قال
المفكر والأستاذ في الاقتصاد السياسي، البروفيسور محمد عبد العزيز ربيع، إن استمرار
أزمة سقف الدين الأمريكي دون الوصول إلى حل سيكون له "آثار كارثية وتداعيات خطيرة"
سواء على مستوى الولايات المتحدة أو العديد من دول العالم المختلفة، وفي القلب منها
الدول العربية.
وقبل
أيام، تجاوز الدين الأمريكي المحلي المستحق على الحكومة السقف المحدد له من جانب الكونغرس،
وذلك في أزمة ربما تكون عميقة بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، ولم يتمكن المسؤولون
حتى الآن من التوصل إلى اتفاق نهائي في هذا الشأن.
على
إثر ذلك، أطلقت وزارة الخزانة الأمريكية "إجراءات استثنائية"، خلال الأسبوع
الماضي، لمواصلة الوفاء بالتزاماتها وتجنب التخلف عن السداد، من خلال محاولة خفض الإنفاق
قدر المستطاع، إلى حين التوصل إلى اتفاق سياسي.
وبلغ
إجمالي الدين المحلي المستحق على الولايات المتحدة 31.4 تريليون
دولار، وهو رقم يعادل
125% من الناتج المحلي الإجمالي لأمريكا.
تداعيات
خطيرة
وشدّد
ربيع، في حديث مع "عربي21"، على أنه "ليس باستطاعة أمريكا تسديد ديونها
لا اليوم ولا بعد ألف سنة، إلا بتغيير معدلات الضرائب وحصول فائض في
الميزانية السنوية
يتجاوز الفوائد السنوية المستحقة على
الديون، وهذا يحتاج إلى رفع نسب الضرائب بنحو
50%، وهذا أمر مستحيل لأنه يتعارض مع مصالح النخبة الحاكمة الفاسدة".
وقال:
"لما كانت ميزانية كل سنة لا تنفق في يوم واحد، وإنما على طول السنة المعنية،
فإن الإدارة الأمريكية باستطاعتها تحويل أموال الميزانية الحالية من دائرة لأخرى، وتقديم
بعض البرامج وتأخير بعضها الآخر؛ إذ تقول وزيرة الخزانة إنه يمكن الاستمرار في المفاوضات
بشأن رفع سقف الدين حتى نهاية شهر حزيران/ يونيو دون التأثير سلبا على سير الأمور".
وأضاف
ربيع: "الفشل في رفع سقف الدين العام قبل انتهاء هذه المدة من شبه المؤكد أن يتسبب
في تراجع ثقة الكثير من دول العالم ومؤسسات اعتماد مصداقية العملات، أو ما يسمى تحديد
الجدارة الائتمانية لمختلف العملات والدول، بما فيها الدولار وأمريكا".
ولفت
إلى أنه "مع خفض مستوى الثقة بالعملة الأمريكية وقدرة أمريكا على سداد التزاماتها فإن من المتوقع أن تؤدي ردود الفعل إلى حصول تخبط كبير في الأسواق العالمية عامة، وتراجع
أسعار الأسهم بنسب كبيرة".
وتابع:
"أما إذا استمرت الأزمة بضعة أيام دون بصيص أمل في التوصل إلى اتفاق بين الحزبين
لإنهائها، فإن الأزمة قد يتسع نطاقها ليشمل تراجع معدلات النمو الاقتصادي إلى أقل من
الصفر، وزيادة عدد العاطلين عن العمل، وقيام البنوك برفع معدلات الفائدة على القروض
بالنسبة للأشخاص والشركات والدولة".
وأوضح
أن "بعض التقديرات تشير إلى أن تكلفة الاستدانة للسنة الأولى سترتفع بمقدار
1.3 مليار دولار، وأن الكثير من المواطنين سيعجزون عن دفع الأقساط الشهرية المترتبة
على منازلهم وما عليهم من ديون أخرى للبنوك التي تصدر بطاقات الائتمان، وهذا من شأنه
أن يسارع عملية التراجع في معدلات النمو الاقتصادي، ليس فقط في أمريكا وإنما أيضا في
مختلف بلاد العالم".
تراجع
دور وقوة الدولار
وأشار
ربيع إلى أن "خفض الجدارة الائتمانية للدولار، المصنف كأكبر عملة احتياط في العالم،
من شأنه في الأحوال العادية أن يتسبب في انخفاض قيمة الدولار ودوره كعملة احتياط عالمية،
لكن عدم وجود عملة بديلة في الوقت الراهن، خاصة في ضوء تراجع قيمة اليورو، فإن من المتوقع
أن يجعل التأثير السلبي على قيمة الدولار ودوره قليلا".
وبسؤاله
عن ما إذا كانت واشنطن ستسقط في أزمات اقتصادية طاحنة، أجاب: "مما لا شك فيه أن
الفشل في رفع سقف الدين العام، وتباطؤ المفاوضات في واشنطن بين الجمهوريين والديمقراطيين،
سيؤدي إلى زيادة المشاكل بكافة أشكالها وأبعادها، وسيقود إلى تعميق أسباب التمحور العقائدي
بين الحزبين، ما يجعل من الصعب التوصل إلى اتفاق حول أيّة قضية".
وأضاف:
"مع كل هذه السيناريوهات، أعتقد أن الجمهوريين لن يغامروا بتأجيل التوافق إلى
ما بعد انقضاء شهر حزيران/ يونيو المقبل، وهو آخر موعد للحصول على أقصى ما يمكن الحصول
عليه من تنازلات من الرئيس بايدن وحزبه، ويعود السبب في هذا الأمر إلى أن وصول الاقتصاد
الأمريكي إلى حافة الانهيار، وارتفاع معدلات الفائدة على القروض، وزيادة أعداد العاطلين
عن العمل، وانخفاض أسعار الأسهم في أسواق المال من شأنه أن يلحق الضرر بمصالحهم ومصالح
أثرياء أمريكا عامة، ويضعف فرص فوزهم في الانتخابات القادمة".
أزمات
عربية متصاعدة
وحول
تداعيات أزمة الديون الأمريكية على الاقتصاد العربي، فلفت إلى أن "معظم الدول العربية
تعاني من أزمات اقتصادية ومالية واجتماعية وسياسية مختلفة ومتصاعدة، باستثناء دول الخليج
العربي المصدرة للنفط. لكن مدى تأثر الاقتصاديات العربية وغير العربية بهذه الأزمة
يعتمد على مدى تطور الأزمة المتوقعة في أمريكا بأبعادها الاقتصادية والمالية والاجتماعية".
وقال:
"معظم الدول العربية الفقيرة تجاوزت ديونها قدراتها على سداد تلك الديون، فيما
ترتفع معدلات الفائدة على تلك الديون وأعداد العاطلين عن العمل وأسعار المواد الغذائية
كل يوم تقريبا. لهذا السبب كلما طالت أزمة رفع سقف الديون في أمريكا كلما زادت حدة
تراجع معدلات النمو الاقتصادي في البلاد العربية ومعظم دول العالم الأخرى؛ وهذا من
شأنه أن يتسبّب في ارتفاع حدة ما تواجهه تلك الدول من أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسة،
وزيادة التكاليف المالية المتعلقة بتراكم الفوائد على الديون وارتفاع أسعار المواد
الغذائية".
وزاد:
"ينص الدستور الأمريكي على أن الكونغرس، بشقيه مجلس النواب ومجلس الشيوخ، هو الجهة
التي تقرر الميزانية السنوية بناءً على مقترحات الرئاسة، مع ذلك بإمكان أي من المجلسين
زيادة أو خفض الميزانية ومخصصات أي دائرة من الدوائر الحكومية والمعونات للدول الأجنبية
والمنظمات الدولية. لهذا تبدأ عملية رسم الميزانية بقيام الرئيس أو السلطة التنفيذية
باقتراح البرامج وميزانية كل برنامج وإرسالها إلى مجلس النواب".
وأشار
الأستاذ في الاقتصاد السياسي، إلى أن "مجلس النواب الأمريكي يقوم بدراسة الميزانية
المقترحة والموافقة عليها أو إجراء تعديلات عليها قد تكون كبيرة، وبعد موافقة أغلبية
أعضاء المجلس على الميزانية المُعدّلة يرفعها إلى مجلس الشيوخ الذي يقوم بدوره بالموافقة
عليها أو إدخال تعديلات عليها".
وتابع:
"في حالة عدم موافقة مجلس الشيوخ على الميزانية كما وصلته من مجلس النواب، فسيتم
تشكيل لجنة مشتركة من المجلسين للتفاوض وتبادل الآراء والتوصل لميزانية معتمدة من قِبل
المجلسين، وهنا يكون على الرئيس إما قبول الميزانية هذه أو استخدام حق النقض (الفيتو)
ورفضها، وهذا قلما يحدث لأن ذلك يفرض على الرئيس العودة من جديد لاعتماد ميزانية جديدة
تأخذ وقتا طويلا".
وأضاف:
"حينما يكون حزب الرئيس يُشكّل الأغلبية في مجلسي النواب والشيوخ، كما كان الحال
في العام الماضي، فإن هذه العملية لا تأخذ وقتا طويلا، لأن الرئيس يكون قد تشاور مع
قادة المجلسين وتم التوافق سلفا على الميزانية وما تتضمنه من برامح. لكن حين تتحكم
المعارضة، كما هو الحال اليوم، في أحد المجلسين فإن عملية التوافق على ميزانية بتعديلات
بسيطة أو بدون تعديلات تأخذ وقتا طويلا".
عجز
واشنطن عن سداد الديون
ونوّه
إلى أن "عملية تحديد سقف الدين العام لعبة تم التوافق عليها بين الحزبين (الديمقراطي
والجمهوري) في عام 1917، حتى لا ينفرد حزب بأوجه الإنفاق وميزانية البرامج المتعددة؛
فكل حزب يستخدم المال وبرامج محددة تخدم قطاعات السكان التي تنتمي إليه وتدعمه في الانتخابات".
واستطرد
ربيع قائلا: "منذ عام 1960، تم رفع سقف الاقتراض 78 مرة، 49 مرة في عهد الجمهوريين
و29 مرة في عهد الديمقراطيين".
وأشار
إلى أن "هناك ما يزيد على الـ60 دولة في العالم، تشمل معظم دول الغرب والكثير من دول
العالم الثالث، قد تجاوزت ديونها قدراتها على السداد، ما يعني أنه ليس باستطاعة أي
من تلك الدول سداد ديونها، ولا حتى وقف عملية تزايد الديون وتراكمها سنة بعد أخرى".
وأرجع
السبب في هذا الأمر إلى أن "تلك الدول، ومن بينها أمريكا، تنفق على نشاطاتها المختلفة
من برامج رعاية اجتماعية وجيوش وفوائد على الديون المتراكمة وغير ذلك أكثر مما تجمعه
من الضرائب التي تفرضها على المواطنين. ومما يؤكد هذا الأمر أن أمريكا دأبت على اعتماد
ميزانية سنوية تزيد عن دخل الدولة من الضرائب والرسوم المختلفة بنحو تريليون دولار
في العام منذ سنة 2001".
والبروفسور
محمد ربيع يحمل لقب أستاذ متميز في الاقتصاد السياسي الدولي؛ درس في 5 جامعات، وقام
بالتدريس في 11 جامعة في أربع قارات. نشر حتى اليوم 60 كتابا، 17 باللغة الإنجليزية،
وواحد باللغة الألبانية، والباقي باللغة العربية.
فيما
يرأس الدكتور ربيع، مجلس الفكر العربي في واشنطن، وعضو منتدى الفكر العربي، وزميل في
مؤسسة ألكساندر فون هومبولدت الألمانية منذ عام 1992. وقد استطاع إكمال دراسته بالحصول
على منح دراسية منذ المدرسة الثانوية حتى الحصول على الدكتوراه في الاقتصاد عام
1970 من جامعة هيوستن في أمريكا.
وهو
حائز على جائزة دولة فلسطين التقديرية على مجمل الأعمال الفكرية، وجائزة الجالية العربية
في مدينة هيوستن الأمريكية للتميز الأكاديمي والقيادة، كما أنه فاز بجائزة في الشعر في
مهرجان تيتوفا في ماسيدونيا الجنوبية، وعدة جوائز أخرى حصل عليها من جامعات ومؤسسات
عربية وأجنبية.