سياسة إدارة الأزمة التي اعتادت الولايات المتحدة اتباعها في علاقة بالشأن الفلسطيني والصراع مع الاحتلال، تحوّلت إلى تعميق للأزمة مع الاتفاقيات الإبراهيمية، وصولا إلى صعود الغلاة والمتطرفين إلى السلطة في
إسرائيل، وتكريسهم للعنف والمضي في الاستيطان، ومحاولة ضم الضفة الغربية بشكل صامت بمؤازرة أمريكية. ينضاف إلى ما صنعه «الوسيط الأمريكي» بقضية الحق الفلسطيني المسلوب، سياسة «تغيير النظام»، التي اعتمدتها الإدارة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط منذ عام 2001، وترتّب عنها العديد من الكوارث، من ذلك مشكلة الإرهاب، وتعميق الشرخ السني الشيعي.
هذه السياسة الفاشلة والانتهازية تسببت بمعاناة كبيرة، وبالعديد من الضحايا المدنيين، وليست مشكلة اللاجئين التي شهدت واحدة من أسوأ موجاتها في التاريخ الحديث، سوى نتيجة لمسار التدخل الخارجي، والعبث بالمنطقة وبشعوبها ومقدّراتها وبسلمها الأهلي.
كل ما تريده إسرائيل هو استمرار سياسة الأمر الواقع، لا يعنيها سلام ولا تريد حل الدولتين، والمبادرة العربية للسلام ألقت بها عرض الحائط، وأصبح من المخجل ترديدها في لقاءات الجامعة العربية، فكيان الاحتلال يمضي في سياسته العنصرية، رغم إدراك قادته فقدانهم المتزايد للدعم بين شرائح الرأي العام الدولي ممن لهم على الأقل بعض الاهتمام بحقوق الإنسان والحقوق المدنية.
ومع موجة التصعيد الإسرائيلي ضد سكان القدس وغيرها من المدن الفلسطينية المحتلة، تقف جلّ الأنظمة العربية والإسلامية كالعادة عند حدود التنديد وبيانات العاجز، وبعضها اعتاد بيع الأوهام وما زال يأتمر بأوامر
واشنطن. ولا أحد يتبنى السردية الفلسطينية بشكل عملي، خاصة بعد علاقات التطبيع العلنية، وتغيّر التوازنات. هناك، في أراضينا المحتلة، الغالبية العظمى من ائتلاف نتنياهو يعارضون حل الدولتين، ويؤيدون ضم الضفة الغربية، ويطالبون القوات الإسرائيلية برد أقوى من قبل على الهجمات الفلسطينية المسلحة. وتجد الأفكار اليمينية المتطرفة رواجا أكبر داخل إسرائيل، أحد الحاخامات القياديين في الحركة الاستيطانية، دوف ليور، يرى أنّ «كل الذين يؤمنون بالتوراة يعرفون أن هذا البلد موعود فقط لهذا الشعب. لا مكان لأي كيان وطني آخر في هذا المكان. لا توجد هنا دولة لشعب آخر. هذا البلد هو بلد الشعب اليهودي لوحده فقط».
مثل هذه التصريحات لم تعد تشكل في إسرائيل مواقف أحادية، فاليمين المتطرف لم يعد طرفا هامشيا، وإنما يتقدم باتجاه وسط الكنيست ووسط المجتمع. والحركة التي تتبنى شعار «الموت للعرب» وتنادي بهدم المساجد، تحديدا المسجد الأقصى وبناء الهيكل المزعوم، أصبح لها دور كبير في قرارات الحكومة الحالية. متغير رئيسي يتعلق بإسرائيل ذاتها، فقد تحوّلت إلى اليمين المتطرف والتدين المتطرف. وأصبح تأثير المجتمع الاستيطاني واضح داخل النظام السياسي الإسرائيلي. والصراع العربي الإسرائيلي صراع غريب في نظر نعوم تشومسكي، لأنه من السهل حله بالنظر لوجود إجماع دولي على كيفية الحل، ويذكّرنا تشومسكي في هذا السياق بألاّ نغفل أن الدول الثلاث الكبرى، الأشد دعما لدولة الاحتلال الإسرائيلي هي الولايات المتحدة وكندا وأستراليا. وهي كيانات قامت على حركات الاستيطان الاستعمارية، التي أبادت السكان الأصليين.
وما تفعله إسرائيل في فلسطين صورة مشابهة لما جرى في تلك البلدان. هناك من يعتقد أن موجة الشعبوية العالمية، وصعود التطرف في طريقها للانحسار، خاصة بعد انتهاء عهد ترامب. ولكن من المبكر الحكم على الأمر في ظل استمرار أقصى اليمين في تسجيل نجاحات في السويد وفرنسا وإيطاليا، وفي ظل ترسخ قوة الزعماء الشعبويين، وإعادة انتخابهم في الهند والبرازيل وبولندا وهنغاريا، وغيرها من الدول.
يختلف المشهد في إسرائيل في رأي الباحثة الفلسطينية هنيدة غانم لعدة أسباب، أهمها طبيعة المشروع الاستيطاني وتديينه في ظل الصراع على حسم مستقبل المشروع الذي ما زال مفتوحا على مصراعيه. وجاء صعود اليمين الجديد العالمي، متوازيا مع الانزياح المستمر في إسرائيل باتجاه اليمين وأقصى اليمين الاستيطاني، وتطبيع التطرف وتحول الشعبوية إلى ميزة أساسية في الحقل السياسي.
ربّما كان من الممكن تبرير وجود علاقات خاصّة بين الولايات المتحدّة وإسرائيل في زمن ما على أُسس أخلاقية. لقد تمّ النظر إلى خلق دولة يهودية باعتباره استجابة مناسبةً لقرون من النزعة المُعادية للساميّة العنيفة في الغرب المسيحي، بما في ذلك الهولوكوست، على سبيل المثال لا الحصر. مع ذلك كانت الحُجّة الأخلاقية في تقدير ستيفن والت، مقنعة فقط إذا ما تجاهل المرء تبعات ذلك بالنسبة للعرب الذّين عاشوا في فلسطين لقرون عديدة، وإذا ما اعتقدَ بأنّ إسرائيل بلدٌ يتشارك القيم الأمريكية الأساسية.
في الأثناء، الدعم اللامشروط لإسرائيل يجعل من الصعب كثيرا على الولايات المتحدّة الادّعاء بالمكانة الأخلاقية السامية على المسرح العالمي. ولا تُعدُّ الدعوة لإنهاء العلاقة الخاصة مرافعةً لأجل المقاطعة، سحب الاستثمارات، وفرض العقوبات على إسرائيل، أو إنهاء كلّ الدعم الأمريكي لها. بدلا من ذلك فهي دعوةٌ للولايات المتحدّة لأن تحظى بعلاقة عاديّة مع إسرائيل على غرار علاقات واشنطن مع أغلب البلدان الأخرى. مع وجود علاقات عادية، ستُدعّم الولايات المتحدّة إسرائيل حينما تقوم الأخيرة بأشياء تتماشى مع مصالح الولايات المتحدّة وقيمها، كما ستنأى بنفسها عنها حينما تتصرّف إسرائيل بطريقة مغايرة.
هكذا، لن تحمي الولايات المتحدّة إسرائيل بعد الآن من إدانة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدّة إلاّ حينما تستحّق إسرائيل هذه الحماية بوضوح. ولن يُحجِم المسؤولون الأمريكيّون عن الانتقاد المباشر والصريح لنظام الفصل العنصري لإسرائيل. سيكون السياسيون، النقّاد وصنّاع السياسات أحرارا في الثناء على سلوكات تل أبيب، أو انتقادها تماما كما يفعلون بشكل روتيني مع البلدان الأخرى من دون الخوف من فقدان وظائفهم أو تعرّضهم للدفن في حملات من التشهير المتناغمة ذات الدوافع السياسية المُضرّة بسمعتهم.
بين واشنطن وتل أبيب، استراتيجية تفاعلية قائمة على فكرة المصالح المشتركة في المقام الأول، حيث تقوم الولايات المتحدة وإسرائيل بتنسيق كبير وغير تقليدي عند إجراء النقاشات ووضع المخططات الاستراتيجية. وإسرائيل تحظى بضمانات أمنية أمريكية تكاد تكون مطلقة، وهو ما يُعتبر إضافة مهمة لقدراتها الكبيرة على الردع. ويبقى التحدّي الأكبر بالنسبة للولايات المتحدة هو فرض سلام على الفلسطينيين والإسرائيليين. والسلام المفروض أمريكيّا كما ينتظره إلى الآن كثيرون يجب أن يمنح الفلسطينيين كحدّ أدنى «دولة قابلة للحياة» ومتواصلة جغرافيا، ويُعيد بناء بنيتهم التحتية المحطّمة. فيما يبدو ليس لدى الإدارة الأمريكية، وليس لدى النخبة الإسرائيلية اليوم، أي اقتراح فعلي لحل النزاع مع الفلسطينيين، لا في ما يتعلّق بالضم، ولا الدولتين، ولا إدارة الصراع أو تقليصه.
(
القدس العربي)