تقارير

الشاعر محمود حسين مفلح.. هوية فلسطينية بروح مغايرة

محمود مفلح صاحب تجربة إبداعية مستمرة منذ أربعة عقود، ويصنّفه النقاد من شعراء الصّف الأول
محمود مفلح صاحب تجربة إبداعية مستمرة منذ أربعة عقود، ويصنّفه النقاد من شعراء الصّف الأول
مع اندلاع انتفاضة الحجارة أواخر العام 1987، بدأتُ بنظمِ الشعر الموزون، وتوجّه اهتمامي بالشعر وأوزانه وتراكيبه وصياغاته ونماذجه، ولما كان هذا الشعر وطنياً ملتزماً، كان أول شاعر فلسطيني أشتري مجموعة شعرية له هو الشاعر محمود مفلح، الذي كان من أوائل الذين كتبوا عن الانتفاضة بروح إسلامية، بعيدا عن الإلحاد الإلزامي والبذاءة الثورية في الشعر الوطني الفلسطيني.

وفي أثناء بحثي خلال الأيام الماضية في شعره، وجدت من ينسبه إلى العروبة ومن ينسبه إلى الإسلام، ومن ينسبه إلى الثورة والوطن، ومن ينسبه إلى العشق الوطني.. وحقيقة الأمر أن شاعرنا كل أولئك من غير أن يُلزم نفسه بمنهج محدد، فشاعرنا فلسطيني الوطن، عربي اللغة، إسلامي ملتزم بتديُّنه، ثائر على التفريط بالوطن، عاشق لكل ما سبق.

والشاعر محمود مفلح، من عشيرة عُرفت بكثرة شعرائها، ومن أسرة شعراء أيضاً: جدُّه كان شاعراً، وأبوه كان شاعراً شعبياً، وإخوته محمد وأحمد كانا شاعرين، فورث الشعر عن أسرته وطوّر إنتاجه واهتمّ به، ففاق أقرانه وكان شاعراً موهوباً ورث الشعر من عائلته واكتسبه بالدُّربة والاجتهاد.

ترجمته

ولد الشاعر محمود حسين مفلح في قرية سمخ على ضفاف بحيرة طبرية بفلسطين عام 1943. وكان في الخامسة من عمره حين ضربت النكبة البلاد عام 1948، فلجأ مع عائلته إلى سورية، وكما فعل معظم اللاجئين، فإنهم حاولوا أن يبقوا قريبين من بلادهم، فاستقر أهله في مخيم اللاجئين الفلسطينيين في درعا.

درس المراحل التعليمية الابتدائية والإعدادية والثانوية في درعا. ثم توجّه إلى جامعة دمشق لاستكمال تعليمه الجامعي، وتخرج في سنةٍ طبعت نكسةً في الوجدان العربي، عام 1967، حاملاً إجازة في اللغة العربية.

بعد حصوله على الشهادة الجامعية عمل في التعليم الثانوي في القامشلي، ثم عاد إلى مدينة درعا، ليدرس فيها عدة سنوات. ثم توجّه إلى المغرب العربي للتدريس بنظام الإعارة عام 1976.

ثم انتقل للعمل في المملكة العربية السعودية موجهاً تربوياً لمادة اللغة العربية.

وشاعرنا عضو في اتحاد الكتاب العرب بدمشق، وعضو في اتحاد الكتاب الفلسطينيين، وعضو في رابطة الأدب الإسلامي العالمية.

نظم القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة، وابتعد عن الشعر الحرّ، فلم يطلق اسم القصيدة عليه، بل سماه "النثيرة"، وكتب القصة القصيرة، ونشر المقالات في مجال النقد الأدبي في الدوريات والمجلات العربية.

هو صاحب تجربة إبداعية مستمرة منذ أربعة عقود، ويصنّفه النقاد من شعراء الصّف الأول رغم بقائه في الظل، قُدِّمت عنه عدة أطروحات أكاديمية في الجامعات العربية، وتناوله النُّقاد بالدراسة والبحث، ولا يزال يعيش في الظل بعيداً عن الأضواء بسبب الأجواء الفاسدة، ويقول "أفخر بانتمائي لقافلة شُعراء الظّل المُهمَّشين غير المؤدلجين بعيداً عن الطبّالين والزمّارين وبائعي القضية وحاملي الأوسمة المزيفة"، لكنه يؤكد أن الحقيقة ستظهر يوماً ويزول التعتيم عن الأدباء الحقيقيين غير المؤدلجين.

وما لا يعرفه الكثيرون، أن الشاعر مفلح ترك الشعر مضطراً اثنتي عشرة سنة، بين الأعوام 1994 و2006، التي سماها سنوات الجمر والقهر والظلم والغوغائية.

لا يخفى النفَس الإسلامي في مضامين شعره، وتراكيبه المكونة من الألفاظ والتعابير الإسلامية، كما في قصيدته "عذراً يا سيدي"، التي يقول فيها:

ما هم بأمة أحمد.. لا والذي فطر السماءا
ما هم بأمة خير خلق الله بَدءاً وانتهاءا
ما هم بأمة سيدي.. حاشا فليسوا الأكفياءا
ما هم بأمة من على الأفلاك قد ركز اللواءا
من حطّم الأصنام مَن أرسى العدالة والإخاءا
من قال إن الله رب الناس خالقهم سواءا
لا فضل إلا للصلاح فلا انتساب ولا ادعاءا

ومفلح شاعر الاغتراب الجبري إذ يقول عن نفسه "لا أعلم شاعراً فلسطينياً اغترب اغترابي وارتحل من فلسطين إلى سورية ثم المغرب فالسعودية ومصر، وبالتأكيد هناك محطات أخرى تنتظرني؛ إن لم يتدخل القبر ويُنهي رحلة الضياع هذه.. بعد أن غادرني أبنائي وركبوا البحر إلى مهاجرهم الجديدة؛ في لحظاتٍ كانت هي الأقسى". فضلاً خسارته أكثر من خمسة آلاف كتاب في ظروف الهجرة القسرية بعد الأزمة السورية، وقد بقي وحيداً في مصر بعد هجرة أبنائه ووفاة شقيقه الشاعر أحمد وابنته وزوجته. فكتب باكياً:

كلُّهم غادروني ولم يبقَ منهم أحدْ
آهٍ يا ابن البلدْ
وطنٌ رائعٌ أم زبدْ؟
كلهم غادروني ولم يبقَ حتى رماد السجائر
حتى فتاتُ الكلامْ
كلهم رفرفوا..أَوْغلوا في الزحام!
إلى أين تمضون؟ لا تتركوني وحيداً
على حجر الموت أنزف
لا تتركوني وهذا الأسى والحطام

وكم هو محزن حزنُه من اغتراب الهوية الفلسطينية وظلم ذوي القربى، الذي هو "أشد مضاضة في النفس من وقع الحسام المهند"، وكيف أن أبناء دين الفلسطيني يعاملون "وثيقة السفر" التي ألزموه بها بازدراء وافتراء واتهامات جاهزة، وهذا ما دفعه إلى القول ساخراً وباكياً في آنٍ واحد:

صَدَقتمْ.. دينكم ديني
ولكنّي فلسطيني!
وأتلو مثلكم في الفجر والزيتون والتين
ولكنّي فلسطيني!
وما وجدوا سوى ظهري لأمطار السكاكين
لأني من فلسطين
وقالوا: أنت ممنوعٌ سوى من جوف تنّين
لأنك من فلسطين!

من مؤلفاته

للشاعر محمود مفلح عشرون ديواناً فضلاً عن الكتابات القصصية والنقدية، ومن مؤلفاته:
ـ مذكرات شهيد فلسطيني، شعر، دمشق 1976.
ـ المرايا، شعر، بيروت 1979.
ـ الراية، شعر، عمان 1983.
ـ حكاية الشال الفلسطيني، شعر، الرياض 1984.
ـ شموخاً أيتها المآذن، شعر، عمان 1987.
ـ البرتقال ليس يافوياً، شعر، الرياض.
ـ إنها الصحوة.. إنها الصحوة، شعر، المنصورة، 1988.
ـ نقوش إسلامية على الحجر الفلسطيني، شعر، المنصورة 1991.
ـ لأنك مسلم، شعر، المنصورة 1995.
ـ فضاء الكلمات، شعر، الرباط 1987.
ـ المرفأ، قصص، دمشق 1977.
ـ القارب، قصص، بيروت 1979.
ـ إنهم لا يطرقون الأبواب، قصص، الرياض 1985.
ـ ذلك الصباح الحزين، قصص، الرياض.
ـ غرِّد يا شبل الإسلام، أناشيد للأطفال، عمان 1991.
ـ  قراءات في الشعر السعودي المعاصر.
ـ لا تهدموا البرج الأخير، شعر، 2016.

نماذج من شعره

قصيدة "الراحلون"

رَحَلْنا قبلَ أن يَقَعَ الرَّحيلُ                 ..             وتمّتْ في مَسارحِنا الفُصولُ
وكانَ لنا من الأَزراءِ سَهْمٌ               ..             وفي مأساتِهم باعٌ طويلُ
فكم هتَفوا بنا غوثاً فطارتْ         ..             لِنجدَتِهم قوافينا الخُيولُ
ولولا رقدةُ الأمواتِ فينا               ..            لَما برزتْ بِسَوءَتها الحُلولُ
ولكنَّ الجِيادَ جيادَ قومي               ..            أضرَّ بها معَ البطَرِ الخُمُولُ
فلا الميدانِ يعرِفها نهاراً              ..            ولا ذاكَ الصَّهيلُ هوَ الصَّهيلُ
ويسألُ مَنْ يمرُّ بها أَهَذي             ..            خُيولٌ للمعاركِ أم عُجولُ
وظلّوا ينزفونَ على الروابي          ..            وشمسُهمُ لِمغربها تميلُ
يذوبُ الصَّخرُ مِن وجعٍ عليهم        ..            وتغتمُّ المرابعُ والسُّهولُ
قِلاعٌ للصُّمودِ وقد تهاوَتْ             ..           ألا يبكي الصُّمودَ فتىً نبيلُ

...

"نقوش إسلامية على الحجر الفلسطيني"

شُدُّوا الْخِنَاقَ فَأَنْتُمْ وَجْهُنَا الْقَمَرُ         ..         وَفِي أَكُفِّكُمُ قَدْ غَرَّدَ الْحَجَرُ
شُدُّوا الْعِنَاقَ فَقَدْ ضَاعَتْ مَلامِحُنَا      ..         وَزَاغَ فِي التِّيهِ مِنَّا السَّمْعُ وَالْبَصَرُ
يَا مَنْ بَزَغْتُمْ بِهَذَا اللَّيْلِ أَوْسِمَةً           ..         وَلَسْتُ لِلأَنْجُمِ الزَّهْرَاءِ أَعْتَذِرُ
أَنْتُمْ سَنَابِلُ هَذَا الْعُمْرِ فِى بَلَدِي         ..        وَفِي لِهَاثِ الصَّحَارِى أَنْتُمُ الْمَطَرُ
أَنْتُمْ خُيُولُ بَنِي الإِسْلامِ جَامِحَةً          ..        يَقُودُهَا زَمَنُ الإِسْرَاءِ وَالظَّفَرُ

***

مِنَ الْخِيَامِ خَرَجْتُمْ تَعْزِفُونَ لَنَا      ..        لَحْنَ الْفِدَاءِ فَجُنَّ اللَّحْنُ وَالْوَتَرُ
ظَنُّوا بِأَنَّكُمُ مَوْتَى بِلا حُفَرٍ            ..         وَهَالَهُمْ أَنَّهَا تَدْعُوهُمُ الْحُفَرُ
وَقَدْ رَمَيْتُمْ بِأَحْجَارٍ مُسَوَّمَةٍ         ..         عَلَى رُؤُوسِهِمُ أَلْقَتْ بِهَا سَقَرُ

***

مَنْ قَالَ إِنَّ بَنَانَ الطِّفْلِ يَا وَطَنِي           ..            يَوْماً سَتَلْمِسُ تَارِيخاً فَيَنْفَجِرُ؟!
مَنْ قَالَ إنَّ خُطَا الأَطْفَالِ مُرْعِبَةٌ           ..            وَإِنَّهُ مِنْ خُطَاهُمْ يَبْدَأُ السَّفَرُ؟!
مِنْ أَيْنَ جَاؤُوا؟ وَلَمْ يَحْمِلْ بِهِمْ نَبَأٌ       ..             وَلا تَمَخَّضَ عَنْهُمْ قَطُّ مُؤْتَمَرُ
جِيلٌ مِنَ الصَّخْرِ قَدْ قُدَّتْ مَلامِحُهُ        ..             وَمِنْ رَمَادِ الشَّظَايَا أَوْرَقَ الشَّجَرُ
جِيلٌ تَأَلَّقَ فِي آفَاقِهِ حَجَرٌ                      ..              أَسْتَغْفِرُ اللهَ، بَلْ هَزَّ الْوَرَى حَجَرُ
فَلا الْمَدَافِعُ أَجْدَتْ فِي قَذَائِفِهَا        ..             وَلا الْقَذَائِفُ قَدْ أَسْرَى بِهَا خَبَرُ؟!

***

هَاتِي الزَّغَارِيدَ يَا أُمَّاهُ عَالِيَةً                 ..               فَإِنَّ أَطْفَالَنَا فِي الْقُدْسِ قَدْ كَبِرُوا
ضُمِّي الشَّهِيدَ وَلُفِّي فِي عَبَاءَتِهِ         ..                كُلَّ الْجِراحِ فَلا يَبْقَى لَهَا أَثَرُ
فَإِنَّ هَذَا زَمَانٌ فِيهِ عَلَّمَنَا                       ..                طِفْلُ الْحِجَارَةِ أَلاَّ يَرْكَعَ الْحَجَرُ
وَإِنَّ هَذَا زَمَانٌ لاحَ عَارِضُهُ                       ..                وَلِلْعَقِيدَةِ فِيهِ الْقَوْسُ وَالْوَتَرُ
مِنَ الْمَسَاجِدِ قَدْ صَاغُوا مَلاحِمَهُمْ     ..                وَمِنْ مَآذِنِهَا الشَّمَّاءِ قَدْ نَفَرُوا
فَكَيْفَ يَنْهَزِمُ الإِعْصَارُ فِي بَلَدِي          ..              وَلَحْنُهُ السَّرْمَدِيُّ الآيُ وَالسُّوَرُ؟!

*كاتب وشاعر فلسطيني
التعليقات (0)