كتب

"المريديّة بالسنغال".. حركة تحرر وطني واجتماعي أم صوفيّة طرقيّة؟

من بين الشخصيّات التي طبعت المسيرة المريديّة الخديمية في السنغال العلاّمة الشّيخ امباكي بُوسُو
من بين الشخصيّات التي طبعت المسيرة المريديّة الخديمية في السنغال العلاّمة الشّيخ امباكي بُوسُو
الكتاب:  "المشروع الحضاري للعلم والعمل في الفكر الخديمي"
المؤلّف:  محمّد الفاضل انيانغ (السنغال)
دار النّشر:  أوريزون
الطّبعة الأولى:  2023
عدد الصفحات:  153


على عكس الصّوفية الطّرقيّة السائدة اليوم بمعظم دول المغرب الإسلامي والتي تنزّلت من رحابة الفكرة والروحانيّة إلى ضيق الزوايا وغبش التوظيفين السياسي والاجتماعي، فإنّ الحركة الصّوفيّة بإفريقيّة وبإفريقيا جنوب الصحراء، نجحت في المعراج بمريديها من مستوى الاعتزال بالرّباط (معسكر الجند) والاقتصار على حلقات الذكر إلى مستوى تكوين حركة اجتماعيّة تقدّمية مكّنتها من صنع مجتمع مُوازِ لمجتمع الدولة واقتصاد اجتماعي عادل، يؤكّد د. عادل بالكحلة، أستاذ علم الاجتماع بالجامعة التونسيّة، لـ "عربي21".

 فعلى غرار جهد حركة "أبي مدين الغوث" في القرن الثاني عشر الميلادي في مواجهة الخطر الهلالي والنّرماني، فضلا عن إقامتها السلم الأهلي بين بني هلال الغازين المُخرّبين وبين البربر الهاربين في الجبال، كابد الأمير عبد القادر الجزائري، شيخ الزاوية الشاذلية، الاحتلال الفرنسي للجزائر منذ 1832 م حتى لُقِّب برمز المقاومة الشعبية.

وعلى درب الأمير عبد القادر، سار شيخ الزاوية سيدي علي بن خليفة النفاتي وقاوم الغزو الفرنسي للبلاد التونسية ربيع 1881م. ثمّ سار على دربهما الشيخ المجاهد عمر المختار، شيخ زاوية القصور السنوسيّة بالجبل الأخضر، الذي قاوم الاحتلال الإيطالي لليبيا إلى تاريخ إعدامه شنقا سنة 1931م. كما نجح الشيخ علي بن غذاهم، الشيخ الأكبر للتيجانية في تونس، في تحريك الثورة الشاملة من الشمال إلى الجنوب ضد الاستبداد والتبعية للإمبريالية الغربية بين سنتي 1864 م و1867م.

ولئن كانت المقاومة المسلّحة للغازي الأجنبي التعبيرَ الأبرز الذي وَسَم الفعلَ الاجتماعي التحرري للحركة الصّوفية ببلاد المغرب الإسلامي، إلى حدود النصف الأوّل من القرن العشرين، فإنّ تمثّل الحالة الثّقافيّة الدّينيّة والاجتماعيّة السّياسيّة الّتي كان يعيشها الإنسان الإفريقي-جنوب الصّحراء، السّنغالي على وجه الخصوص، كانت العنوانَ الأبرز للمشروع الإصلاحيّ للشّيخ المجدّد أحمد بمب امْبَاكِي الخديم طوال أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وقد اعتمد الشيخ أحمد الخديم "الخدمة"، وقوامها ثلاثية العلم والعمل والآداب، منهجاً وبديلاً حضارياً وثقافياً، قاوم به قوات الاحتلال الفرنسي، وهو ما كلّفه الاعتقال من قبل قوّات الاحتلال الفرنسي والنّفي مرتين إلى كلّ من الغابون وموريتانيا. وشكلت الطريقة المريديّة للشيخ أحمد الخديم، والتي تعرف بالجهاد السلمي الخديمي، أكبر الطرق السنغالية نفوذاً في جميع المجالات الحضارية منذ إعلان دعوته التّجديديّة سنة 1883م.

الوعي المبكّر بمركزية البناء الفكريّ والسلوكيّ والحضاري

إنّ وعي الشّيخ أحمد بمب امْبَاكِي الخديم المبكّر بمركزية البناء الفكريّ والسلوكيّ والحضاريّ، ضمن المشروع الإصلاحي، هو الذي شكّل عصاته التي اتكأ عليها في جهاد الحفاظ على الهويّة السنغاليّة. وهو الذي "كان في العقيدة أشعريًّا، وفي الفقه مالكيًّا، صوفيًّا مذبوحًا بمحبة الرّسول ﷺ وخدمته، شديدَ المحافظة على الشّريعة والحقيقة". وقد سخّر الشيخ العلم والعمل، بنعتهما آليّات أساسيّةً لمشروعه التجديديّ، للخروج بالإنسان السّنغاليّ إلى الشّهود الحضاريّ الإسلاميّ الأسمى. كما أنّ هذا الوعي التقدّمي هو الذي بوّأ الشيخ أحمد بمب اسم "خادم الرسول"، وأن يجعل منه إحدى الشخصيات البارزة في الإسلام الصوفي بمنطقة غرب إفريقيا من خلال تأسيسه للطريقة المريدية .

فكرة الكتاب

في هذا الإطار يتنزّل كتاب "المشروع الحضاريّ للعلم والعمل في الفـكر الخديمي" لمؤلّفه محمّد الفاضل  أنيانغ، باحث سنغالي بالمعهد العالي لأصول الدّين ـ جامعة الزّيتونة التونسيّة، وبالمعهد العالي للعلوم الإنسانيّة ـ جامعة تونس المنارالذي حرص على إبراز مبدأ تلازم العلم والعمل في مشروع رائد الإصلاح في السنغال الشيخ أحمد الخديم. "فإذا كانت مهمّة العلم الرّئيسة هو أن يدرك الحقيقة، فإنّ هذه الحقيقة لا قيمة لها ما لم تتّجه صوب ميدان الممارسة، وباتجاه الحياة، وباتّجاه الفضيلة، وذاك هو المغزى الأعمق للتّكامل الذي يصل إلى حدّ التّطابق بين العلم والعمل أو بين النّظر والممارسة كما صاغه الشيخ الخديم".  كما أبرز المؤلف كيف أنّ العلم هو قاعدة العمل في المشروع الخديمي وأنّ العمل يجب أن ينصبّ على تغيير فعلي للواقع.

تنبني "فلسفة الخدمة" عند رائد الإصلاح الشيخ أحمد الخديم على رؤية صوفيّة كليّة جوهرها وحدة العبادة والسّلوك، تلازم العمل والعلم، أو التّطابق بين النّظر والعمل، أو النّظرية والتّطبيق بحسب اللّغة الحديثة... وإذ ينطبق هذا المعنى على الحكيم، فإنّ الشيخ الخديم اتّخذه مبدأ رئيسًا في حياته، وفكره، ومنهجا في مشروعه الإصلاحيّ.
وقد حاول محمّد الفاضل أنيانغ الإجابة على إشكاليّة متحورة في تساؤلات لا تعدو أن تكون فرضياتٍ جوهريةً وهي: كيف حوّل الشّيخ الخديم الفكر الصوفيّ وسخّر العلم والعمل بنعتهما آليّات أساسيّةً لمشروعه التجديديّ، للخروج بالإنسان السّنغاليّ إلى الشّهود الحضاريّ الإسلاميّ الأسمى؟ وهل تمكنت المقاربة الإصلاحيّة المريديّة من تقديم بديل حضاريّ يرضي السّياق التّاريخيّ والاجتماعيّ للسّنغال بمعالجة المشكلات الّتي تُخمد وقود الوعي الفرديّ والجماعيّ؟ وإلى أيّ مدى تمثّل الإسهامات المعرفيّة المريديّة ملأً للفراغ الكبير الّذي كان ـ وما زال ـ يؤرّق المكتبة الإسلاميّة وتحديدًا المكتبة الإفريقيّة؟ وفيم تتجلّى المرجعيّة الفلسفيّة الدّينيّة الّتي أدّت الطّريقة المريديّة إلى تبنّي العمل (الخدمة) أيديولوجيًّا، وما هي مخلّفاتها الثّقافيّة والحضاريّة على المجتمع السّنغاليّ؟

وأخيرا: هل يعني تمرْكز الفكر المريدي على العلم والعمل انبهارًا في المادّة دون الرّوح كما في الحضارة العصريّة، أم يعني ذلك جعلَ الدّنيا مطيّة للآخرة على أساس أن العلم والعمل إذا جُرّدا من كل قيم أخلاقيّة ظلَّا شجرةً بلا ثمر، وأن الموروث الأخلاقيّ إذا لم يُفعم بهما صارت ثنائيّةُ الوهم والفوضى للنّاس إمامًا؟

طغيان الطابع السردي التاريخي على المراجع المريديّة

يؤكّد المؤلّف محمّد الفاضل أنيانغ أنّه لئن حفلت المكتبة العلمية ببعض المصادر والمراجع المريديّة التي قدّمت جهودا معرفيّة اجتهدت في دراسة بعض القضايا الكبرى في الفكر المريديّ قديمًا وحديثًا، بأبعادٍ شتّى، إلاّ أنّها انتحت في معظمها مبحثا أدبيّا لا حضاريّا وطغى على بعضها طابع السّرد التّاريخيّ منهجًا، إلى الحدّ الذي لا تكاد توجد في الفكر المريديّ دراسةً حضاريّةً منزّلةً في الواقع السّنغاليّ؛ لأنّ الغالب منها يعطينا صورةً وصفيّةً للجانب النظريّ فقط دون الجانب التّطبيقيّ.

هذا فضلا عن كون بعضها غفلت عن التّطرّق إلى النّظمِ التّعليميّة التّربويّة قديمًا وحديثا، ودور المكتبات وغيرها، وكذلك الشّأن في العمل حيث لم يتم التوسّع فيه دينيا واقتصاديّا وعمرانيّا. في حين أنّ الواجب الأكاديمي والبحثي يتطلّب تبيان الدّور الرّئيس الّذي يؤديّه العلم في ترقية الوعي الفرديّ والجماعيّ إلى القمة الثّقافيّة، وصولًا إلى بلورة مفاعيل العمل الرّوحيّ والماديّ في عَزْوِ الأمّة المسلمة إلى الشّهادة الحضاريّة، الّتي منبعها الإسلام.

مشروع تجديدي قوامه العلم والعمل

يعدّ الشّيخ أحمد بمب امْبَاكِي الخديم من الصّف الأوّل لأكابر المصلحين، بوصفه مجدِّدًا صوفيًّا ظهر في هذا القُطر، حيث إنّ دعوته التجديديّة جاءت في سياق كان المجتمع السّنغاليّ والعالم الإسلاميّ عمومًا بحاجة ماسة إلى الوعي الفكريّ والرّقي الأخلاقيّ و النّهوض الاقتصاديّ؛ فقدّم لهم مشروعًا تجديديّا قوامه العلم والعمل، واستطاع من خلاله تربيّة الإنسان السّنغاليّ فردًا وجماعةً وحكومةً بالهمّة العالية تربيةً تُطابق ما ربىّ به النبيّ ﷺ أصحابه، وترقيته إلى اللّه بالإيصال، فضلًا عن مقاومته الثّقافيّة الفكريّة للاحتلال الفرنسيّ، الّتي أخذت منهجًا جديدًا غاير مناهج مَن قبلَه من المصلحين.

منهج البحث

اعتمد المؤلّف ثلاثة مناهج مختلفة في دراسة الفكر الخديمي وهو ما ساعده على إدراك الحقائق الحضاريّة الكامنة في طيّات التّراث الخديميّ، وتتمثّل المناهج المذكورة في الآتي: المنهج الوصفي، المنهج الاستقرائي النّقدي والمنهج التاريخي. وقد اعتمد المنهج الوصفيّ لوصف الظّواهر التّاريخيّة السّنغاليّة وتفكيك متغيّراتها الاجتماعيّة وثوابتها الدّينيّة في الطّرح الخديميّ على المستوييْن العلميّ والعمليّ، وصفًا تحليليًّا حضاريّا يقدر على ربط تلك الظّواهر بعللها البعيدة، للوصول إلى المثُل العليا المنزّلة في السّياق المريديّ الرّاهن، استشرافًا لمستقبل سعيد.

في حين اعتمد المنهج الاستقرائيّ النّقديّ، لإعادة النّظر في المُعطى المعرفيّ الّذي تحتضنه تلك المصادر العلميّة الّتي تناولها، نظرةً استقرائيةً نقديةً تحاول استنطاق إيماءاتها الضّمنيّة في واقعنا المعيش، والبناء على أفكارها، وذلك برفع الجزئيات العلميّة إلى كلياتها بلا ذوبان؛ للتّعبير عن النّتائج الّتي توصلنا إليها من خلال المشروع الحضاريّ الّذي يحمله الخطاب الخديميّ صِرفًا.

 أمّا المنهج التّاريخيّ، فيبرر الحاجة إلى اعتماده أنّ الكتاب يتناول دراسة فكر إحدى الشّخصيات التّاريخيّة الكبرى، الّتي مازالت بصماتها خالدة، إلّا أن امتداد هذا الفكر زمنيًّا ومكانيًّا جعل الكثير لا يميّزون بين الأصيل والدّخيل منه؛ فأراد المؤلّف أن يستلهم من الحقائق التّاريخيّة الصّحيحة بمصادرها الموثوق بها دراسةً منقّحةً، تعطي صورًا واضحةً من السّياقات الحدثيّة الّتي مر بها المشروع الحضاريّ للعلم والعمل في الفكر الخديميّ، إشباعًا لحاجات حاضر الإنسان السّنغالي.

هيكلة الكتاب

يحتوي كتاب "المشروع الحضاري للعلم والعمل في الفكر الخديمي" مقدّمة ومدخلا تمهيديّ وفصولا ثلاثة وخاتمة؛ فتحتوي المقدّمة العناصر العشرة الآتية: دواعي اختيار الموضوع، وإشكاليّة البحث، والدّراسات السّابقة، ونقد المصادر والمراجع، وأهمية البحث، وصعوباته، ومنهجه المعتمد، وأهدافه، وحدوده، وخطته. ثم بينّ المؤلّف محاور ثلاثة في المدخل التّمهيدي: أولها: المفاهيم اللّغوية والاصطلاحيّة، وثانيها: النّبذة التّعريفية للشّيخ الخديم، وثالثّها: السّياقات التّاريخيّة السّنغاليّة الّتي مهّدت الطّريق لبزوغ المشروع الخديميّ.

وأمّا الجوهر الّذي يتضمن الفصول الثّلاثة؛ فقد جعل  المؤلّف فيه لكل فصلٍ تمهيدًا، وثلاثة مباحث، وخاتمة؛ بدءًا بالفصل الأوّل الّذي يتناول "العطاء العلميّ للحضارة الإسلاميّة: مقوّماته ومظاهره في الفكر الخديميّ"؛ فيحلّل البعد التّوعويّ العلميّ للعقل المريدي الّذي يعكس منطلقًا ثقافيًّا للذّات المريدة، مصحوبًا بالأدبيّات المريديّة  بوصفها إسهاماتٍ معرفيّةً للتراث الإسلاميّ والإفريقيّ، ثم تطرّق إلى تفكيك أسس التعلّم وآدابه في تنشئة العقليّة المريديّة، وبالتّالي عرض أنماط التّعليم المريدي ودوره التّربويّ في تثقيف الوعي السّنغاليّ أصالةً وحداثةً، وقيمة العلم والتّعليم في الطّرح الخديميّ، حيث الأمصار والمكتبات والمؤسّسات العلميّة.

ويعالج الفصل الثّاني إشكالية "فلسفة العمل الدّينيّ والماديّ وتمظهراتهما الأخلاقيّة والاقتصاديّة في الفكر الخديميّ"، أولًا: التّركيز على العمل من النّاحية الدّينيّة، وأبعاده الرّوحيّة الّتي تظهر فيها ممارسة الطّقوس الشّرعيّة المتجلّية في المجتمع المريد الّذي يُعدّ منحىً صوفًيّا تربويًّا، ثانيًّا: دراسة قيمة العمل الماديّ ومخلّفاته الاقتصاديّة الّتي تعتبر عاملًا أساسًا في جعل الطّريقة المريديّة رائدةَ النّفوذ الاقتصاديّ السّنغاليّ، ثالثّا: تمحيص الدّقائق الفلسفيّة الكامنة في نظريّة الخدمة باعتبارها بديلًا حضاريّا تجديديّا تبنّاها الفكر الخديميّ في الإصلاح. وانتهاءً بالفصل الثّالث المُعَنْوَن بـ"تمظهرات علاقة العلم والعمل في النّهضة المريديّة". وأخيرًا وضع المؤلّف خاتمة عامّة حَوَت النّتائج الأساسيّة الّتي أبانتها المسيرة البحثيّة.

مفهوم "الخدمة"

تنبني "فلسفة الخدمة" عند رائد الإصلاح الشيخ أحمد الخديم على رؤية صوفيّة كليّة جوهرها وحدة العبادة والسّلوك، تلازم العمل والعلم، أو التّطابق بين النّظر والعمل، أو النّظرية والتّطبيق بحسب اللّغة الحديثة... وإذ ينطبق هذا المعنى على الحكيم، فإنّ الشيخ الخديم اتّخذه مبدأ رئيسًا في حياته، وفكره، ومنهجا في مشروعه الإصلاحيّ.

وتفهم "الخدمة" في المشروع الإصلاحي للشيخ أحمد الخديم كما أسماها الدكتور زهيّر المدنيني بأنّها "آليّة نظريّة وعمليّة تجمع بين الروحانيّ والواقعيّ لدي الشيخ أحمد الخديم". وهي إلى ذلك "الأسّ الذي تتمحور حوله مختلف الفعاليّات الّتي يمارسها الإنسان في شتّى تفصيلاتها العقديّة والحياتيّة (العبادة والسلوك/ النّظر والعمل)". والخدمة في المشروع الخديمي تحديدا، تتنزّل بما هي منهج، وبما هي رؤية، وبما هي إجراء هدفه الإصلاح بالمعنى الشامل: إصلاح معتقدات النّاس، وإصلاح سلوكهم، وإصلاح المجتمع، وإصلاح السّياسة، وإصلاح التّربية والتّعليم والاقتصاد...

نماذج من التّحرر الفكريّ والعمليّ المريدي

يقول المؤلّف محمّد الفاضل أنيانغ إنّه لاستحالة بناء صرح حضاريّ، أساسه التّقدم الثّقافيّ والرّقي الأخلاقيّ بمعزل عن عقل صمَد في التّحرّر من القيود الفكريّة والعمليّة، وبما أنّ المريديّة بصفتها حركة اجتماعيّة تجديديّة فاعلة بإرادة حرّة تسعى إلى إفراز نهضة حضاريّة لها شخصيّات في كلّ المستويات الحياتيّة، يتمّ من خلالها مواصلة المشروع الخديميّ، فقد توفّرت على إسهامات في التّراث الإسلاميّ خصوصًا، والتّراث الإنسانيّ عمومًا على المستوى المعرفيّ والعمراني وكان لها شخصيّاتٍ بارزةً في الحقلين الفكريّ والإجرائي.

من بين الشخصيّات التي طبعت المسيرة المريديّة الخديمية في السنغال العلاّمة الشّيخ امباكي بُوسُو: هو محمّد بن محمّد بوسو الكِيدِويّ[1281-1364هـ/1864-1946هـ]، العالم الأصوليّ، والفلكيّ الصوفيّ، ومفتي الدّيار الطّوبويّة في زمنه، ولد في قرية امبُسُوبي [Mboussobé] بمنطقة جُلُفْ [Diolof] .  ويعتبر هذا العلاّمة رمزًا كبيرًا من الرّموز العلميّة المريديّة للجيل التّأسيسيّ، لازم الشّيخ أحمد بمب ونهل من ينابيع فنونه العلميّة توحيدًا ونحوًا وتصوّفًا، ثمّ واصل الدّرب متتلمذًا على يدي الشّيخ صَمْبَ تُوكُلُورْ كَهْ المطوّلات، ولمّا تبحّر جمع فأوعى عشرين علمًا من الحقل المعرفيّ الإسلاميّ والإنسانيّ، فضلًا عن الفتوحات الرّبانيّة الّتي حظي بها في مساره السّلوكيّ الصوفيّ، ومن ثمّ تجلّت في شخصيّته العلميّة روح النّقد البنّاء على أساس بلورة نهضة فكريّة مريديّة، من خلالها أصبح عضدًا ومستشارًا لمؤسّس المريديّة، الّذي ولّاه التّدريس والإفتاء في الدّيار الطّوبويّة؛ وقد أدّى دورًا علميّا بارزًا في السّنغال عمومًا وفي المريديّة خصوصًا .

تفهم "الخدمة" في المشروع الإصلاحي للشيخ أحمد الخديم كما أسماها الدكتور زهيّر المدنيني بأنّها "آليّة نظريّة وعمليّة تجمع بين الروحانيّ والواقعيّ لدي الشيخ أحمد الخديم". وهي إلى ذلك "الأسّ الذي تتمحور حوله مختلف الفعاليّات الّتي يمارسها الإنسان في شتّى تفصيلاتها العقديّة والحياتيّة (العبادة والسلوك/ النّظر والعمل)".
ويحسب للعلاّمة الشّيخ امباكي بُوسُو أنّه حوّل العقل الصوفيّ وسخّر التّحرّر الفكريّ إبداعًا في العلميّات من الرّياضيّات، وميكانيكا العلميّة، وتِرْمُودِينَامِيكْ، للخروج بالثّقافة السّنغاليّة إلى وعي حضاريّ متسامٍ، دون الانكباب على مجرّد البحث في العلوم الدّينيّة، ما جعل مدرسته يأتيها الطّلبة الباحثون من كل مكان. ولهذا نرى أنّ جُلّ النّوابغ المريدين من الرّعيل الأوّل تخرّجوا في مدرسته، وأصبحوا ينشرون هذا التّفعيل المعرفيّ في القطر السّنغاليّ، غير أنّ الجدير بالبيان أنّ دوره المعرفيّ لم يكن مقتصرًا على التّربية والتّعليم فقط، وإنّما كان له اهتمام كبير بالتّأليف. ومن أدبيّاته: "قطعة في كيفيّة معرفة القبلة بواسطة الظّل"، و"أمان البليد من خطر التّقليد، مقدّمة في فن الرّسم"، و"آداب تعليم القرآن الكريم"، و"طرّة الورقات المشتملة على فصول من أصول الفقه"، و"رسالة في الطّب الرّوحانيّ"، و"شرح المنن الكافي في علمي العروض والقوافي".

الشخصية المريديّة  الثانية هي العلاّمة الشّيخ عَنْتَ جُوبْ: هو العلاّمة الفيلسوف الحضاريّ والمؤرّخ الأنثروبولوجيّ  الشّيخ عَنْتَ جُوبْ بن مَصَمْبَ سَاسُمْ جوب [1923-1986م]، حفظ القرآن ودرس العلوم الدّينيّة، والتحق بالدّراسة الجامعيّة بجامعة السّوربون في فرنسا حاصلًا فيها على ثلاث شهادات للدكتوراه تحت العناوين الآتية: "مستقبل الفكر والثّقافة الإفريقيّة" سنة 1949م، وهي أوّل أطروحة لم يجد لها مناقِشًا ربّما لأسباب سياسيّة تخدم مصالح الاحتلال الفرنسيّ إجهاضًا للوعي الاجتماعيّ الإفريقيّ عمومًا والسّنغاليّ خصوصًا بالتّقدم الثّقافيّ والرّقي الحضاريّ، إلّا أنّه كان ذا همة عالية في البحث العلميّ، ولم يتمثّل ذلك عنده إخفاقًا أو عائقًا في مسيرته الدّراسيّة، بل كان له إيمان قويّ في المضيّ قدمًا للنّجاح، ولهذا نجح في مناقشة أطروحتين أخريين تحمل إحداهما عنوان: "إفريقيا السّوداء ما قبل الاستعمار" سنة 1960م، وعلاوة على ذلك أنّه درس الكيمياء والفيزياء.

كما كان للعلاّمة الشيخ عنت جوب إسهام ثقافي ذو طابع إفريقيّ وعالميّ، حيث كان الشّيخ عَنْتَ جُوبْ عنصرًا ثوريًّا كشف النّقاب عمّا زيّفه الاحتلال من الحضارة الإفريقيّة، وهذا بيّنٌ ضمن خطاباته لسّياسيّة والفكريّة، الّتي تحمل مشروعًا فكريًّا وحضاريًّا يحاول تحرير الشّعوب الإفريقيّة من ربقة الاحتلال، ومن ثمّ يعتبره بعضُ الباحثين حامل راية المدرسة العلميّة في الحركة المريديّة، ومن إسهاماته: "العصور القديمة الإفريقيّة من خلال الصّور"، و"أقدميّة الحضارات الزّنجيّة"، و"الأمم الزّنجيّة والثّقافة"، و"إفريقيا في تاريخ العالم"، و"الوحدة الثّقافيّة لإفريقيا السّوداء"، و"الأسس الاقتصاديّة والثّقافيّة لدولة فيدراليّة لإفريقيا السّوداء"، و"مساهمة إفريقيا في الحضارة العالميّة" . ويمكن القول إنّ هذا الفيلسوف رجل متعدّد المواهب؛ فهو ليس متخصّصًا في حقل علميّ واحد، وإنّما صعد إلى القمّة في الفيزياء والتّاريخ وعلم الاجتماع واللّسانيّات والسّياسة؛ ليوقظ القارّة السّمراء من سباتها العميق.

أمّا الشخصية المريديّة  الثالثة فهي الشّيخ إبراهيم فَالْ بن أحمد رقيّة فَالْ[1855 ـ 1930]، ولد في عائلة ملكيّة بـ "انْجَاِبي فَالْNdiaby Fall " بـ "انْجَامْبُورْ Ndiambour" إحدى الممالك السّنغاليّة، وهو الوليّ الصّالح كبير المريدين الصّادقين، الّذي وفى بعهده للعبد الخديم حبًّا وتفانيًا في خدمته. أدّى دورًا مهمًّا في نشر الطّريقة المريديّة لدى عائلات الملوك، وفي التّقدم الحضاريّ بتطوير النّشاط الاقتصاديّ زراعةً وتجارةً للمجتمع السّنغاليّ، وبالتّالي "أسلم بسببه ألوف من فسّاق كَجُورْ Cadior وبَوُلْ Baol وسِينْ Sine من بيوت الأمراء وأتباعهم. وتعدّ هذه الشّخصيّة انعطافًا مريديًّا اتّخذ "المفردات الحضاريّة الإفريقيّة إطارًا ملحميًّا للتعبير عن فلسفته الثّورية "، الّتي حوّلت العلاقات الاجتماعيّة من أشكالها العموديّة إلى الأفقيّة في الخدمة، تطبيقًا جذريًّا للرؤية الفلسفيّة المريديّة  تجاه العمل بشتّى  أشكاله التّربويّة والاقتصاديّة والعمرانيّة؛ فأصبحت المريديّة ـ بفعل تبنيها العلمَ والعمل ـ أكبر طريقة صوفيّة في السّنغال من حيث الكثرة العدديّة، والنّفوذ الاقتصاديّ، ما أدّى إلى احتلال المريدين أكثر المناصب العليا من القيادة الوطنيّة والزّراعة والتّجارة في بعدها الحضاريّ .
التعليقات (1)
نسيت إسمي
الأربعاء، 15-03-2023 10:33 ص
'' البطل الأسطوري '' عمر المختار أسد الصحراء الزعيم الذي لا يقهر رمز للكفاح و النضال في تحرير الأوطان ولد 1858م بالجبل الأخضر لليبيا الذي كانت تابعة للحكم العثماني الملقب بأسد الصحراء و شيخ المجاهدين و شيخ الشهداء، لأنه أرهق الحكومة الإيطالية و البريطانية لأكثر من 20 سنة لكي يقبضو عليه و هدم أسطورتهم التاريخية التي زلزلت العالم لسنين طويلة، درس العلوم الشرعية الفيقه و الحديث و التفسير في المعهد لمدة 8 سنين تقرباً و شاهد له أساسدته بنبهته و رجحت عقله و حسن أخلاقه و حب الدعوة و نشر الإسلام، و كان مشهور مع أصدقائه بالجدية و الحزم و الإستقامة و الصبر، و في هذه الفترة بدأ "عمر المختار" بدراسة جغرافية الصحراء المحيطة به و يعرف كل الطرق و الاختصارات بين الجبال و التلال في صحراء ليبيا و إهتم بدراسة النباتات الموجودة في بيئته و خصائصها و تعلم كل حاجة عن الماشية و الأمراض التي تصبها و طرق علاجيها كما يعرف طباع كل قبيلة محيطة به نسبها عددها و تقاليدها لدرجة أن البعض كان يحس أن الصحراء بمثابة بيت له يحفظ كل ركن فيها، و طلع له ساعتها لقب "أسد الصحراء" بعد الحادثة المشهورة التي جعلت من إسمه شعار تعرفوه كل القبائل، كان الشيخ محمد المهدي في رحلة من منطقة الكفرة إلى منطقة قرو في غرب السودان، كان مصطحب "عمر المختار" معه ضمن قافلة فيها عدد من شيوخ الدعوة و ساعتها قطع عليهم "الطريق أسد ضخم في وسط الصحراء" فقرر الشيخ محمد المهدي أن يفتدي نفسه و أهله بواحدة من الماشية كي يتخلصو من هذا الأسد لكن "عمر المختار" رفض أنه يعمل هذا و قال ساعتها إن الإتوات التي كان يفرضها القوي منا على الضعيف قد أبطلات فكيف يصح أن نعيدها لحيوان!! و الله إنها علامة ذل و هوان و الله إن خرج علينا لندفعه بسلاحنا و ساعتها تقدم "عمر المختار" نحو الأسد لوحده لغاية ما قتلوا بعدها سلخ جلدو و علقو على وتاد "وسط الطريق" كي تراه باقي القاوفل التي تعبر من هناك، و فضل في السودان 10 سنين كان ينشر الدعوة و الإسلام في منتهى الجدية و الإلتزام لدرجة كان يقول عنه محمد المهدي و الله لو كان لدينا عشرة من "عمر المختار" لكتفينا به، في سنة 1897م تم تعينيه شيخ لبلدة إسمها زاوية القصور قريبة من منطقة الجبل الأخضر في ليبيا و أطلق عليه "سيدي عمر" و بعدها بثلات سنين بدأ الإحتلال الفرنسي لتشاد و إنضم "عمر المختار" لصفوف المقاومة كي يحرر البلد من ظلم الفرنسين، و أثناء الحرب حصلت واقعة مشهورة، ساهمت في زيادة شعبية "عمر المختار" عند القبائل و هي الإبل و الجمال التي كان المجاهدين يستخدمونها في القتال أصبت بدأ الجرب، فاسحب "عمر المختار" الإبل التي يبلغ عددها 4000 و إتجاه بها لعين كلاك لكي يعالجها في فترة قصيرة تعافت كل الإبل. و في عام 1902 توفي شيخه محمد مهدي، فاستدعت القيادة السنوسية "عمر المختار" لكي يكون حاكم زاوية القصور، و أشادة الحكومة العثمانية في جلب الهدوء و الإستقرار في منصبه الجديد في السيطرة على شغب الأهالي هناك في فترة قصيرة جداً، و فضل في منصبه 8 سنوات و كانت عمليته ضد الإنتداب البريطاني على الحدود المصرية اليبيا مستمرة، لدرجة أن البريطانيين كانوا يعتبره ساعتها شبح الصحراء.