لا خلاف بأنّ النقاش جزء من حياة الإنسان،
وأداة فعّالة لتبادل وجهات النظر والرأي في المسائل الحياتيّة المُختلفة، ولا يُمكن
تصوّر مجتمع ما خال من
النقاشات الإيجابيّة والسلبيّة.
وقد ابتلينا في
العراق منذ خمسينيّات
القرن الماضي بنقاشات لها أوّل وليس لها آخر، لدرجة أنّ عدّة عقود مضت ولم تنته حتّى
اليوم النقاشات "الجدليّة
السقيمة"، لأنّ أذرعها وأدواتها مستمرّة وبمعاول داخليّة، رسميّة وشعبيّة، وخارجيّة،
في تقطيع أوصال الوطن!
والغريب في هذه النقاشات أنّ غالبيّة المواطنين
يعرفون الحقيقة، ولكنّهم يدورون في فلك الخطأ والقوى المتاجرة بالوطن!
وامتازت مرحلة ما بعد الاحتلال (2003م)
بالعديد من المتاهات المُهلكة، ومنها الاغتيالات المُنظّمة، والتغييب القسريّ،
والاتّهامات والاعتقالات الكيديّة، والنقاشات الجدليّة بين "الآمنين والمَرْعُوبين"!
ولا شكّ أنّ العقول تُعرف وتُقاس عند
النقاشات الجادّة، ولكنّ الأصح أن ليس كلّ ما يُعرف يُمكن أن يكون حقيقة على الأرض،
فهنالك واقع سُلْطويّ (حكوميّ وميدانيّ) يفرض نفسه على حركة المجتمع والإنسان
(العقل)، وكذلك مدى عدالة أو استبداد النظام السلطويّ؛ وبذلك تكون جلسة الحوار والنقاش
أمام اختبار مصيريّ ومفترق طرق قاتل!
فحينما تكون الحكومة عادلة (ولو بدرجات
مقبولة) وممسكة بزمام الأمور يُمكن أن تستمرّ النقاشات، وقد تُثمر في إيصال صوت الشارع
لأصحاب القرار وبالنتيجة ترتيب الوطن، وتصحيح الخطأ، وتعديل الاعوجاج، وإصلاح
الخلل، وضبط الفوضى!
أما حينما تكون الحكومة ظالمة (وبدرجات
قاسية وفوضويّة)، والقوى الشرّيرة تعبث بالوطن، فحينها تكون النقاشات وبالا على
أهلها، وسببا للقتل والضياع والتهجير وقطع الأرزاق!
غالبيّة نقاشات العراقيّين تدور بين المُستفيدين من الصراعات الدينيّة والسياسيّة والفكريّة، ولهذا صرنا أمام صراعات سنّيّة-سنّيّة، وشيعيّة- شيعيّة، وشيعيّة- سنّيّة، وإسلاميّة- علمانيّة، وغيرها من الهويات الثانويّة المُقَسِّمة للعراقيّين داخل الوطن وخارجه
وتختلف نقاشات العراقيّين اليوم وفقا
للمستوى الفكريّ والعقليّ والمعاشيّ والقانونيّ والوظيفيّ للمُتناقشين.
وقد لاحظنا أنّ غالبيّة نقاشات العراقيّين
تدور بين المُستفيدين من
الصراعات الدينيّة والسياسيّة والفكريّة، ولهذا صرنا أمام
صراعات سنّيّة-سنّيّة، وشيعيّة- شيعيّة، وشيعيّة- سنّيّة، وإسلاميّة- علمانيّة، وغيرها
من الهويات الثانويّة المُقَسِّمة للعراقيّين داخل الوطن وخارجه!
ونجد أنّ غالبيّة المحسوبين على القوى
السياسيّة لا يقبلون الرأي الآخر؛ لأنّ انتقاد الحالة السلبيّة ربّما يكون
بالنتيجة قطعا لأرزاقهم وتخريبا لظروفهم المرتبة وفقا للحالة الهزيلة المركّبة.
وهكذا حال بعض المنتفعين من حالة التراخي العامّة
من الموظّفين وغيرهم، فنجدهم يقفون بالضدّ من أيّ نقاش يشخّص الخلل في الوطن، وكأنّهم
يقولون طالما نحن آمنون فليذهب الآخرون للجحيم. وهذه أنانيّة بعيدة عن شرائع الأرض
والسماء!
أما قضيّة نقاشات بعض العراقيّين الدينيّة
فهذه بحاجة لعشرات المجلّدات لضبطها؛ لأنّ هنالك مَن يتحدّث عن ظلم عمره أكثر من
1400 سنة!
وهذه السياسات الفكريّة التخريبيّة تعزف على أوتارها بعض القوى السياسيّة لضمان بقائها
لمراحل تالية!
هذه التناقضات تؤكّد فوضى النقاشات وغياب الضوابط الفكريّة والخُلقيّة المحدّدة والضابطة للحوارات بالمراحل الطارئة والمترديّة!
وقد تشابكت النقاشات بين "النخب"
السياسيّة والإعلاميّة والدينيّة في عدّة ملفّات، ومنها جدليّةُ مصطلحات الشهيد والقتيل،
والإرهابيّ والمناضل، والعادل والظالم، ومفاهيم المقاومة والإرهاب، والوطنيّة
والخيانة، وغيرها من المصطلحات التي تُقرّ وفقا لمصلحة الطرف الذي يُريد تمرير
مشروعه. وبالمجمل، فإنّ هذه التناقضات تؤكّد فوضى النقاشات وغياب الضوابط الفكريّة
والخُلقيّة المحدّدة والضابطة للحوارات بالمراحل الطارئة والمترديّة!
ولاحظنا أنّ أكثريّة النقاشات لا تمت للمنطق
بصلة، بل مجرّد إبراز للعضلات والقدرة على استخدام أكبر قدر ممكن من قواميس الألفاظ
السوقيّة، وكلّ ذلك بسبب اتّكاء الطرف المجادل (المُعاند والمتوحّش) على قوته
المسلّحة أو الوظيفيّة وليس على قوّة فكره ومنطقه!
وقد رصدنا غياب الشفافيّة عن غالبيّة
النقاشات (النخبويّة، والإعلاميّة والمجتمعيّة) وحضور الاتهامات الباطلة والصراخ
والسبّ والشتيمة والتخوين!
والمزعج أنّ تلك النقاشات الجدليّة أثمرت
المزيد من التناحر والتقاطع والتدابر والعداوات والخلافات والخصومات والتضادّ
والنزاعات والفتن؛ التي قد تنتهي بالتصفية الجسديّة أو الاختطاف والاعتقال!
وقد وصلنا في مراحل لاحقة بأن تكون
الحوارات واللقاءات التلفزيونيّة والمقالات ونقاشات مواقع التواصل الاجتماعيّ
وبالذات بمساحات تويتر ومجاميع الواتسآب عبارة عن فخّ للطرف المقابل المُعارِض!
النقاشات الجدليّة أثمرت المزيد من التناحر والتقاطع والتدابر والعداوات والخلافات والخصومات والتضادّ والنزاعات والفتن؛ التي قد تنتهي بالتصفية الجسديّة أو الاختطاف والاعتقال!
وقد حدّثني أحد الأصدقاء المحامين من
مدينة كربلاء الجنوبيّة أنّ بعض "الزملاء" من الإعلاميّين والناشطين بمجموعة
واتسآب يُصوّرون النقاشات، ويرسلونها للقوى السياسيّة والأمنيّة بالمحافظة، وقد استدعي
للأمن لأكثر من مرّة، ولكنّ مكانته الاجتماعيّة شفعت له، وإلا لو كان من عموم
الناس لسُحق إما بالاغتيال أو الضياع بمعتقلات مليئة بالخوف والقسوة والترهيب!
يُفترض بمَن يريد مناقشة الحالة العراقيّة
أن يتقبّل الآخر، غير الإرهابيّ، وأن يسعى للتفاهم معه بهدوء، ومنطق، وقلب مفتوح،
للوصول إلى الضفّة الأخرى الآمنة مع احتفاظ كلّ طرف بخصوصيّاته الدينيّة (المذهبيّة)
والقوميّة، وإلا فإنّ التناحر سيستمرّ. وهذا ما تريده غالبيّة القوى الحاكمة، لأنّه
سيُبقي سيطرتها على عموم الشارع العراقيّ، وبأدوات بسيطة تتمثّل بالجيوش
الإلكترونيّة المأجورة التي تبثّ سمومها المُميتة بين المواطنين!
نأمل أن تكون نقاشات العراقيّين وسيلة
علميّة وعقليّة لتصفيّة الواقع من الشوائب السياسيّة والفكريّة والأمنيّة، وليس
أداة لتخريب علاقات المواطنين الإنسانيّة؛ لأنّها حينئذ ستُساهم في تقطيع أوصال
الوطن ونحره بأَلْسِنة حادّة، وأفكار همجيّة لا تقلّ خطورة عن أسلحة الإرهابيّين!
لتكن نقاشاتنا قائمة على السكينة، والاحترام،
ومناقشة الأفكار قبل الأشخاص، وإلا فالضياع هو المصير المرتقب!
twitter.com/dr_jasemj67