"رب ضارة نافعة" هذا هو المثل العربي
الذي يستخدم للتفاؤل، ويتساوق مع قول الله تعالى "كتب عليكم القتال وهو كره لكم
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم
لا تعلمون" (البقرة: 216). والمثل وقول الله تعالى ينطبقان على حالنا نحن العرب
والمسلمين، وأوضاعنا السياسية في الماضي والحاضر، وربما في المستقبل القريب أو حتى
البعيد.
قبل نحو شهرين أقمنا الدنيا ولم
نقعدها، ردا على فوز أحزاب يمين اليمين الأشد ظلامية وفاشية وعنصرية وصهيونية في
تاريخ دولة
الاحتلال، جلبت لإسرائيل حكومة تنضح كرها للعرب عموما والفلسطينيين على
وجه الخصوص، وتتمنى لو تغمض العيون وتفتحها وتكون الأرض قد انشقت وبلعت
الفلسطينيين.
أقول هذا لأني على قناعة تامة بأن
المتخوفين من العرب، أو هكذا يبدون، أو لنقل نسبة كبيرة منهم، من وصول إتمار بن
غفير زعيم القوة الصهيونية وبتسلئيل سموتريتش زعيم حزب الصهيونية الدينية وآرييه
مخلوف درعي رئيس حركة شاس لليهود الحريديم الشرقيين وزيرا للداخلية والصحة ويؤاف
غالانت وزيرا للجيش، ليسوا متخوفين من فاشيتهم ولا من تطرفهم ورفضهم للسلام، ولا
خوفا على الفلسطينيين منهم، إنما المخاوف ناجمة عن أن مثل هذه الأحزاب ستزيل ورقة
التوت، وتكشف عورات وعيوب العديد من القادة والزعماء العرب وغيرهم، الذين لا تختلف
مواقفهم الحقيقية التي تسكن أعماق القلوب حتى لا تلفظهم شعوبهم، التي لا تزال ترى
في القضية فلسطين قضيتها الأولى، رغم محاولات
إسرائيل وجماعة اتفاقات إبراهام
الخيانية، إعطاء انطباعات مختلفة بزيارات مصطنعة وقمم مختلقة. ويثبت ما أقول ما
شهده مونديال قطر لكرة القدم، من تعبير عن التأييد الجماهيري غير المسبوق للقضية
الفلسطينية، والكل شاهد على ذلك، وهذا ما أثبته رفض المواطن العربي العادي التعاطي
مع وسائل الإسرائيليين ووسائل إعلامهم. وهذا ما خيب آمال الإسرائيليين وأثار
حفيظتهم وجعلهم يثيرون المشاكل لدولة قطر، رغم الضغوط الشديدة التي مارسوها للضغط
للسماح لهم بالمشاركة كمشاهدين. فما تقوله الأحزاب الغيبية العنصرية الفائزة في
الانتخابات، وما تقدمه للمستوطنين وهم جزء منهم، وما يفعلونه ليس جديدا، فقد كان
ينفذ عمليا على الأرض في زمن حكومة يائير لبيد السابقة، وقبله حكومة نفتالي بينيت
العنصري المستوطن، ومن قبلهما حكومة بنيامين نتنياهو، الذي أطل علينا اليوم مجددا
بحكومة (يمين كما يقولون) وليس يسار يمين أو يمين يسار، التي كانت تجد قبولا لدى
الإدارة الأمريكية والدول الأوروبية والزعماء العرب، مع التأكيد بين الحين والآخر
على رفضهم للاستيطان، وعلى ضرورة التزام الجميع بعدم اتخاذ إجراءات أحادية الجانب.
وافهم من ذلك ما تريد أن تفهمه وكما يحلو لك. يعني ذلك أنهم يلقون اللوم ليس على
الاحتلال وأعمال القتل وسفك الدماء اليومية والتخريب ونهب المحاصيل والثروات
والترهيب والسيطرة على مزيد من الأراضي استعدادا لضم جزء كبير من المناطق ج في
الضفة (30%) وتقسيم الضفة إلى كانتونات متناثرة لا يربطها رابط.
لا فرق بين نفتالي أو لبيد أو بني
غانتس، وبن غفير وسموتريتش وغالانت وغيرهم، عندما يتعلق الأمر بقتل الفلسطينيين
ونهب أراضيهم ومحاصيلهم ومياههم، وتعزيز المستوطنات، بل يريدون الظهور بمظهر
الأكثر تشددا لكسب صوت فئة المستوطنين. أليس نفتالي بينيت هو صاحب اللاءات الثلاثة،
بينما كان يحتل منصب رئيس الوزراء مناصفة مع لبيد وهي: لا لقاء مع أبو مازن، أو أي
مسؤول في السلطة، ولا مفاوضات سياسية ولا لدولة فلسطينية، وأقصى ما كان يسمح به هو
تحسين الأوضاع المعيشية للفلسطينيين مقابل الأمن.
وليست هناك تصريحات أكثر وضوحا،
وبعدها استقبل في عواصم عربية وفرش له السجاد الأحمر، ومن بعده جاء يئير لبيد يمين
وسط، أو وسط يمين ـ لا أعرف الفرق بينهما ـ الذي لم يختلف في خطابه الإعلامي عن
سابقيه في موضوع المستوطنات والمفاوضات، وأكد ما قاله بينيت أن لا لقاء مع الرئيس
الفلسطيني إلى آخر الديباجة، واستقبل في عواصم عربية منها الأردن ومصر والإمارات
والبحرين. فمن هو أخطر أو أكثر خطورة؟ هل هم أولئك الظلاميون الفاشيون المرفوضون
والمفضوحون داخليا وخارجيا، ويرفض قادة العالم ومسؤولوه التعامل معهما؟ أم لبيد
وبينيت وغانتس الذين ينطقون كلاما معسولا؟
يذكر في هذا السياق أن وفدا أمريكيا
يضم45 عضوا من أعضاء الكونغرس من الحزبين الديمقراطي الحاكم والجمهوري المعارض،
اشترط قبل أيام عدم لقاء
بن غفير وزير الأمن القومي، أو سموتريتش وزير المالية،
خلال زيارته. وإن نسبة 40% من الأمريكيين يرون في معاملة الإسرائيليين للفلسطينيين
كمعاملة النازيين.
والشيء بالشيء يذكر فإن المشهد العام
في إسرائيل يشير إلى أن الصراعات الطائفية ستزداد حدة، بعدما أقرت المحكمة العليا
الإسرائيلية دعوى منظمات تطالب برفض تعيين درعي المغربي الأصل رئيس حركة "شاس"
لليهود الشرقيين الأورثوذوكس (الحريديم) وزيرا للداخلية والصحة في حكومة نتنياهو
السادسة، التي يسعى لتثبيتها ليبقى هو على رأس الهرم الإسرائيلي واليمين منه على
وجه الخصوص. وهدد درعي بكل وضوح أنه سيسقط هذه الحكومة وسيجعلها في مهب الريح إذا
هو لم يعين وزيرا فيها. وكانت المحكمة الإسرائيلية العليا قد قبلت التماسا قدمته
منظمات حقوقية قبل نحو الشهر للحيلولة دون تعيين درعي وزيرا في الحكومة. بداية لم
يكترث نتنياهو للالتماسات وأسند حقيبتي الداخلية والصحة لدرعي، إضافة لتعيينه
نائبا له، لكن قرار المحكمة العليا أخذهما على حين غرة، رغم توقعاتهما بموقف
القضاة. في قرارهم أكد عشرة من بين أحد عشر قاضيا في المحكمة الهيئة القضائية
الإسرائيلية الأعلى أن تعيين درعي وزيرا ليس شرعيا نتيجة عدة مسوغات أغلقت الباب
تماما أمام الاحتفاظ به في الحكومة. قبيل القرار كان الائتلاف الحاكم يتوقع صدور
قرار بذلك، لكنه لم يتوقع هذا الإجماع الواسع لقضاة العليا، بمن فيهم القضاة
المحافظون وذوو التوجهّات اليمينية، مثلما لم يتوقع تعليل قرارهم بمسوغات من غير
الممكن الالتفاف عليها.
وهنا يحق لنا الادعاء أو التمني أن هذه
الإجراءات ربما تكون بداية تفسخ المجتمع اليهودي داخل إسرائيل وإخراج مارد
الطائفية من قمقمه.
وختاما لا يمكن أن نقبل أن نستيقظ صباح
كل يوم على خبر استشهاد شاب أو شابين وحتى ثلاثة شباب، وكان آخرهم شابين في جنين.
وقد وصل عدد الشهداء منذ مطلع العام الجديد 2023 حتى مساء الخميس نحو 17 شهيدا
منهم9 من محافظة جنين و4 أطفال. والى متى سيبقى هذا الحال. هذا يأتي رغم النجاحات
السياسية والدبلوماسية التي حققتها القضية الفلسطينية على الساحات الدولية
والقرارات التي اتخذت. لكن كما أثبتت الأيام الأخيرة، فإن العمل السياسي
والدبلوماسي ليس كافيا لردع الاحتلال، إذا لم يكن مقرونا بالعمل المقاوم فمن دون
هذا الرادع لن تكون له قيمة ولن يكون أكثر من حبر على ورق ينتهي مفعوله بجفاف
الحبر الذي كتب فيه. وهذا يتطلب وجود مسار ثان لحماية هذه الإنجازات وإلا فإنها ستكون
في مهب الريح.
القدس العربي