يعيش
السودان منذ أيام على وقع الاقتتال العسكري بين قوتين عسكريتين تتصارعان
من أجل الاستيلاء الكامل على السلطة، بعدما بات واضحا انكماش حظوظ نجاح الانتقال إلى
بناء دولة مدنية، تؤول السلطة فيها إلى الشعب ليختار بإرادته عبر آلية الانتخاب من يتولى
ممارسة السيادة باسمه، وهو أفق ومبتغى طال أمدهما، بعد ما يفوق من ستة عقود على حكم
العسكر.
يتصارع اليوم في السودان رأسان من جسم المؤسسة العسكرية: الجيش النظامي
السوداني ويقوده الفريق "عبد الفتاح
البرهان"، الرئيس الفعلي لدولة السودان، ورئيس أركان جيشها الوطني، ويقود الرأس الثاني "محمد حمدان دقلو"، الملقب
بـ"
حميدتي"، رئيس "قوات الدعم السريع"، وهي عبارة عن مليشيات عسكرية،
غير مدمجة في بنية الجيش النظامي، وقد قُدّر عددها بما يقارب المائة ألف شخص.
فالقوتان تتصارعان من أجل السلطة السياسية، والاستحواذ على مقاليد الحكم في
البلاد. أما الخسائر الناجمة عن العنف والعنف المتبادل فتجاوزت 500 قتيل، وآلاف
الجرحى والنازحين والمهجرين من ديارهم، ولا يُعرف على وجه اليقين ماذا ينتظر
السودانيين في القادم من الأيام والشهور.
ليس في واقع السودان ما يجعل مصادر الأزمة الحالية غير واضحة أو غير مفهومة، فما يحصل على الأرض يُعبر عن تصادم إرادات متصارعة على السلطة في بعدها السياسي، ومن خلالها التطلع إلى الإمساك بثروات البلاد، وهي مهمة وكثيرة. أما "حماية ثورة الشباب، وتأمين سُبل الانتقال الديمقراطي، والإعداد التدريجي لبناء دولة مدنية بسلطة ذات شرعية ديمقراطية"، فكلها مما يدخل في الدعاية المضلّلة.
ظل قدر السودانيين، وهم من أطيب الشعوب العربية، أن يكابدوا حكم العسكر، ويؤدوا
فاتورة خسائره في السياسة والاجتماع المدني، وقد راهنوا على فوران حراكهم المدني منذ
العام 2018 وسقوط حكم البشير سنة 2019، من أجل إعادة بناء دولتهم المدنية وتأسيس
سلطتهم السياسية على تعاقد اجتماعي جديد، تكون الأولوية فيه لحكم القانون وسلطان المؤسسات
المنبثقة من إرادتهم الجماعية الحرة والمستقلة، وقد أبلوا البلاء الحسن في صياغة
أولويات وشعارات المرحلة الانتقالية، التي لم تُدرك أهدافها، بل سرعان ما طالها
التراجع والنكوص، ومرة أخرى نعاها الجيش، بإعلان الفريق "عبد الفتاح
البرهان" عن الخروج من عباءة
الحوار الوطني، والتحكم من جديد في مقاليد الحكم
ومصادر السلطة باسم الجيش. حصل ذلك في خطابه الشهير شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2021،
حين أعلن حالة الطوارئ، وقام بحل مجلس الوزراء، ومجلس السيادة.
فعلى الرغم من المسوغات التي بنيت عليها هذه الإجراءات من قبل القائد الأعلى
في البلاد، ومنها أساسا حماية ثورة الشباب، وإعداد البلاد للانتقال إلى المؤسسات
الديمقراطية وحكم القانون، ومحاربة بقايا النظام وفلوله، فإن جوهر ما جرى كان يروم
التمكّن من السلطة، والتحكم في مفاصلها العسكرية والمدنية، وإبعاد كل القوى التي
من الممكن أن تؤدي دور مراكز القوة المضادة، أو بناء دولة مدنية لا دور للعسكر فيها،
فهذا مما ظل مستبعدا، وغير جائز الأخذ به إطلاقا.
وحيث إن إرادة قادة الجيش الوطني كانت قوية، وإصرار زعيمها "عبد
الفتاح البرهان" لا رجعة فيه، فقد توجهت النية إلى إدماج "قوات الدعم
السريع" في مؤسسة الجيش، ليتم تذويبها، ونزع السلطة من زعيمها الفريق "حميدتي"،
كي يُفتح المجال لرأس وحيد في السلطة العسكرية، وتُغلق صفحة الحديث والنضال من أجل
الانتقال إلى دولة مدنية، ولعل هذا ما يفسر فشل كل المشاريع الهادفة إلى إيجاد
مخرج متوازن للأزمة السودانية منذ العام 2019، وتحديدا منذ سنة 2021.
ليس في واقع السودان ما يجعل مصادر الأزمة الحالية غير واضحة أو غير
مفهومة، فما يحصل على الأرض يُعبر عن تصادم إرادات متصارعة على السلطة في بعدها
السياسي، ومن خلالها التطلع إلى الإمساك بثروات البلاد، وهي مهمة وكثيرة. أما "حماية
ثورة الشباب، وتأمين سُبل الانتقال الديمقراطي، والإعداد التدريجي لبناء دولة مدنية
بسلطة ذات شرعية ديمقراطية"، فكلها مما يدخل في الدعاية المضلّلة ليس
إلا.
لكن، بالمقابل، سيؤدي السودانيون، مرة أخرى، فاتورة أخطاء العسكر وعدم
عقلانيتهم في تدبير مصير البلاد، والأخطر من كل ما يجري في السودان، هو إلى أين
تتجه الأحداث والاقتتال الدامي في مدن وحواضر بلاد السودان؟
الخوف وارد أن يسير السودان على خطى العراق وسوريا، وإلى حد ما ليبيا واليمن، وإن كانت هناك عناصر اختلاف بين هذه النماذج وما يجري في السودان. فمنذ مدة كثُر الحديث عن قائمة الدول العربية التي ستعرف مسارات متشابهة، ومآلات غير مختلفة جوهريا، وعلى رأس هذه المسارات تعمق الانقسام الداخلي
يبدو حتى الآن أن الأزمة الحاصلة في السودان بين السودانيين فقط، وأن احتمال
وجود خيوط خارجية غير واضح بالقدر الكافي، وحتى إن وجدت، فإنها تبدو مستترة وغير لافتة
للانتباه. لكن من يدري كيف ستتطور الأحداث؟ وهل في مقدرة السودانيين التحكم في
مجريات بلدهم بالاعتماد على أنفسهم فقط؟ ألا يمكن في مستوى معين من التطور أن
تنفلت الأمور من بين أيديهم، كما حدث في الكثير من الأقطار، التي تعيش أوضاعا
شبيهة أو أقل من السودان؟
إن الخوف وارد أن يسير السودان على خطى العراق وسوريا، وإلى حد ما ليبيا
واليمن، وإن كانت هناك عناصر اختلاف بين هذه النماذج وما يجري في السودان. فمنذ
مدة كثُر الحديث عن قائمة الدول العربية التي ستعرف مسارات متشابهة، ومآلات غير
مختلفة جوهريا، وعلى رأس هذه المسارات تعمق الانقسام الداخلي، وتشتت الأوطان، وتوزع
الولاءات على أكثر من جهة، واستعصاء إصلاح ما يمكن إصلاحه، أو العودة إلى سابق
الأوضاع على علتها وسوء أحوالها.
ألم يدخل الأمريكيون العراق، وأسقطوا بغداد في مستهل ربيع 2003، وبشّروا العراقيين
بنشر الديمقراطية في ربوع بلادهم؟ ومر عقدان من الزمن والعراقيون على حالهم، بل ساءت
أحوالهم أكثر، والأمر نفسه في سوريا، وبعدها ليبيا، واليمن على فرادة حالته يئن
تحت نفس المواجع أو أكثر.
إن غياب الحوار والبحث عن المشترك، وسيادة أزيز البنادق والاقتتال الدموي؛ من
المؤشرات القوية على غياب الحكمة وفقدان التبصر، وهي في كل الأحوال من علامات
السير على طريق مأساة العراق وسوريا وغيرهما من البلدان العربية.