كتب

الإمبريالية أسست لأزمات الخليج الاقتصادية والاجتماعية

تجزئة منطقة الخليج والجزيرة العربية وتكريس الحدود المصطنعة والتدخل الهائل للدولة بالاقتصاد وضع عراقيل أمام الاستثمار
تجزئة منطقة الخليج والجزيرة العربية وتكريس الحدود المصطنعة والتدخل الهائل للدولة بالاقتصاد وضع عراقيل أمام الاستثمار

الكتاب: "المجتمع والدولة في الخليج والجزيرة العربية من منظور مختلف"
المؤلف: خلدون حسن النقيب
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية


هذا الكتاب واحد من خمسة بحوث ضمن مشروع "استشراف مستقبل الوطن العربي" صدرت عن مركز دراسات الوحدة العربية، وهو مشروع علمي جماعي كبير تشارك فيه مجموعة من الأساتذة والخبراء العرب، للتعرف إلى إمكانات وقدرات الوطن العربي حاضرا ومستقبلا في إطار المتغيرات العديدة التي تحكم النظامين الإقليمي والعالمي. يقوم المشروع على أربعة محاور مترابطة؛ الأول هو العرب والعالم، والثاني هو التنمية الاقتصادية العربية، والثالث عن المجتمع والدولة، والرابع حول النموذج النسقي العام لمجمل التفاعلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الوطنية والقومية والإقليمية والدولية، في الماضي والحاضر وأهم احتمالاتها المستقبلية. 

أما خلدون النقيب، الباحث والمفكر الكويتي، فيلفت إلى أن أحد أهداف دراسته هذه هو "البحث عن منهج جديد مناسب للتعامل مع المنطقة (الخليج والجزيرة العربية) يمكن أن يولد فهما أفضل لها في الإطار التاريخي للأحداث والظواهر، بحيث يبدو الحاضر في النهاية كأنه وليد طبيعي لبيئته الحضارية وليس مسخا أفرزته الصناعة النفطية". 

ويقول إن الكتابات عن الخليج والجزيرة العربية يمكن تصنيفها،عموما، إلى نوعين رئيسيين؛ الأول الذي أنتجه المؤرخون التقليديون والمستكشفون والموظفون الاستعماريون والأنثروبولوجيون والإثنوغرافيون. والثاني أنتجه ومازال ينتجه الصحافيون والخبراء الاقتصاديون والمؤرخون الموثقون.

وبحسب النقيب فإن الحصيلة النهائية للنوع الأول من الكتابات هي ظهور التنظيمات القبلية على أنها الحقيقة الراسخة الساطعة، ومن ثم ظهور ما عداها في ضوء باهت يغلف البنى الاجتماعية والاقتصادية الشائعة التي تفتقر إلى الجذور التاريخية الواضحة. أما حصيلة النوع الثاني فتتمثل في انبهار الكتاب بالثروة النفطية والإمكانات والطاقات الهائلة التي يمكن أن يطلقها الدخل المتأتي من النفط، وقد شابها الكثير من المبالغة في التوقعات الايجابية. هذه الكتابات لا تجدي في محاولة تحليل علاقة الدولة بالمجتمع، وبالتالي، يقول النقيب، إن مهمته الأولى يجب أن تكون في تقديم منظور مختلف للبنى الاجتماعية والاقتصادية في المنطقة. منظور يسميه "أطروحة الحالة الطبيعية" يعيد بواسطته تفسير الظواهر والأحداث التي درستها وتطرقت إليها المصادر والكتابات سابقة الذكر.

الحالة الطبيعية

يوضح النقيب ما يقصده باقتصاد "الحالة الطبيعية" بأنه الحصيلة الدينامية للبنى الاجتماعية ـ الاقتصادية، ولعمل القوى السياسية والخصائص المميزة للعلاقات الاجتماعية السائدة في مجتمع الخليج والجزيرة في فترة محددة من الزمن هي مطلع القرن السادس عشر مثلا. وهذا المنظور يكشف حقيقة مغايرة لكل الاستنتاجات التي يمكن استخلاصها من الكتابات عن مجتمع الخليج والجزيرة، وهي أن التجارة أهم أساليب توليد الفائض الاجتماعي، وأنها تمثل شبكة هائلة عريقة من العلاقات والنشاطات، متباينة النمو والنضج تسير في اتجاهين: إلى الخارج فتؤدي إلى نمو المدن التجرية الساحلية، وإلى الداخل فتولد التحالفات القبلية الرئيسية حول مدن وقرى الداخل الاستراتيجية. 

وهذه الشبكة ليست وليدة نشاطات اقتصادية بحتة فقط، وإنما هي نتيجة ضغوط سكانية ونشاطات سياسية واسعة النطاق. يقول:" إن هذه الحقيقة التاريخية (أي أسبقية التجارة أو نمط الإنتاج المركنتالي) تقلل كثيرا من أهمية الادعاءات المبالغ فيها والقائمة على افتراض أن اقتصاد الرعي والغزو لمجتمع الجزيرة العربية القبلي يمكن أن يكون مكتفيا بذاته وقابلا للحياة كل هذه القرون. ويمكن الاستدلال على هذه الحقيقة من الدور الكبير الذي لعبته المدن التجارية الساحلية، وكون المدن والقرى الاستراتيجية القبلية قد نشأت حول طرق المواصلات التجارية البرية، ومنها ما كان متجها كليا إلى الخارج (مراكز لتجارة المرور أو الترانزيت)، ومنها ما كانت مدنا للاستيراد والتصدير كالبصرة والبحرين والقطيف ومسقط".

 

إن "بلدان الخليج والجزيرة العربية، بمواردها المالية الضخمة، في وضع أفضل من أي بلد عربي آخر لتبني مشروع قومي تنموي متمفصل بوضوح حول القضايا المحورية للأمة، ومعبرا عن رغائب السكان. وهو الأداة المناسبة لإعادة تعبئة عامة السكان نحو تحقيق البديل الواضح في الحكم الدستوري الديمقراطي، ولإعادة قدر من التوازن إلى حياة المجتمع العربي في الخليج والجزيرة

 



الهدف من طرح مفهوم الحالة الطبيعية ، بحسب ما يقول النقيب، توضيح أسس ومصادر الأزمة البنائية التي كان المجتمع العربي في الخليج والجزيرة العربية يعاني منها، تحت ضغط الإمبريالية الغربية والنشاطات الاستعمارية المتزايدة في المنطقة، والتي جسدها تجسيدا حيا سقوط هرمز عام 1622. فبعد هذا التاريخ سارت المركنتالية العربية من انحسار إلى انحسار. وما إن انتصف القرن التاسع عشر حتى اكتمل استيعاب المنطقة في نظام العالم الاقتصادي للرأسمالية الغربية. فأصبحت المنطقة هامشية جدا تختص بإنتاج نوع من السلع الثانوية موجهة إلى السوق العالمي وليس إلى السوق المحلية كما كانت في السابق. تزامن ذلك مع ميلاد الخطة الإمبريالية العظمى لبريطانيا في المشرق والجزيرة، والتي تعود جذورها، بحسب النقيب، إلى مواجهة الانتفاضة النهضوية المصرية في زمن محمد علي ومنع تكرارها.

استهدفت هذه الخطة إحكام ربط الخليج والجزيرة والمشرق العربي ببريطانيا، عن طريق تجزئة بلدان المنطقة ومنع اتحادها، حتى بعد الاستقلال. يوضح النقيب أن تجزئة منطقة الخليج لم يخضع لأي مبرر تاريخي أو مادي لوجود كيانات مستقلة ذات سيادة، إنما خضع كليا لمتطلبات واعتبارات السياسة الإمبريالية العالمية، وكان هذا جليا في "الاعتباطية الرهيبة المحزنة التي اتصفت بها عملية ترسيم الحدود في مؤتمر العقير لعام 1922.".

طريق مسدود

يتابع النقيب أن ما بين سقوط هرمز ومؤتمر العقير ثلاثة قرون تفصل بينها أزمتان بنائيتان: الأولى أدت إلى الانحسار الاقتصادي الذي مهد للامبريالية الاستعمارية على الخليج والجزيرة العربية. والثانية مهدت لدخول بلدان المنطقة في عصر الدولة التسلطية التابعة، وهي أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية ، و"أزمة حضارية تتصل بمحاولة العرب عموما تحديد مركزهم من تاريخهم وتراثهم وحضارتهم ومن الحضارة العالمية كآخذين ومعطين". لكن لماذا تؤدي سياسات هذه الدولة التسلطية التابعة إلى أزمة بنائية تتمثل في الركود الاقتصادي والاجتماعي والحضاري الملازم لسياستها؟ 

يجيب النقيب بأن تنظيمات وسياسات هذه الدولة تقود في أغلب الأحوال إلى طريق مسدود، بسبب هيمنة البيروقراطية المركزيةعلى الاقتصاد والمجتمع، بشكل يحد من إمكانات التنمية الحقيقية، خوفا من زعزعة الترتيبات والعلاقات الاجتماعية المتخلفة التي تضمن للنخبة الحاكمة استمرار استئثارها بمصادر القوة والثروة في المجتمع. 

إن تجزئة منطقة الخليج والجزيرة العربية وتكريس الحدود المصطنعة والتدخل الهائل للدولة بالاقتصاد، وتاليا اختلاف التشريعات الاقتصادية، نتج عنها وضع قيود ثقيلة على الاستثمار عبر الحدود بين بلدان الجزيرة والمشرق العربي، وهي أوضاع شجعت على تصدير رؤوس الأموال العربية إلى أسواق أوروبا الغربية وشمال أمريكا. ثم إن الرخاء والازدهار اللذين شهدتهما دول الخليج كانا ظاهرين سطحيين، لأنهما اعتمدا على الإنفاق الحكومي دون أن يصاحب ذلك توسيع للقاعدة الانتاجية في الاقتصاد. كما أن الاحتكار لمصادر القوة والثروة الذي تمارسه النخب الحاكمة يخلق منغلقات للحراك الاجتماعي ، سيؤدي بمرور الزمن إلى الاحتكاك بين الطبقات والدرجات الاجتماعية. فالحكومات والفئات العليا من البيروقراطية الحكومية تتشكل من فئات معينة لا تتجاوز حدود الأسرة الحاكمة وكبار التجار وبعض أبناء الطبقة الوسطى ممن يحظون بعلاقات وطيدة معهم. هذه الحال تولد أوضاعا يزداد فيها الضغط على النظام السياسي، وتؤذن باندلاع صراع اجتماعي واسع النطاق بين النخب الحاكمة وعامة السكان. 

مشروع قومي تنموي

يرى النقيب أن ثمة إمكانية لوجود بديل للدولة التسلطية، يتمثل في تسييس الأغلبية القبلية في المدن بتحالفها مع التجار والطبقات الوسطى، بحيث تحرم النخبة الحاكمة من قاعدتها الاجتماعية الرئيسية، ومن المستودع البشري الضخم الذي توظف منه كوادر أجهزة القمع. لكن صعوبة تحقيق ذلك تكمن في أن القبائل التي استقرت في المعازل أو "الغيتو المكيّف الهواء في ضواحي مدن النفط الميتروبوليتانية تؤدي الدور نفسه الذي تؤديه الطبقات الدنيا المسحوقة في مدن الصفيح على أطراف المدن العربية الكبرى.فهذه القبائل ليست بروليتاريا، وهي مكونة في الغالب من موظفين يشغلون الدرجات الوسطى والدنيا في السلم الوظيفي المدني والعسكري، وهم ينتظمون في التضامنيات القبلية التي تمثل وسيلتهم الوحيدة لتحقيق المكاسب وللاحتماء بها وقت الحاجة.. وهي لا تملك ولا تبدي أي ميل إلى الانتماءات الايديولوجية" ومع ذلك فالنقيب يرى أن قوى المعارضة يمكن أن توظف هذا "المستودع الهائل من القوى الاجتماعية" إذا استطاعت أن تستثمر مطالبه المشروعة غير المجابة. 

يلفت النقيب إلى أن السياسة الإمبريالية في المنطقة عملت في بداية الثلاثينات من القرن الماضي على خلق محاور محلية تساعد الدول الاستعمارية على بسط نفوذها وسيطرتها، هي المملكة العربية السعودية، والعراق الملكي، وإيران الشاه. وبعد هزيمة حزيران 1967 كان الهدف المباشر لهذه السياسة هو تصفية القضية الفلسطينية التي تمثل أحد مصادر عدم الاستقرار المزمنة. يقول النقيب:" للقوى المحافظة في المنطقة مصلحة مباشرة واستثمار كبير في تصفية القضية الفلسطينية، وهذه التصفية في حال حدوثها، مع تعميم أساليب التنسيق الأمني ـ (الذي يعد هدفا مباشرا لتشكيل مجلس التعاون الخليجي) ـ بين البلدان العربية الخليجية والمشرقية، يجعلنا لا نتوقع إلا مزيدا من الأعراض المرضية التي تعصف بالمجتمع العربي في الخليج والمشرق". 

ويتابع: إن "بلدان الخليج والجزيرة العربية، بمواردها المالية الضخمة، في وضع أفضل من أي بلد عربي آخر لتبني مشروع قومي تنموي متمفصل بوضوح حول القضايا المحورية للأمة، ومعبرا عن رغائب السكان. وهو الأداة المناسبة لإعادة تعبئة عامة السكان نحو تحقيق البديل الواضح في الحكم الدستوري الديمقراطي، ولإعادة قدر من التوازن إلى حياة المجتمع العربي في الخليج والجزيرة، ليخرجه من الجمود السياسي والاقتصادي والحضاري الذي تفرضه عليه سياسات الدول التسلطية".


التعليقات (0)