضل من خلال الانفتاح الواعي على كل الاحتمالات والمجالات المعرفية
اعتاد القارئ العربي على التفكير في الاستشراق بوصفه مجموعة من القضايا التي تُعبر عن تصورات سلبية للإسلام وللعرب يجب علينا فهمها ومناهضتها، لا سيما وقد ساهمت في السيطرة على العالميْن العربي والإسلامي وإخضاعها للكولونيالية.

يري د. وائل حلاق، في كتابه "قصور الاستشراق: منهج في نقد العلم الحداثي"، ترجمة:عمرو عثمان، الصادر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر (ط1، 2019). إن هذه القراءة للاستشراق لا تعدو كونها سياسية، وهو أحد الأسباب التي تجعل حلاق يجد مشروع إدوارد سعيد عن الاستشراق قاصرًا وغير مُرضٍ. فالاستشراق ـ كما يرى حلاق ـ ليس مجرد مشروع سياسي كما اعتقد سعيد. 

إن كتاب "قصور الاستشراق: منهج في نقد العلم الحداثي"، الذي يقع في 430 صفحة من الحجم الكبير، ويستعرض محتوياته في خمسة فصول، غايتها إعادة النظر في منطلقات المشروع النقدي عند إدوارد سعيد ومرجعياته النظرية والمفاهيمية ومقاربته المنهجية، هو "دراسة في أصول المعرفة الحديثة ونَسبها، ما يعني أنه يغوص في أعماق ما نفهمه وندركه ونشعر به بوصفنا أفراد حداثيين يعيشون في العالم الإسلامي أو غير الإسلامي". إن هذا الكتاب "هو الفضيحة التي تُعّرينا وتُعرّي من فرض الكولونيالية علينا، إذ إنه يُعيد تعريفنا وتعريفه".

يبدأ المؤلف في مقدمة الكتاب بإدراك "وجود غموض شديد في المصطلح، الذي يشير إلى هذا المبحث المعرفي". ويحاول التمييز بين الاستشراق المتحيز والآخر الموضوعي، ويري أن هذا "المصطلح البسيط ذو المفهوم المُركب ـ قد أسيء فهمه بشدَّة، بل تحول فعلياً ـ وبسبب كتابات إدوارد سعيد إلى حد ما ـ إلى شعارات سياسية بدائية وكلمات هتافيّة تجد لها مجالاً خصباً في حقل من الاستعراض اللغوي الإيديولوجي. وأصبح وصف باحث ما بأنه (مستشرق) ضرباً من الإدانة ونعتاً سلبياً".
يري د. وائل حلاق، في كتابه "قصور الاستشراق: منهج في نقد العلم الحداثي"، أن هذه القراءة للاستشراق لا تعدو كونها سياسية، وهو أحد الأسباب التي تجعل حلاق يجد مشروع إدوارد سعيد عن الاستشراق قاصرًا وغير مُرضٍ. فالاستشراق ـ كما يرى حلاق ـ ليس مجرد مشروع سياسي كما اعتقد سعيد.

يعرض حلاق ثمانية نقاط لنقد عمل إدوارد سعيد في حقل الاستشراق، "تبتي كتاب الاستشراق نظرية الحتمية الفوكوية"؛ وإنكار سعيد  لفضل "أنور عبد المالك وعبد اللطيف طيباوي"؛ ووقع الكتاب "في الفخاخ نفسها التي يسعي إلى نقدها"؛ و"يفتقد الكتاب بشدة المنهج التاريخي"؛ واعتماد الكتاب على "افتراضات معرفية متناقضة"؛ وتجاهل "الكتاب كتابات كثيرة لمستشرقين ألمان، كما يتجاهل الاتجاهات النسوية، حتى  بعض الشرقيين أنفسهم "؛ وعدم تفسير الكتاب "السمات المميّزة لأنماط الاستشراق المتعددة"؛ وإضمار "الكتاب لتحيزات آيديولوجية معادية للصهيونية واليهودية".

في الفصل الأول "وضع الاستشراق في مكانه"، ينتقد حلاق قول إدوارد سعيد إن:"كل أوروبي كان في كل ما قاله عن الشرق عنصرياً وإمبريالياً ومتمركزاً بالكامل حول إثنيته الخاصة". ويصفه بالتصريح "الصاعق". وتبرز نظرية سعيد الخاطئة، بحسب حلاق، "في ما أحدثه تعميمُه الجغرافي والزمني الجارف من طمس البُني الأعمق التي كان لها أن تزيد من قدرته على التمييز".
 
يعترض حلاق، في الفصل الثاني "المعرفة والقوة والسيادة الكولونيالية"، على ما ذكره إدوارد سعيد من أن الاستشراق نمط من التفكير يقوم على " (تمايز) مُفترض بين الشرق والغرب". ويري أن الاستشراق كان أدائياً ولم يكن تصويرياً بأي معنى للكلمة؛ فقد كان موضوعه ـ باعتباره بُنية مؤسسيَّة وفكرية ــ هو الشرق نفسه، فضلاً عن محاولة إعادة إنتاجه مادياً ونفسياً ومعرفياً، وهو بذلك يرتبط بالقوة بصورة لا يمكن اليوم الشك فيها".

يناقش المؤلف في الفصل الثالث "المؤلف الهدّام"، "تعقد ظاهرة الاستشراق ويحددها بصورة أكثر دقة من تحديد سعيد لها، ويبرهن ــ من جهة أخرى ــ على أن الاستراتيجات الهدامة داخل الاستشراق يمكن أن تقدم نقداً له أكثر عمقاً وتماسكاً من نقد سعيد". يُعرف حلاق المؤلف الهدّام بإنه "مرادفاً للزخم الخطابي الكامن ـ أو الجنيني، في أفضل الأحوال ـ الذي لا يرتقي أبداً إلى مستوى التشكل المناهض للمنظومة المعرفية المهيمنة". وبذهب حلاق إلى أنه  "من الصعب الاستنتاج بأن سعيداً قد فهم تماماً المضامين الكاملة لنظرية المؤلف عند فوكو. كما يبدو، وأن سعيداً ينسب لفوكو انغلاقاً نظرياً، لا يصح اتهامه به". وينتقد سعيد بالقول: إنه "يلوم الغرب ـ سياسياً ـ على سياساته المدمرة، بيد أنه يفرد الاستشراق ـ أكاديمياً ومعرفياً ـ بالإدانة، مُستثنياً سائر الحقول الأخرى من النقد". ويضيف "لم يستطع سعيد ـ وهو أحد رجالات التنوير الأقوياء ـ أن يرى أين تكمن مشكلة الاستشراق، فقد كانت نظرته للمعرفة محدودة بصورة ليست مُستغربة".

يصف المؤلف في الفصل الرابع، "السيادة المعرفية والإبادة البنيوية"، عرض إدوارد سعيد للاستشراق بوصفه استثناء، هو "قضية إشكالية، أو بالأحرى تعسفية". ومن وانسجامًا مع سردية المؤلف، يلاحظ أن: "الكولونيالية، بنوعيها الاستيطاني وغير الاستيطاني ـ إبادية بطبيعتها، وبكل ما تحمله كلمة الإبادة من مضامين تتطلب منا توسيع معنى الإبادة لتتجاوز الأشكال المادية التقليدية. وإذا قبلنا هذا الطرح يلزمنا أن نستنتج أن الأكاديمية الخاصة بالنطاق المركزي ـ وليس الاستشراق فقط ـ تنزع بطبيعتها إلى وضع الأسس الخطابية والمادية للإبادة الكولونيالية، يعني هذا أنه لا توجد علاقة منطقية ووجودية لازمة بين الأكاديمية الخاصة بالنطاق المركزي والكولونيالية من جهة، وبين الكولونيالية والإبادة من جهة أخرى". ويري حلاق "إن نقد السياسات عن الإبادة ــ تماماً كنقد الاستشراق منذ ظهور كتاب سعيد ـ يختلط بالأسطورة، ما يعني أنه محاط بحالٍ من النكران العميق".

حاول حلاق في الفصل الخامس "إعادة صوغ الاستشراق وإعادة صوغ الفرد"، البرهنة في عدة مواضع على أن "افتراضات سعيد التأسيسية وطرقه لم تكن كافية لنقد ثاقب للاستشراق؛ كما أن هذه الافتراضات والطرق أقل فائدة ـ أو ربما غير ذات فائدة ـ لأي محاولة جادة لإعادة توجيه أو إعادة صوغ هذا الحقل". فـ"قضية بقاء الجنس البشري وأشكال الحياة الأخرى لم تكن على رأس أهداف سعيد حين ألف كتاب الاستشراق". ويقدم فرضية لصوغ سردية أخرى، "تشمل التدمير البيئي العام، والفظائع الكولونيالية والإمبريالية الشاملة والقائمة على نفي إنسانية البشر، وأشكال العنف السياسي والاجتماعي غير المسبوقة، وتأسيس كيانات سياسية قاتلة، وتسميم الغذاء ومصادر المياه، والقضاء على عدد لا يحصى من أنواع الكائنات الحية؛ كما تشمل أيضاً زيادة الأخطار الصحية، وزيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء، والتفكك الاجتماعي والمجتمعي، وزيادة الفردية السيادية النرجسية والأمراض الاجتماعية والعقلية، فضلاً عن الزيادة الكبيرة في الأمراض النفسية الفردية وتلك المرتبطة بالمنظومة الشركاتية و(الزيادة الوبائية) في حالات الانتحار، وغيرها كثيرة. 

تمثل كل هذه الأمور  مجتمعة ظاهرة تستدعى الانتباه إلى ضرورة إعادة تقويم القيم الحداثية والصناعية والرأسمالية، والقيم الليبرالية بشكل خاص". ولكي "يتمكن الفهم الحديث للعلم من التعايش مع التناقضات الضخمة المتجذرة في طبيعته، لزم أن يتم تأطيره بوصفه نظرية أخلاقية".
  
وأخيراً، هذا الكتاب هو "دعوة لإعادة التفكير والنقد ومحاولة أيجاد حلول لحياة أفضل من خلال الانفتاح الواعي على كل الاحتمالات والمجالات المعرفية".

التعليقات (0)