لم تدم طويلاً تلك الفترات الزمنية التي شهدت هدوءاً واستقراراً
في العلاقات السياسية بين
تركيا من جهة، وغالبية الدول الأوروبية من جهةٍ أخرى،
فتركيا التي كانت وما زالت تطمح إلى دخول الاتحاد الأوروبي، وقُوبلَ طلبُها بالرفض
والتأجيل مراتٍ ومرات، تارةً بذريعة ملف حقوق الإنسان وحرية التعبير وعقوبة
الإعدام، وتارةً أخرى بذريعة حقوق المثليين وحقوق المرأة، الأمر الذي كان يخيّم
على طبيعة العلاقة المليئة بالهواجس بين الطرفين.
ولأنّ المثل الشعبي يقول "الدنيا دوّارة"،
فقد أمست بعض الدول الأوروبية اليوم بحاجة ماسّة إلى موافقة تركيا لانضمامها إلى
حلف
الناتو، بعد تعاظم الخطر الروسي عليها، والهجوم العسكري على أوكرانيا، والخسائر
العسكرية والبشرية الفادحة. ولعلّ
السويد وفنلندا هما الدولتان المتصدّرتان لهذه
المباحثات مع الجانب التركي بهدف خطف الموافقة منه، ولهذا نجد الأتراك قد وضعوا
شروطا أمام هاتين الدولتين للموافقة على طلبيهما، نُفّذَ بعضُها ولم يُنفّذ البعض
الآخر، ما جعل الدولتين الأوروبيّتين تنظران إلى تركيا على أنها السبب الجسيم
لِمَا حلّ بهما من ضيق ونكد، وما هذا بصحيح، ولكنّها الفوبيا التي أصابتهم بسبب
خلافات عميقة ومتجذّرة.
أمست بعض الدول الأوروبية اليوم بحاجة ماسّة إلى موافقة تركيا لانضمامها إلى حلف الناتو، بعد تعاظم الخطر الروسي عليها، والهجوم العسكري على أوكرانيا، والخسائر العسكرية والبشرية الفادحة. ولعلّ السويد وفنلندا هما الدولتان المتصدّرتان لهذه المباحثات مع الجانب التركي بهدف خطف الموافقة منه، ولهذا نجد الأتراك قد وضعوا شروطا أمام هاتين الدولتين.
فاليونان الدولة الجارة لتركيا، تعيش اليوم على صفيح ساخن بسبب كثرة التوترات بينها وبين جارتها تركيا، بسبب الجزر المتنازع عليها في
بحر إيجة، ولم تهدأ تصريحات مسؤولي البلدين التي وصلت درجة التراشق الإعلامي والتهديد
باستخدام القوة العسكرية، وذلك على ضوء مساعي تركيا للحصول على صفقة سلاح من طراز
طائرات F16 من الولايات المتحدة الأمريكية التي تماطل في تنفيذها لهذه الصفقة التي ربّما
تُدخِل اليونان إلى نطاق الفوبيا التركية التي يتناولها هذا المقال، والتي اتخذت
بدورها عدّة مناح:
المنحى الأول: وهو المنحى الأخطر باعتقادي، وذلك حين
تمنح سلطات السويد الموافقة بحرق المصحف الشريف أمام مبنى السفارة التركية في
العاصمة استوكهولم يوم السبت، بحسب ما ذكرته وكالة الأناضول، ممّا دفع بأنقرة إلى
استدعاء السفير السويدي لديها، وإبلاغه بضرورة احترام المقدسات والشعائر الإسلامية؛ لأنّ مثل هذه التصرفات قد تزيد من حدّة التوتر بين الجانبين، في الوقت الذي تشهد
فيه المنطقة توترات كبيرة، وهي بغنى عن مثل هذه التصرفات الصبيانية التي تصب الزيت
على النار.
ورغم أنّ زعيم الخط اليميني راسموس بالودان، وهو
القائم على هذه الخطوة المستفزة، لم يصرّح علنا بأنّ سبب عزمه إحراق المصحف هو
الرد على رفض تركيا انضمام السويد إلى حلف الناتو، إلّا أنّ اختيار الزمان والمكان
هو الذي يؤكّد صحة هذه التكهّنات، لا سيما أنّ هذا هو الاستدعاء الثاني لسفير
السويد لدى أنقرة خلال أسبوع واحد، وذلك بعد استدعائه الأول
بسبب تعليق دمية
للرئيس التركي رجب طيب أردوغان بشكل غير لائق، خلال مظاهرة للجالية الكردية في
السويد.
المنحى الثاني: وهو المنحى الذي يخطّ طريقه بعيدا عن
السلك الدبلوماسي، وقريبا من السلك الجامعي، لأنّ الفوبيا عندما تضرب فإنها تضرب
الجسد بأكمله. فالجالية التركية هي واحدة من أهم الجاليات في
أوروبا وأكبرها عددا،
ولهذا لا بد من حدوث نوع من التوتر بين الأتراك والأوروبيّين على خلفية رفض تركيا
انضمام السويد وفنلندا لحلف الناتو، وهذا الأمر يتطلب من السفارات التركية في
أوروبا بذل المزيد من الجهود لمنع حدوث أي نوع من أنواع الاحتكاك المشبوه.
هذا النوع من أنواع الفوبيا، لمسناه حينما رفض الأستاذ
الجامعي بير كارلبرينغ في جامعة استوكهولم طلبا من الطالبة التركية فاطمة
الزهراء للمشاركة في المشروع البحثي الذي يرأسه هو بنفسه، ليس هذا فحسب، بل إنّ
الأستاذ الجامعي لم يتردد على الإطلاق في ذكر السبب الذي دفعه إلى رفض طلب الزهراء،
حينما ردّ عليها من خلال الإيميل: "عزيزتي فاطمة، كنتُ أرغب باستضافتك، لكنْ
يجب أن أرفض طلبك؛ لأنّ تركيا تعيق انضمام السويد إلى حلف الناتو، أنا آسف". وبطبيعة
الحال، تحوّلت القضية إلى رأي عام، بعد أن لاقت تفاعلا كبيرا على منصات التواصل
الاجتماعي، لدرجة أن وزير خارجية تركيا مولود تشاووش أوغلو، اتصل بالطالبة فاطمة
الزهراء ليعبّر عن دعمه ووقوفه إلى جانبها.
وأنا هنا أسأل: كيف يمكن لأستاذ جامعي أن يتحلى بهذه
العقلية، وبروح الانتقام، في بلد أوروبي بحجم السويد، وبطريقة بعيدة كل البعد
عن منطق السلوكيات وأدبيات الجامعات؟ ألَا يعلم هذا الأستاذ أنه بمثل هذه التصرفات
يمكن أن يمنح تركيا مساحة واسعة من حيث لا يحتسب كي تتلاعب بأوراق انضمام السويد
إلى الناتو وتأجيل مسألة الحسم في هذه المسألة؟ متى يفهم الأوروبيون أنّ تركيا
أصبحت دولة مؤثرة في المنطقة، ولا يمكن تجاهلها أو التعامل معها بمنطق التبعية والدونية
المعتاد عليه؟
متى يفهم الأوروبيون أنّ تركيا أصبحت دولة مؤثرة في المنطقة، ولا يمكن تجاهلها أو التعامل معها بمنطق التبعية والدونية المعتاد عليه؟
المنحى الثالث؛ إنّ هذه الفوبيا لم تقتصر فقط على
السويد وفنلندا، بل تجاوزت جغرافية هذين البلدين باتجاه بريطانيا، حيث أثار غلاف
لمجلة بريطانية غضب الأتراك، حينما تمت الإساءة فيه للعلم التركي وللرئيس رجب طيب
أردوغان، ضمن ما تسميه بريطانيا حرية التعبير، حيث نشرت المجلة في عددها الصادر
يوم الخميس الفائت تقريرا بعنوان "ديكتاتورية تركية تلوح بالأفق.. تقرير خاص
عن إمبراطورية أردوغان"، الأمر الذي دفع برئيس دائرة الاتصال في الرئاسة
التركية فخر الدين ألطون، إلى الرد على هذه المزاعم، وكأنّ تركيا باعتقادهم هي
مجرّد أردوغان، ولم يعلموا أنّ تركيا فيها أحزاب معارضة سوف تنافس الرئيس أردوغان
على منصب الرئاسة في الانتخابات التي سوف تشهدها البلاد بعد أشهر معدودات، ومن ثم سوف يقرر الشعب التركي من يحكمه.
ومن ثم يمكن القول؛ إنّ تركيا اليوم تملك أوراق قوة،
ربما لا تفوق أوراق قوة الأوروبيين، ولكنها في نهاية المطاف أدت دور الوسيط
النزيه -إذا صحّ التعبير- خلال الحرب الروسية الأوكرانية، ومن ثم يمكن أنْ
تُحسَب لها نقطة. كما أنها ليست منزّهة عن الخطأ، لا سيما حينما أعادت تطبيع
علاقاتها مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، فحين تصيب تركيا نقول قد أصابت، وحين تُخطئ
نقول قد أخطأت، وهذا هو رأس مالنا في نظرتنا إلى السياسة الخارجية لأي دولة في
الإقليم.