يجسد سلوك الأنظمة
السلطوية العربية في علاقاتها البينية حالة من العبث واللا معقولية، فهي تشترك في
سمات وصفات من التبعية وضعف الشرعية
والاستبدادية وغياب الديمقراطية وانتهاك الحريات، وهي شديدة العداء والحقد فيما
بينها. وتعبر العلاقة العربية مع نظام
الأسد عن فقدان الأسس المنطقية، فبعد أن
ساهم النظام العربي في تدمير
سوريا يسعى إلى ترميم العلاقة دون أن يقدم أي مسوغات
عقلانية أو براغماتية تحدد ماهية ومرتكزات العداوة والصداقة.
والمؤكد في الأمر هو
موقف الولايات المتحدة الأمريكية التي دفعت الأنظمة العربية إلى شن حرب وكالة في
سوريا وإصرارها على رفض أي مصالحة مع نظام الأسد، لما يوفره ذلك من فائدة حيوية في
صناعة الفوضى والاضطراب في المنطقة، وتقسيمها إلى محاور. لكن ما يجمع النظام
العربي مع نظام الأسد هو السلطوية، وهي كافية للانضمام إلى عضوية نادي الاستبداديين
العرب للحيلولة دون احراز أي تقدم في مجال الديمقراطية أو امتلاك أي مشروع
للاستقلال والنهوض.
موقف الولايات المتحدة الأمريكية التي دفعت الأنظمة العربية إلى شن حرب وكالة في سوريا وإصرارها على رفض أي مصالحة مع نظام الأسد، لما يوفره ذلك من فائدة حيوية في صناعة الفوضى والاضطراب في المنطقة، وتقسيمها إلى محاور. لكن ما يجمع النظام العربي مع نظام الأسد هو السلطوية، وهي كافية للانضمام إلى عضوية نادي الاستبداديين العرب للحيلولة دون احراز أي تقدم في مجال الديمقراطية
يبدو أن الجهود التي
تقودها
السعودية لإعادة النظام السوري
إلى الجامعة العربية تلقى مقاومة من بعض
حلفائها، إذ تسعى السعودية لإعادة ترتيب الأوضاع الجيوسياسية في المنطقة من خلال
التهدئة مع إيران، وتشكل سوريا إحدى قطع رقعة الشطرنج الضرورية للمشروع السعودي،
فالولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي وبعض الدول العربية من بينها المغرب والكويت وقطر واليمن؛ تعارض
الجهود السعودية برفع العقوبات الأمريكية والأوروبية والعربية على سوريا، وتحول
دون إعادة سوريا إلى جامعة الدول العربية، بعد تعليق عضويتها في عام 2011، إذ تصر
أمريكا وأوروبا على بقاء العقوبات الأمريكية والأوروبية إذا لم يلتزم نظام الأسد بإحداث
تغيرات جوهرية.
شكلت مأساة الزلزال
المدمر، الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا في 6 شباط/ فبراير، فرصة لإعادة نظام
الأسد إلى النظام العربي من مداخل إنسانية، فبعد مضي نحو شهرين من الزلزال استعاد
النظام السوري عضويته في نادي المستبدين العرب، حيث زار بشار الأسد سلطنة عُمان،
والإمارات، كما زار وزير الخارجية السوري
فيصل المقداد جدة والقاهرة، واستضافت
دمشق تسعة وفود مختلفة من المسؤولين العرب، من بينهم وزراء خارجية مصر والأردن
والإمارات.
وتعمل السعودية على توجيه
دعوة للأسد لحضور القمة العربية في الرياض في أيار/ مايو، وفي إشارة إلى بؤس
محاولة إبعاد سوريا عن حلفائها التقليديين، زار الأسد في نفس الوقت حلفاءه في
موسكو، ورحب بوزير الخارجية الإيراني أمير عبد اللهيان، وقائد "فيلق
القدس" التابع لـ"الحرس الثوري الإسلامي" الإيراني إسماعيل قاآني.
سبقت الجهود السعودية
لإعادة إدماج نظام الأسد محاولات عربية عدة، وكانت دولة الإمارات من بين أكثر
المدافعين إصراراً على إعادة تأهيل نظام الأسد، فعلى الرغم من دعمها للثورة
الشعبية في بادئ الأمر، أعادت أبو ظبي فتح سفارتها في دمشق في كانون الأول/ ديسمبر
2018، ودعت منذ ذلك الحين إلى إعادة عضوية سوريا في "
الجامعة العربية"، واكتسبت
الفكرة مزيداً من الزخم في آذار/ مارس بعد أن قام وزير الخارجية الروسي سيرجي
لافروف بجولة في دولة الإمارات ودول الخليج الأخرى. وفي مؤتمر صحفي مشترك خلال
زيارة لافروف، استخف وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد بمقاربة واشنطن في
الأمر، وأعرب عن أسفه لأن القيود الاقتصادية الأمريكية مثل (قانون قيصر لحماية
المدنيين في سوريا) "تجعل الأمر صعباً"، ثم دعا إلى إعادة إعمار سوريا
ما بعد الحرب.
بعد جهود الإمارات التي
قادة قاطرة الثورات المضادة لإعادة تأهيل نظام الأسد، أعادت عُمان سفيرها إلى
سوريا في تشرين الأول/ أكتوبر 2020، ثم أرسل الأردن قائماً بالأعمال إلى دمشق في
عام 2019. وأعلن وزير الخارجية المصري سامح شكري أن القاهرة تدعم التطبيع العربي
مع سوريا، وكانت السعودية قد أوفدت رئيس استخباراتها إلى دمشق لإجراء محادثات مع
نظيره السوري في 3 أيار/ مايو الماضي، كل ذلك جرى رغم تعارضه مع "قرار مجلس
الأمن رقم 2254"، الذي ينص على ضرورة إجراء انتخابات حرة ونزيهة بمشاركة
المغتربين، وكتابة دستور جديد، وينص القرار بوضوح على التنفيذ الكامل لـ"بيان
جنيف" الصادر في حزيران/ يونيو 2012، والذي دعا إلى انتقال سياسي كامل إلى
دولة سورية ديمقراطية غير طائفية تحترم حقوق الإنسان.
لم تكن التجربة الأردنية والإماراتية مشجعة في التعامل مع نظام الأسد، فعندما أعاد الأردن فتح معبر جابر -الذي هو معبره الحدودي الرئيسي على حدوده الشمالية مع سوريا- وعندما قدّمت عمّان مشروعاً، مع مصر، لنقل الغاز الطبيعي المصري والإسرائيلي، والكهرباء المولدة في الأردن عبر سوريا إلى لبنان، لم تسفر تلك المحاولات عن شيء. فسرعان ما أصبحت الحدود الشمالية للأردن ساحة لتهريب الكبتاغون، وتم تعليق مشروع الغاز والكهرباء
لم تكن التجربة
الأردنية والإماراتية مشجعة في التعامل مع نظام الأسد، فعندما أعاد الأردن فتح
معبر جابر -الذي هو معبره الحدودي الرئيسي على حدوده الشمالية مع سوريا- وعندما قدّمت
عمّان مشروعاً، مع مصر، لنقل الغاز الطبيعي المصري والإسرائيلي، والكهرباء المولدة
في الأردن عبر سوريا إلى لبنان، لم تسفر تلك المحاولات عن شيء. فسرعان ما أصبحت
الحدود الشمالية للأردن ساحة
لتهريب الكبتاغون، وتم تعليق مشروع الغاز والكهرباء
بسبب الخلافات بين السياسيين اللبنانيين.
لا جدال أن الأنظمة
السلطوية العربية لا تكترث بشعوبها، وفي سبيل الحفاظ على سلطتها تسعى إلى إعادة
بناء التظام السلطوي العربي، فبعد أن اطمأنت السلطوية العربية على مستقبلها في
الحكم عقب عرقلة ثورات الربيع العربي وتخريب مسارات التحول الديمقراطي من خلال
البوابة السورية، التي شكلت محطة رئيسية في حروب العبرة لشعوب المنطقة، باشرت
سلطويات الثورة العربية المضادة عملية إعادة تأهيل الأسد واستعادة عضويته الطبيعية
في نادي السلطويين العرب ومقره "الجامعة العربية". فبطرائق عديدة كانت
السلطوية العربية المتوحشة شريكة لنظام الأسد الوحشي الذي قتل نحو نصف مليون سوري،
وتساهم مساعي السلطوية العربية بتطبيع العلاقة مع دمشق في تعزيز سيطرة الأسد
وإعادة تأهيله وإدماجه، ومساعدته على التهرب من المساءلة عن جرائم الحرب.
يشير مسار محاولات
السلطوية العربية إعادة تأهيل الأسد إلى اللحظة التي أنجزت فيها الثورة المضادة
انقضاضها على ثورات الربيع العربي، وقد شكلت سنة 2017 لحظة فاصلة، حيث انتهت قصة
"أصدقاء سوريا"، وتبدلت الأولويات الدولية والعربية، وجاء التطور الأخير
في سلسلة إعادة تأهيل الأسد بعد التحولات الجيوسياسية الدولية، والحرص على بقاء
الشرق الأوسط في حالة من الاستقرار. إذ لا تعدو عودة العلاقات بين السعودية وإبران
عن لعبة تكتيكية مؤقتة، فمحاولات السلطوية العربية إعادة تأهيل نظام الأسد تواجه
معضلة أساسية تتعلق بطبيعة نظام الأسد نفسه، وعلى مدى عقود بنى النظام السوري
سردية تقوم على ثيمة "المقاومة والممانعة" للولايات المتحدة وإسرائيل،
ورغم جاذبية الشعار فقد حوّله نظام الأسد إلى مقولة هزلية من خلال سياساته المحلية
والإقليمية البربرية والطائفية،
وتحالفاته مع إيران وروسيا.
معضلة إدماج نظام الأسد لا تكمن في سلطويته وتوحشه، فتلك سمات مشتركة بين أعضاء نادي السلطويين العرب. فالمشكلة الرئيسية التي نواجه السلطويات العربية أن الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية لا ترغب بعودة نظام الأسد إلى النظام السلطوي العربي، ليس بسبب ملفات الديمقراطية وحقوق الإنسان، ولكن لأسباب جيوسياسية ومصالح استراتيجية
ولذلك أصبح نظام الأسد
أسيراً لمقولاته البلاغية التي تحول دون إعادة تأهيله، فالاستدارة نحو إسرائيل
لكسب ود الولايات المتحدة والمجتمع الدولي غير ممكنة، فقد قيّد الأسد نفسه
بأطروحاته الأيديولوجية وتحالفاته السياسية، التي تقع في صلب المصالح
الجيوستراتيجية وفي آليات أوسع من التحالفات والمنافسات الجيوسياسية التقليدية في
المنطقة.
خلاصة القول أن عملية
إعادة تأهيل نظام الأسد من لدن نادي السلطويين العرب، هي عملية طبيعية تقع في إطار
استكمال حلقات الثورة المضادة على ثورات الربيع العربي، لكن معضلة إدماج نظام
الأسد لا تكمن في سلطويته وتوحشه، فتلك سمات مشتركة بين أعضاء نادي السلطويين
العرب. فالمشكلة الرئيسية التي تواجه السلطويات العربية أن الولايات المتحدة
الأمريكية والدول الأوروبية لا ترغب بعودة نظام الأسد إلى النظام السلطوي العربي،
ليس بسبب ملفات الديمقراطية وحقوق الإنسان، ولكن لأسباب جيوسياسية ومصالح
استراتيجية، فوجود خلافات أيديولوجية وسياسية بين المستبدين العرب يساهم في تمزيق
المنطقة ويوفر درجة من الفوضى تسهل عمليات الهيمنة والسيطرة.
وتشكل تلك المقاربة
ضمانة لتفوق المستعمرة اليهودية وذريعة للتدخلات الإمبريالية، ويدرك نظام الأسد أن
رضا واشنطن برتبط برضا تل أبيب، وهو ثمن لا يستطيع نظام الأسد بتركيبته الوفاء به،
ولذلك فعودة نظام الأسد إلى الجامعة العربية لا يشكل سوى عملية تهدئة مؤقتة لشرق
أوسط أبعد من أي وقت مضى عن الاستقرار.
twitter.com/hasanabuhanya