مقالات مختارة

صداع المذكرات.. ومخاطر إفرازاتها

عبد الله بشارة
جيتي
جيتي
مثل غيري، أحيانا أجد نفسي مأخوذا بأهمية تدوين ما يمكن مما شاهدته ومما عايشته عبر ثلاث محطات، كان موقعي فيها قريبا من أصحاب القرار ومن أهل السلطة، وآخر هذه المحطات وجدت نفسي موجودا بين قياديي الخليج التاريخيين، الذين وقعوا على وثيقة قيام مجلس التعاون في مدينة أبوظبي في أيار/مايو 1981، وأعترف بالتخوف من مفاجآت المذكرات، ويزداد هذا التخوف مع قراءة ما تنشره صحافة بريطانيا عن مذكرات الأمير هاري Harry، التي ستصدر في كتاب في العاشر من هذا الشهر، إضافة إلى ما سبق نشره عن البرنامج التلفزيوني الذي قدمه الأمير هاري وزوجته ميغان Meghan في حلقات على موقع Netflix series، وما تضيفه الصحافة حول ردود فعل الملك تشارلز وولي العهد وليام، عن إسقاطاتها المزعجة على الأسرة.

كتابة المذكرات في العالم العربي، أمر ليس سهلا، خاصة إذا التزمت الموضوعية وتبنيت الصراحة فيما تكشفه من حقائق، وقد اعتاد القراء العرب على قراءة مذكرات عربية كلها مديح وثناء على القائد وعلى حنكته وحسن قيادته، وعما يحتكره من حكمة وقدرة على التنبؤ باحتمالات المستقبل، خاصة أن معظم الأنظمة لا تستذوق مبدأ حق التعبير عن الرأي؛ لأن فلسفة الإعلام فيها طمس الحقائق والثناء على عبقرية إنجازاتهم.

ومع إيماني بحق الشعوب بقراءة تاريخها كما سجلته الوقائع، ورفضها للتشويه الذي تجد فيه القيادة مقرا مريحا لها يحميها من إحراجات الحقائق، فقد أصبح على من يكتب المذكرات من الذين أوصلتهم دروب الحياة إلى الاقتراب من موقع القرار، أن يمارس الحذر والابتعاد عما يجرح أو يحرج، وينسجم مع حدود الحرية التي تسمح له بتسجيل الممكن.

ولنعترف بأن هذه مسؤولية ثقيلة ومحرجة للكاتب مهما اتسع إيمانه بحق الشعب بحرية التعبير. وانسجاما مع هذا النهج الحذر، وبعد انتهاء مهمتي في مجلس التعاون، أصدرت كتابا «بين الملوك والشيوخ والسلاطين»، مستعينا بيوميات كنت أسجلها، تنقل باختصار ما شاهدته ودونته في ذلك اليوم، ليس محصورا في السياسة فقط، وإنما في المسار اليومي الذي أعيش فيه، سواء وجودي في مسرح الباليه في نيويورك أو في اجتماع للمجلس الوزاري لمجلس التعاون.. أردت من ذلك الكتاب الذي صدر في ثمانمئة صفحة، أن أقدم وثيقة عن حقائق مجلس التعاون للباحث والقارئ، ولمن يحلم بالتخصص في الشأن الخليجي من الأكاديميين، متصورا أن ما سجلته في ذلك الكتاب يوفر حاجة الباحث عن هوية مجلس التعاون، وأعترف أكثر بأن ما دفعني لكتابة ذلك السجل الواسع، جاء من حملة مارسها بعض المجتهدين الكويتيين لإثارة الغبار السيئ لنوايا مجلس التعاون والتشكيك في أهدافه، وكان ذلك في سنواته الأولى.

كانت فرحة الخليج بقيام مجلس التعاون طبيعية وتلقائية، فقد جاءت من إدراك وتفهم للوقائع التي أقنعت قياديي الخليج بضرورة قيام مجلس التعاون، الذي وُلد في أجواء عربية إقليمية مضطربة، ثورة راديكالية في إيران بمحتوى ديني يثير الجوار، وحرب عراقية ـــ إيرانية مست الأجواء في منطقة الخليج وسحبتها إلى حافة الانفجار، وتفكك عربي تولد من زيارة الرئيس المصري أنور السادات إلى إسرائيل وتوقيع اتفاقية السلام المصرية ـــ الإسرائيلية، وما سببته من انقلاب في ميزان القوى الإقليمي، رافقتها حملة تشكيك حول مواقف دول الخليج من معاهدة الصلح المصرية ـــ الإسرائيلية، وتطاول الراديكالية العربية على دور دول الخليج المستقبلي تجاه القضايا العربية، خاصة موضوع فلسطين.

وسجلت في الكتاب التباينات في اجتهادات الدول الأعضاء وتوقعاتها من المجلس، ولا سيما دور الكويت في الإصرار على تكثيف الترابط التجاري والاقتصادي والاستثماري، وترك الشأن الأمني والعسكري إلى مراحل مستقبلية، بينما الآخرون، خاصة سلطنة عمان، التي قدمت مذكرة في اللقاء التاريخي الأول عن التعاون العسكري، فقد كانت تعاني من تدخلات اليمن الجنوبي، اليساري المذاق، والثوري التوجه، بتحريك تجمعات عسكرية ضد السلطنة في إقليم ظفار، ولهذا قرر المجلس في قمة أبوظبي تفويض دولة الإمارات والكويت لزيارة اليمن الجنوبي لشرح منطلقات الخليج الجديدة، أبرزها وضع نهاية للحروب والتدخلات في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء، وتطورت العلاقات مع اليمن الجنوبي، الذي اكتشف بأن المواجهة ستكون مع جميع الخليجيين، وتراجعت المشكلة وانتصرت السلطنة وتبعثر الثوار.

كان الأمل بأن توحد دول الخليج مواقفها الدبلوماسية من القضايا السياسية والاقتصادية العالمية مع قيام المجلس، بحيث تلتقي وتلتصق هذه المواقف في مضمونها وفي نظراتها تجاه الأحداث، وفي لون دبلوماسيتها مع الدول الكبرى، غير أن التوجه كان تَرْك ذلك مؤقتا؛ لعله يتحقق مع غزارة التجربة الخليجية.

ولكن الأمل في هذا التلاقي السداسي بوحدة المواقف لم يرتفع إلى مستوى التمنيات، والسبب الأول والأكثر تأثيرا التزام الكويت خطوطها التي رسمها الشيخ صباح الأحمد، وظل حارسا ومؤتمنا على سلامتها، وهي البعد الحساس من الاقتراب من الدول الكبرى، بينما بقية الأعضاء يتقاربون في علاقاتهم مع الدول الغربية، ولا سيما الولايات المتحدة وبريطانيا، اللتين وضعت الكويت العلاقات معهما في الإطار الاعتيادي المعروف، أو ما يطلق عليه باللغة الإنكليزية Practical and Correct، وبرز ذلك التباين مع تصاعد الأزمة التي افتعلها صدام حسين في تموز/يوليو 1990، عندما كان التوجه العام في اجتماعات المجلس الوزاري التعاون مع الحلفاء، وهو الأسلوب الناجع الذي اتبعته دولة الإمارات، وكان التصور أن تخطو الكويت مثلها، لكن المرحوم الشيخ صباح الأحمد أخذ في تقديراته القناعة الكويتية المستقرة في الابتعاد عن الدول الكبرى، وفضّل تأكيد الثقة في مساعي الدبلوماسية العربية، التي تولدت مع شروط عضوية الكويت في الجامعة العربية، بالاعتماد على العرب والابتعاد عن الغرب.

كان الآخرون أكثر انطلاقا في اختياراتهم الدبلوماسية والاستراتيجية، بينما الكويت عانت من الإرهاق السياسي الذي حصر اختياراتها الدبلوماسية في إطار الجامعة العربية.

علينا أن نتذكر أن انضمام الكويت إلى الجامعة العربية في تموز/يوليو 1961، كان مشروطا بانسحاب القوات البريطانية وإبدال قوات رمزية عربية بها، وتم ذلك الخيار بعد أن تم وضع الفيتو العربي على خيارات الكويت، وصارت الكويت الدولة الوحيدة في الجامعة العربية التي وضع لها سقف بخيار واحد، هو الجامعة العربية، وبهذا تم حصر الكويت في أحضان الجامعة العربية، التي تهرّب أحد عشر عضوا من المسؤولية التاريخية لإدانة الغزو، التي يفرضها ميثاق الجامعة على أعضائه.

مواقف دول مجلس التعاون حول الشأن العربي، تظل ساطعة في إيجابياتها في الحفاظ على سلامة القضايا العربية سياسيا وتنمويا، مع إبراز موضوع فلسطين؛ ففي تشرين الثاني/نوفمبر عام 1981 في قمة الرياض، اتفق القادة على طرح مبادرة ولي عهد المملكة، الأمير فهد بن عبدالعزيز على القمة العربية التي ستُعقد في المغرب حول الدولة الفلسطينية في حدود عام 1967، وصادق القادة العرب عليها في قمة المغرب.

أعود إلى مصير الكتاب «بين الملوك والشيوخ والسلاطين»، فرغم محتواه، لم يبرز في عالم المعرفة والنشر، والسبب غياب الإثارة، والالتزام بتدوين الممكن واحترام أثقال المأمورية.

جودة المذكرات تتسع مع التدوين بحرية، فلا قيمة للمذكرات من دونها.

(القبس الكويتية)
التعليقات (0)