كتب

كيف حررت المصلحة الوطنية اليابان سياسيا واقتصاديا؟

ظل سعي اليابان لكسب النفوذ في العالم العربي ثابتا ومتواصلا، فاتخذت مواقف متقدمة حيال القضية الفلسطينية تجاوزت فيها كثيرا المواقف الغربية
ظل سعي اليابان لكسب النفوذ في العالم العربي ثابتا ومتواصلا، فاتخذت مواقف متقدمة حيال القضية الفلسطينية تجاوزت فيها كثيرا المواقف الغربية
الكتاب: "اليابانيون والعرب.. الإرادة المستقلة والمصالح المشتركة"
المؤلف: نواف شاذل طاقة
الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2022


بعد عرض موجز لتاريخ اليابان "الغني والغريب والممتع" يكرّس نواف شاذل طاقة، الدبلوماسي العراقي السابق، كتابه هذا لتسليط الضوء على علاقات اليابان الدولية وبشكل خاص مع العالم العربي، في الفترة الممتدة من منتصف ستينيات القرن العشرين حتى أواخر سبعينيات القرن، في محاولة لتقديم فهم أعمق لطبيعة السياسة الخارجية اليابانية وغاياتها بعد الحرب العالمية الثانية. فبحسب طاقة ثمة وهم في اليابان وخارجها مفاده أن ليس لدى اليابان سياسة خارجية، أو أنها تقتصر على تعزيز علاقاتها الاقتصادية في أنحاء العالم كافة، وهو في الواقع ما تقوله بيانات وزارة الخارجية اليابانية بشكل ضمني.

وهناك وجهة نظر أخرى يؤمن بها عدد كبير من الباحثين والسياسيين تذهب إلى أن اليابان وبسبب تحالفها مع الولايات المتحدة الأمريكية والمعاهدات الأمنية معها، تتبع السياسة الخارجية الأمريكية وليس لديها ما تقوله في هذا المجال، وهي كما يرى زبيغنيو بريجنسكي "تطل على العالم من النافذة الأمريكية" ويصفها في الوقت نفسه بأنها " سياسة غامضة ومترددة ومتناقضة". يجادل طاقة بأن الكثير من الشواهد تؤكد أن اليابان منذ العام 1965 إلى 1980 اتبعت سياسة خارجية حازمة، كانت في كثير من الأحيان مضادة لتوجهات السياسة الخارجية الأمريكية ولا سيما في ما يتعلق بالعالم العربي، مقدمة بذلك مصالحها الوطنية على أي ارتباطات أو اتفاقيات أمنية مع أمم أخرى.

حليفان ولكن

تجسدت أهداف السياسة الخارجية اليابانية ، منذ انتهاء الاحتلال في العام 1952 لغاية سبعينيات القرن الماضي، في "تعزيز ازدهارها، وضمان أمنها، ونيل الاعتراف بها كقوة عالمية رائدة". إن هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية وما تلاها من توقيع على المعاهدات الأمنية مع الولايات المتحدة الامريكية في الأعوام 1951 و1960التي تمخضت عن منح الأخيرة قواعد عسكرية، جعلت اليابان تشعر أن بوسعها ضمان أمنها القومي من أي تدخل أجنبي. 

لكن اليابان بدأت في الوقت ذاته تطوير قدرات قواتها العسكرية باتت معه قادرة على حماية البلاد من جاراتها ومن القوى الكبرى، وهو ما جعلها أيضا تخفف اعتمادها على الولايات المتحدة وأكثر قربا من تحقيق هدفها في نيل مكانة دولية أكبر. وفي الجانب الاقتصادي تمكنت اليابان من تحقيق نمو اقتصادي لافت حتى وإن كان بدعم وتشجيع من الولايات المتحدة. يذكّر طاقة أنه وبسبب سياسات الولايات المتحدة في اليابان فقد حرمت طوكيو من أسواقها التقليدية والمكملة لاقتصادها المرتبطة بالمواد الخام في دول آسياالمجاورة، ولهذا وجدت اليابان نفسها مرغمة على الاعتماد على الأسواق الأمريكية الشمالية الباهظة الكلفة من أجل تلبية متطلباتها الداخلية. لكنها في الوقت نفسه غدت أكبر سوق منتجات زراعية في العالم للولايات المتحدة. 

خلال حقبة الخمسينيات والستينيات ومطلع السبعينيات حافظت اليابان على حياديتها وموقفها السياسي المتحرر من تقديم أي التزام حيال الصراع العربي ـ الإسرائيلي. لكنها مع ذلك صوتت في الأمم المتحدة لصالح القرار (242) الذي دعا إلى انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة عام 1967. وفي العامين 1970 و1971 صوتت لقرارين لصالح الفلسطينيين كانت الولايات المتحدة قد صوتت ضدهما.

مع حلول عام 1965 ظهر عجز تجاري بين الولايات المتحدة واليابان لصالح طوكيو، بعده ازداد النمو الاقتصادي الياباني بشكل ثابت وسريع طوال خمس سنوات. في هذه الفترة ظهرت مدرستان سياسيتان في اليابان هيمنتا على عملية صنع القرار السياسي الخارجي؛ "المثالية الحديثة"، و"الواقعية الحديثة". 

أصحاب المدرسة الأولى معارضين لمشاركة اليابان في تطبيق "سياسة الاحتواء وإعادة التسلح والقواعد العسكرية الأمريكية.." أو ضد كل ما كانت تريده الولايات المتحدة من اليابان. وأصحاب المدرسة الثانية دعوا إلى علاقات أكثر قربا مع الولايات المتحدة ، لكن في الوقت نفسه تطبيع العلاقات مع الصين، والسعي إلى تحقيق استقلال ذاتي ياباني أكبر. في المحصلة كانت المدرستان تطالبان بما يخالف الرغبات السياسية الأمريكية، ما يجعل من الصعب النظر إلى اليابان وأمريكا كحليفين حقيقيين.

يقول طاقة إن رغبة اليابان في الحفاظ على علاقات طبيعية مع الصين ترجع إلى مطلع عام 1948. إذ اعتقد رئيس الوزراء يوشيدا في ذلك الوقت أن صين شيوعية وموحدة قد تكون أفضل شريك اقتصادي لليابان. بيد أن الولايات المتحدة مارست ضغوطا شديدة على اليابان في أعقاب الحرب الكورية من أجل تقويض العلاقات بين البلدين. ما حدث أنه في العام 1965 أسس أعضاء من الحزب الديمقراطي الليبرالي الياباني مجموعة كانت تدعو إلى تطبيع العلاقات مع الصين، وفي نهاية عقد الستينيات اكتسبت هذه المجموعة تعاطفا وتأييدا أكثر داخل الحزب الحاكم وداخل أحزاب المعارضة على حد سواء. وفي العام 1970 كانت الصين هي الشريك التجاري الأول لليابان لتستحوذ على 20% من إجمالي التجارة الخارجية الصينية. لقد كانت اليابان تمضي وراء مصالحها الوطنية.

تحول تدريجي

إلى جانب دول شرق آسيا التي تحظى باهتمام مباشر من جانب السياسة الخارجية اليابانية، فقد شكلت منطقة الشرق الأوسط موضع اهتمام كبير آخر لليابان لاعتبارات اقتصادية وسياسية. خلال حقبة الخمسينيات والستينيات ومطلع السبعينيات حافظت اليابان على حياديتها وموقفها السياسي المتحرر من تقديم أي التزام حيال الصراع العربي ـ الإسرائيلي. لكنها مع ذلك صوتت في الأمم المتحدة لصالح القرار (242) الذي دعا إلى انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة عام 1967. وفي العامين 1970 و1971 صوتت لقرارين لصالح الفلسطينيين كانت الولايات المتحدة قد صوتت ضدهما. 

في العام 1971 ضغطت المملكة العربية السعودية على اليابان باتجاه ضرورة تبني موقف واضح ومؤيد للقضية الفلسطينية، خلال زيارة الملك فيصل آل سعود إلى طوكيو، وهو ما استجابت له اليابان، حيث أشار البيان المشترك بشكل واضح إلى ضرورة حل القضية على أساس قرارات الأمم المتحدة وحصول الشعب الفلسطيني على حقوقه القانونية. يقول طاقة بأن نظرة فاحصة للنمط الذي انتهجته اليابان في التصويت على القرارات الخاصة بالقضية الفلسطينية في الأمم المتحدة يعكس بشكل لا يقبل الشك السياسة الخارجية اليابانية الجديدة و المستقلة منذ أواخر الستينات، والتي سارت فيها على نهج معارض للخيارات الامريكية ومؤيد للدول العربية.

إن اندفاعة اليابان باتجاه الدول العربية لم يكن محركها فقط الحرص على الإمدادات النفطية، فقد سعت بعد العام 1973 إلى تطوير علاقاتها مع عدد من الأطراف والبلدان العربية التي لم تكن نفطية، إنما كان لها تأثير وحضور سياسي كبير مثل منظمة التحرير الفلسطينية ومصر.
حتى تاريخ اندلاع حرب أكتوبر 1973 بين العرب وإسرائيل كان العرب ينظرون إلى اليابان بوصفها دولة محايدة في ما يخص الصراع العربي الإسرائيلي، لكن اليابان غيرت من سياستها الخارجية واختارت الوقوف إلى جانب العرب خلافا لرغبات حليفتها التاريخية الولايات المتحدة، وخلافا لرغبة إسرائيل. يرجع البعض هذا التحول إلى اتباع اليابان "سياسة نفطية" أو دبلوماسية موارد" سيما مع استخدام العرب للنفط كسلاح في هذه الحرب. كانت اليابان أكثر البلدان هشاشة بسبب اعتمادها الكلي على النفط المستورد، فقد كانت تستورد نحو 99% من استهلاكها النفطي من خارج البلاد، غير أن طاقة يلفت إلى أن خزين اليابان ومستقبل إمداداتها النفطية لم يكن قاتما كما يعتقد البعض. فقد حصلت على وعد من إيران بإمدادات نفط غير منقطعة. 

كما أن اليابان لم تكن تحصل على نفطها من الشرق الأوسط عبر هقود مباشرة مع البلدان المصدرة إنما عبر شركات النفط الكبرى. يشير طاقة إلى أن ما نسبته 46% من النفط المستورد لم يكن خاضعا لإجراءات المقاطعة العربية.مع ذلك فقد مارست الدول العربية ضغطا دبلوماسيا على اليابان لدعم الموقف العربي، حيث لم تكن راغبة في ذلك الوقت باتخاذ قرار مبكر، سيما مع تواصل الضغوط الأمريكية عليها بهذا الشأن. وفي الوقت نفسه لم تكن ترغب بالبقاء من دون حراك  فأوفدت سفيرها السابق لدى المملكة العربية السعودية في مهمة سرية إلى منطقة الخليج. عدا ذلك فقد مارست وسائل الإعلام المحلية ضغوطا أخرى على الحكونة اليابانية مطالبة إياها باتخاذ مواقف أكثر وضوحا  ودعما لشعوب الدول النامية، وأكثر استقلالية عن الولايات المتحدة.

في نوفمبر 1973 أعلنت اليابان عن سياستها الجديدة حيال الشرق الأوسط حيث أكدت على ضرورة الالتزام بقرارات الأمم المتحدة بخصوص الصراع العربي الإسرائيلي، وعدم القبول بالاستيلاء على أية أراضي باستخدام القوة، وطالبت بانسحاب اسرائيل من جميع الأراضي المحتلة عام 1967، والاعتراف بجميع الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. رحب العرب بهذا الإعلان بينما انتقدته الولايات المتحدة واعتبرته تصرفا من شأنه تعقيد الحل السلمي للصراع. وبعد مضي أسبوع من تاريخ هذا الإعلان قررت الدول العربية استثناء اليابان من خفض إمدادات النفط . وأرسلت اليابان مبعوثا خاصا لتماني دول عربية، كما أوفدت نائب رئيس الوزراء إلى الشرق الأوسط وأعلنت عن تقديم خمسة ملايين دولار كمساعدات إنسانية للاجئين الفلسطينيين عبر الأمم المتحدة.

بحسب طاقة فإن اندفاعة اليابان باتجاه الدول العربية لم يكن محركها فقط الحرص على الإمدادات النفطية، فقد سعت بعد العام 1973 إلى تطوير علاقاتها مع عدد من الأطراف والبلدان العربية التي لم تكن نفطية، إنما كان لها تأثير وحضور سياسي كبير مثل منظمة التحرير الفلسطينية ومصر.

يقول طاقة أنه بدون شك "استغلت اليابان ما يسمى بصدمة النفط لتحول سياسي خلق لها نفوذ جديد في العالم العربي يخلصها من سيطرة وتبعية الغرب النفطية، ويساعدها على الهيمنة على أسواق واعدة الدول العربية، ناهيك عن تحقيق طموحات وتطلعات داخلية خاصة بالسياسيين أنفسهم. على الرغم من أهمية النفط لها إلا أنه كان آخر اهتمامات اليابان في قائمة متطلباتها".

يضيف طاقة: "ظل سعي اليابان لكسب النفوذ في العالم العربي ثابتا ومتواصلا، فاتخذت مواقف متقدمة حيال القضية الفلسطينية تجاوزت فيها كثيرا المواقف الغربية، عندما اعترفت بحقوق الشعب الفلسطيني، ووافقت على افتتاح مكتب لمنظمة التحرير الفلسطينية في طوكيو، فضلا عن المساعدات المالية السخية التي قدمتها للفلسطينيين. وفي علاقتها مع مصر عملت بثبات على تنمية هذه العلاقات إبان فترة العداء الأمريكي لمصر وبعده". لكنه يلفت إلى أن اقتراب اليابان في مواقفها من القضايا العربية المصيرية لم يكن ليتحقق لولا الموقف العربي الموحد والحازم الذي أبدته الأقطار العربية مجتمعة حيال العديد من قضايا الأمة المصيرية.  

التعليقات (0)