بعد استعراض الملامح الخاصة التي ميزت
التجارب التنظيمية للمكونات الرئيسية التي انصهرت في إطار وحدة اندماجية تم
الإعلان عنها في صيف 1996، لابد من الوقوف عند أبرز التحولات التي ميزت تجربة حركة
التوحيد والإصلاح التي ورثت جميع التجارب التنظيمية السابقة وعملت على استثمار
العناصر الإيجابية في كل تنظيم والاحتفاظ به، عبر خوض نقاشات معمقة لبلورة فلسفة
تنظيمية واضحة خاضعة للنقاش المؤسساتي ومفكر فيها بشكل دقيق، ولكنها لم تكن تجربة
خالية من المشاكل والصعوبات.
تجربة اندماجية فريدة.. وصعوبات حقيقة واجهت
مشروع الوحدة:
"استجابة لقول
الله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا..) وتقديرا لأهمية الوحدة
وفوائدها، وخاصة في التعاون على الأعمال الجليلة والغايات النبيلة، فإن كلا من
الجمعيتين: حركة الإصلاح والتجديد، ورابطة المستقبل الإسلامي، قد قررتا ـ بواسطة
هيئاتهما المعنية ـ أن تتوحدا وتندمجا في جمعية واحدة تحمل إسم "حركة التوحيد
والإصلاح". وإن الجمعية الموحدة الجديدة إذ تعتبر هذا التوحيد مكسب إيجابي
لعموم الوطن والشعب
المغربي، لتؤكد أن هدفها سيظل هو المساهمة في إقامة الدين وفسح
المجال للتعاون على الالتزام به عقيدة وعبادة وسلوكا، والمساهمة في خدمة المجتمع
وإصلاحه وفق قيم الإسلام وشريعته. كما تؤكد "حركة التوحيد والإصلاح" أن
سبيلها في ذلك هو الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والدفع بالتي هي أحسن، والتفاهم
والتعاون مع كل من يعمل لخدمة الأمة وترقيتها والنهوض بها، في ظل المشروعية القانونية
والدستورية لبلادنا".
كان هذا هو البلاغ الذي صدر يوم 31 آب
(أغسطس) 1996 عن مجلس الشورى الانتقالي للإعلان عن حركة جديدة تحمل إسم "حركة
التوحيد والإصلاح"، بمكتب تنفيذي جديد ومجلس شورى جديد، وقد تمت هذه العملية
وفق منهجية ـ غير مسبوقة حسب علمنا ـ وهي: اعتماد توحيد الهياكل القيادية بشكل
اندماجي من الأعلى إلى الأسفل، انطلاقا من الاتفاق على القضايا الكبرى وترك جميع
المواضيع للنقاش المؤسساتي، بحيث تم الاتفاق على الأسس الثلاث التالية: 1 ـ المرجعية
العليا للكتاب والسنة، 2 ـ القرار بالشورى الملزمة، 3 ـ المسؤولية بالانتخاب.
كانت المرحلة الفاصلة بين 1996 و1998 عبارة
عن مرحلة انتقالية، وقد شهدت نقاشات طويلة سواء على مستوى مجلس الشورى الانتقالي
أو على مستوى المكتب التنفيذي الانتقالي، بالإضافة إلى مستلزمات توحيد الهياكل
التنظيمية للتنظيمين السابقين على المستويات الجهوية والإقليمية والمحلية.
لم تكن عملية التوحيد الاندماجي عملية سهلة
ولكن واجهتها صعوبات حقيقية منذ البداية، فرغم التقارب الفكري والمنهجي بين كلا
التنظيمين فقد تعرضت تجربة الوحدة لامتحانين عسيرين منذ البداية: الامتحان الأول
هو أن قرار آخر مجلس للشورى لرابطة المستقبل الإسلامي لم يكن موحدا، فقد كان جزء
من أعضائه ولاسيما الذين يمثلون جمعية جماعة الدعوة الإسلامية بفاس يرون أن هناك
نوع من الاستعجال في قرار التوحيد الاندماجي ويطالبون بالمزيد من الحوار مع حركة
الإصلاح والتجديد، ولذلك اتخذ قرار الوحدة بالأغلبية المطلقة، بينما كان مجلس شورى
حركة الإصلاح والتجديد قد اتخذ قرار الوحدة بالإجماع..
أما الصعوبة الثانية فقد تمثلت في عدم رضا
مجلس شورى رابطة المستقبل الإسلامي على خطوة المؤتمر الاستثنائي لحزب الحركة
الشعبية الدستورية الديموقراطية الذي نظم في يونيو من سنة 1996، وقد كان امتدادا
لتفاهمات قبلية بين قادة حركة الإصلاح والتجديد مع الدكتور عبد الكريم الخطيب
(رحمه الله)..
فرغم المعرفة المسبقة لقادة رابطة المستقبل
الإسلامي بالدكتور الخطيب وتعرفهم عليه عبر لقاءات عديدة، فقد كان بعضهم متحفظا
على خطوة ولوج المجال السياسي قبل بناء عملية الوحدة والحسم في توجهاتها النهائية،
وكان يعتبر بأن هذه الخطوة ما كان ينبغي لها أن تكون في ذلك التوقيت، وكان ينبغي
تأجيلها إلى حين استقرار هياكل الوحدة وانطلاقها، ولكن التقدير الذي كان يهيمن على
قادة الإصلاح والتجديد هو أن الانخراط في الحزب فرصة قد لا تعوض، ولذلك ينبغي
المضي فيه مادام ليس هناك خرق لشيء تم الاتفاق عليه، وبعد ذلك بإمكان مؤسسات
التنظيم الجديد إذا ارتأت غير ذلك أن تراجعه ما دام القرار يتم بالشورى..
إلى جانب هذه الصعوبات الكبيرة واجهت عملية
الدمج التنظيمي بعض الاختلافات الطبيعية المرتبطة باختلاف النماذج التنظيمية لكلا
التجربتين من قبيل مراتب العضوية أو العمل المشترك بين الرجال والنساء..
شجاعة القيادة وإصرارها على المضي في قرار
الوحدة شرط نجاح هذه التجربة:
كان لاختيار الدكتور أحمد الريسوني رئيسا
للمرحلة الانتقالية دور أساسي في نجاح هذه عملية الوحدة، ساهم في ذلك أيضا اختيار
الأستاذ عبد الله بها (رحمه الله) نائبا له.
كان كلا الرجلين مقتنعين بأهمية الوحدة
ووجوبها، وكانا يتمتعان بميزة الإنصات والقابلية للتجدد والمراجعة.
أحمد الريسوني
نجح الدكتور أحمد الريسوني بمكانته العلمية
ونظرته المقاصدية وأسلوبه البيداغوجي وأخلاقه الرفيعة في تذويب الكثير من
الصعوبات، وقد كان الانطلاق من اعتبار المرجعية العليا للكتاب والسنة بمثابة فرصة
لاختبار مدى قدرة التنظيمين السابقين على التجدد والتجديد ومراجعة كل ما لا يستطيع
أن يصمد أمام النقاش العلمي الموضوعي، فقد فرض على كل طرف أن ينصت للطرف الآخر وأن
ينزل عند رأيه عندما تحسم الشورى في القرار، فيصبح قرار الأغلبية ملزما للجميع ولو
تعارض مع توجه سابق أو قناعة سابقة.
دامت الفترة الانتقالية سنتين، وكانت من
أصعب المراحل في
تاريخ التنظيمين السابقين تم خلالها إعداد نظام داخلي جديد وأوراق
ووثائق جديدة، كما تم خلالها الاشتغال على الدمج التنظيمي والفكري والتصوري..
عبد الله بها
كان العمل يتم على واجهتين: واجهة بناء
التنظيم الجديد وتوحيد هياكله وتصوراته، وواجهة العمل الحزبي الذي كان مطالبا
ببناء هياكله ومؤسساته خصوصا وأن الانتخابات التي جرى تنظيمها سنة 1997 كانت على
الأبواب وكانت تضغط على الجميع.
كان قرار الحركة آنذاك عدم المشاركة في
الانتخابات البلدية، بينما سمحت بالمشاركة المحدودة في الانتخابات التشريعية
بواسطة حزب الحركة الشعبية الدستورية الديموقراطية برئاسة الدكتور الخطيب، وأخذت
الحركة على عاتقها عبئ إعادة بناء الحزب وتجديد هياكله ودعمه في مختلف الاستحقاقات
الانتخابية التي خاضها.
بذل الدكتور أحمد الريسوني مجهودات جبارة
للإقناع بالمشاركة الانتخابية، خصوصا أن عددا من الإخوة لم يكونوا مقتنعين
بالتوقيت الذي تمت فيه خطوة الانخراط في حزب الدكتور الخطيب، ومع ذلك فقد انخرط الجميع
في الانتخابات التشريعية التي مكنت التيار الإسلامي من ولوج البرلمان المغربي لأول
مرة، وهو ما مكن الحركة من التعريف بأفكارها لدى جمهور أوسع وسمح لها بالخروج من
الهامشية إلى الاشتباك مع قضايا الناس ومشاكلهم اليومية بواسطة العمل السياسي
المباشر.
غير أن علاقة الحركة بالحزب أثارت إشكالية
كبيرة في تلك المرحلة سميت بإشكالية "الفصل والوصل"، فهناك من كان يرى
بضرورة الفصل المطلق بين الحزب والحركة وهناك من كان يرى بضرورة الاحتفاظ بالوصل
بينهما.
استمر النقاش إلى ما بعد المرحلة
الانتقالية، إلى أن ترسخت فكرة التخصصات وظهرت حتمية الفصل التدريجي لمؤسسات الحزب
عن مؤسسات الحركة، في أفق الفصل بين الدعوي والحزبي، وهو ما فرضته طبيعة العمل
السياسي ومستلزماته وأدواته وخطابه المختلف عن طبيعة العمل الدعوي ومستلزماته
وخطابه.
الملامح الكبرى للتنظيم عند حركة التوحيد
والإصلاح والتغيرات الكبرى:
أفرز النقاش الجماعي
داخل المؤسسات الجديدة لحركة التوحيد والإصلاح مجموعة من المراجعات التي استقرت في
الوثائق التأسيسية للحركة ومنها ميثاق حركة التوحيد والإصلاح والنظام الداخلي
وورقة الرؤية التربوية وورقة الرؤية السياسية، ومن أهم التحولات: الانتقال من
التنظيم المركزي الجامع المحوري إلى التنظيم الرسالي واعتماد فلسفة التخصصات، بحيث
إن شمولية أهداف الحركة ومجالات عملها لا تعني أن تنظيم الحركة هو الذي سيتولى
تحقيق الأهداف المذكورة فتنظيم الحركة يهتم بالوظائف الأساسية وهي التربية والدعوة
والتكوين، أما المجالات الأخرى فهي مجالات لعمل أعضاء الحركة وتقع خارج التنظيم،
وقد تكون مستقلة تماما عن عملها ومجال اهتمامها اليومي، كما قد تكون العلاقة معها
علاقة تعاون أو تنسيق أو شراكة حسب الحالة.
هذا التمييز بين ما يقع داخل الاهتمام
التنظيمي المباشر للحركة وبين ما يتم خارج مؤسساتها التنظيمية هو ما يسمى
بـ "عمل التخصصات"، وهو ما سمح للحركة بوضع معالم نظرية جديدة لمعالجة
إشكالية العلاقة بين العمل الدعوي والعمل السياسي، وأيضا سمح لمجموعة من الأعمال
أن تتم في إطار تخصصي مستقل مثل العمل الثقافي والاجتماعي والعمل النسائي والنقابي
وغيره.
التحول الثاني في هذه التجربة وقع سنة 2006،
وهو الانتقال من المركزية إلى الجهوية، وهوما سمح بتحرير المركز من بعض الالتزامات
وإعطاء فرصة للجهات للاستقلال بقراراتها والتطور أكثر.
الخلاصات الأساسية:
ـ تمثل تجربة حركة التوحيد والإصلاح تجربة غنية
انتهت إلى اعتماد نموذج تنظيمي قائم على مجموعة من المبادئ التي أصبحت راسخة في
الوعي الجمعي لأبناء هذا المشروع من قبيل: المسؤولية بالانتخاب والقرار بالشورى
الملزمة، وقاعدة تحديد الولايات والتناوب الديمقراطي على المسؤوليات، الرأي حر
والقرار ملزم، الأخذ برأي الأغلبية، احترام التخصصات، المشروعية للمؤسسات لا
للأفراد، وأولوية الجماعة في الترشيح بدل السماح للأفراد بترشيح أنفسهم للمسؤوليات
الحزبية أو الانتدابية، وأن الاجتماع على رأي مرجوح خير من التفرق على رأي راجح،
وتجريم تبييت القرارات أو الاتفاق المسبق عليها (الكولسة)..وغيرها من القواعد
والمبادئ التي تعكس اجتهادات مقدرة نابعة من الخلفية القيمية والأخلاقية التي تمثل
الأساس الفكري والمذهبي و"الإيديولوجي" لهذه التجربة.
ـ إن التقييم النقدي لهذه التجربة يمكن أن
يتم تحت عنوان عريض، هو التفاوت الحاصل بين سمو المنطلقات والقيم والأخلاقيات
المعيارية التي تؤسس لهذا النموذج التنظيمي، وبين الممارسة التنظيمية للأفراد
والمؤسسات الجارية على الأرض والتي كشفت على مجموعة من الصعوبات والتحديات التي
كان لها انعكاس مباشر على الأداء الدعوي للحركة من جهة، وعلى الأداء السياسي
والتنظيمي لحزب العدالة والتنمية الذي خرج من رحم الحركة، والذي يعتبر بمثابة
الاختبار الحقيقي لمنظومة القيم المؤطرة خصوصا مع الانغماس الكلي للحزب في تجربة
التدبير الحكومي وتسيير البلديات وبروز بعض التحديات الجديدة..
وهو ما سنسلط عليه الضوء في حلقات قادمة
بحول الله.