أصبحت مقولة لا عداوة دائمة ولا صداقة دائمة في السياسة
من المقولات البديهية التي لا تحتاج إلى توضيح، ولكن ما يجب أن نشير إليه هنا هو
أن هناك أصلاً مهماً يحكم
العلاقات الدولية وهو أن الدول (بالمفهوم الويستفالي) لا
تقتطع ارتباطاتها بشكل كامل، وعليه فإن ما جرى الإعلان عنه من مصالحة سعودية-
إيرانية
بوساطة صينية هو ثمار لجهود سنتين من التفاوض في عُمان والعراق، بحيث تم اختتام
هذه الجهود من خلال جولة مفاوضات أمنية عبر مسؤولين أمنيين من كلا البلدين، هما الأمين
العام لمجلس الأمن القومي الإيراني علي شمخاني، ومستشار الأمني الوطني للملكة
العربية
السعودية مساعد بن محمد العيبان.
شهدت العلاقات السعودية- الإيرانية تقلبات عديدة منذ
الثورة الإيرانية، ولكن دخلت العلاقة مرحلة القطيعة بعد أن قام عدد من المتشددين
الإيرانيين بإحراق السفارة السعودية في طهران ومهاجمة القنصلية السعودية في مدينة مشهد؛
احتجاجاً على إعدام السعودية للشيخ الشيعي نمر باقر النمر بتهم تتعلق بالإرهاب.
منذ ذلك الوقت دخلت السعودية وإيران مرحلة تنافس وصراع عسكري خطير تمثلت في زيادة
الإنفاق العسكري السعودي بشكل هائل والبحث عن مجال لتطوير برنامج نووي سلمي، على
الضفة الأخرى دعمت طهران الحوثيين بالسلاح (وعلى الرغم من نفي إيران) إلا أن
السعودية اتهمت إيران بضرب عصب
الاقتصاد السعودي، وأقصد هنا منشآت النفط في أرامكو
في العام 2019، بشكل مباشر أو غير مباشر.
تمحورت سياسة بايدن الخارجية حول الاستعانة بمصادر خارجية لاحتواء مصادر التهديد، أي أوكرانيا والناتو لمواجهة روسيا، إسرائيل والسعودية لمواجهة إيران، وبالتالي تتفرغ الولايات المتحدة لترميم العجز الاقتصادي الناجم عن جائحة كورونا وخفض معدلات التضخم وخفض نسب البطالة. هذه السياسة دفعت أطراف دولية إلى الدخول إلى خط الشرق الأوسط، حيث تتركز اهتمامات الصين نحو خلق بيئة هادئة للدفع بمبادرة الطريق والحزام إلى الأمام
حدثان هامان للغاية ساهما في تغيّر جذري في
الاستراتيجيات الكبرى للسعودية، هما قتل الصحفي خاشقجي وهجمات أرامكو. بعد هذين
الحدثين اتجه الأمير محمد بن سلمان نحو بناء سياسة خارجية تقوم على العقلانية
والواقعية السياسية للمضي قدما في تحقيق التنمية المستدامة. لقد عمل الرجل على
إعادة صياغة العلاقة مع الولايات المتحدة وإخراجها من مظلة الحماية مقابل النفط
إلى مظلة العلاقات المتكافئة، ولفهم هذه السياسة علينا مراجعة تصريحات السفيرة
السعودية ريما بنت بندر بن سلطان في الولايات المتحدة التي قالت بأن السعوديين
يرحبون بإعادة صياغة العلاقات مع الولايات المتحدة. ولتحقيق تحالفات وتوازنات
إيجابية، استقبلت السعودية الرئيس الصيني ووقعت معه أكثر من 34 اتفاقية اقتصادية
للتبادل والاستثمار.
لفهم التحولات البطيئة التي دفعت إلى إعلان المصالحة
علينا أن ننظر التحولات التي طرأت على الاستراتيجية الأمريكية والصينية بالنسبة
للشرق الأوسط. بدأ الرئيس باراك أوباما استراتيجية الانسحاب من الشرق الأوسط وتابع
هذه الاستراتيجية كل من الرئيسين ترامب وبايدن. من جهة أخرى تمحورت سياسة بايدن
الخارجية حول الاستعانة بمصادر خارجية لاحتواء مصادر التهديد، أي أوكرانيا والناتو
لمواجهة روسيا، إسرائيل والسعودية لمواجهة إيران، وبالتالي تتفرغ الولايات المتحدة
لترميم العجز الاقتصادي الناجم عن جائحة كورونا وخفض معدلات التضخم وخفض نسب
البطالة. هذه السياسة دفعت أطراف دولية إلى الدخول إلى خط الشرق الأوسط، حيث تتركز
اهتمامات الصين نحو خلق بيئة هادئة للدفع بمبادرة الطريق والحزام إلى الأمام.
فهمت الصين بأن العامل الأمني وزيادة التوتر بين الدول
الإقليمية النافذة سيحول دون تحقيق هذه المبادرة، وبالطبع فإن احتمالية نشوب نزاع
إقليمي سوف ينسف هذه المبادرة بشكل كامل، ولذلك كان لا بد من تلطيف الأجواء بين
إيران بموقعها الجيوسياسي المهم الواصل بين آسيا الوسطى والشرق الأوسط، وإشرافها
على معابر مائية هامة والسعودية بوصفها القوة الإقليمية المتنفذة والمسيطرة على
مصادر الطاقة.
بالمفهوم العام، تحليل السياسات الخارجية لكل من الإمارات
والسعودية وإيران والصين، يُظهر بأن هناك قناعة جماعية بتفوق التنمية الاقتصادية
وأرجحيتها على سباق التسلح والانخراط في تحالفات أمنية وعسكرية، وعليه فإن
السعودية قامت بدراسة جدوى التطبيع مع إسرائيل لتشكيل تحالف ضد إيران وتوصلت إلى
نتيجة مفادها أن التطبيع مع إسرائيل يعني:
1- سباق تسلح وموازنة عسكرية بمليات الدولارات.
2- الدخول في نزاع لا ناقة للسعودية فيه ولا جمل.
3- التخلي عن رؤية الأمير محمد بن سلمان.
4- لا مظلة حماية أمريكية سواء ديمقراطية أو جمهورية،
وذلك استناداً إلى تجربة 2019 عندما رفضت إدارة ترامب الرد على ضرب منشآت أرامكو.
على الطرف المقابل، التطبيع مع إيران يعني:
1- نقل مساحة
الصراع والتنافس من البعد العسكري إلى
البعد الاقتصادي.
2- المضي قدما في مشروع التنمية الاقتصادية والبشرية.
3- التحول إلى مكان آمن للاستثمار الخارجي.
4- مقدمة لحل الملفات الخلافية في لبنان وسوريا والعراق
واليمن.
5- تحول السعودية إلى مركز لتبادل الطاقة.
ما تم الإعلان عنه هو خطوة في المسار الصحيح، ولكن تسريب بنود الاتفاق يشير إلى عمومية هذه البنود دون الدخول في التفاصيل، ولذلك نعتقد بأنً المسار طويل وشاق للوصول إلى تطبيع كامل للعلاقات على الرغم من تصريح الطرفين بتبادل السفراء خلال شهرين. يجب على الطرفين كذلك مناقشة الخلافات بشكل مستمر للوصول إلى حلول وسط ترضي جميع الأطراف
بالمقابل فإن دوافع إيران تتلخص بأنّ حكومة رئيسي جاءت
بشعار أولوية علاقات الجوار، وهي خلال العامين الماضيين لم تحقق تقدماً في هذا
المجال ولذلك فإن المصالحة مع السعودية يعني نجاح هذه الاستراتيجية. والجدير
بالذكر أنه أثناء تحليل سياسات إيران الخارجية علينا دوماً أن نضعها في سياق
الاستراتيجية الإيرانية الكبرى القائمة على إخراج القوات الأمريكية من منطقة الشرق
الأوسط، ولذلك فإن توطيد العلاقة مع السعودية يعني خطوة أقرب لتحقيق هذا الهدف.
ولا بد أن نشير كذلك إلى رغبة إيران بإيجاد حلول وسط في الملفات اللبنانية
واليمنية والسورية والعراقية، خصوصا أنها فهمت جيداً أنه لا حلول دون مباركة
سعودية.
ختاماً، ما تم الإعلان عنه هو خطوة في المسار الصحيح،
ولكن تسريب بنود الاتفاق يشير إلى عمومية هذه البنود دون الدخول في التفاصيل،
ولذلك نعتقد بأنً المسار طويل وشاق للوصول إلى تطبيع كامل للعلاقات على الرغم من
تصريح الطرفين بتبادل السفراء خلال شهرين. يجب على الطرفين كذلك مناقشة الخلافات
بشكل مستمر للوصول إلى حلول وسط ترضي جميع الأطراف.
بناء على جميع ما تقدم يمكن القول بأن الهدف الأساس من
هذه العملية هو تحويل الصراع الأمني وسباق التسلح إلى عملية إدارة النزاع،
والتنافس في الملعب الاقتصادي والتنمية المستدامة وإقامة توازن إيجابي في العلاقات
بين المحور الشرقي والغربي.