أقنع
جمال عبد الناصر وصلاح شادي (ضابط الشرطة، ممثل
الإخوان في التفاهمات الثنائية مع
عبد الناصر) نفسيهما بأن المرشد العام للإخوان المسلمين المستشار حسن الهضيبي "وافق"
على "الانقلاب"! على الرغم من أن الرجل لم يوافق، وإنما قال في وضوح
لوفد الإخوان الذي التقاه في الإسكندرية:
"إذا
كان الأمر قد أُبرم، فإننا لن نخونهم، وسنؤيدهم، وندعو لهم بالتوفيق، ثم بالهداية
بعد ذلك.. أما إذا كان الأمر لم يُبرم بعد، ولا يزال تحضيرا لحركة يقوم بها هؤلاء
أو غيرهم لحسابهم أو لحساب الحركة الكبرى، فهو ليس مع هذا الرأي؛ لأنه لا يثق في
الانقلابات العسكرية، حتى لو كان الضابط الذي سيقود الانقلاب من الإخوان
المسلمين"!
لم
يشأ الإخوان إغضاب أخيهم صلاح شادي الذي كان قد قطع شوطا بعيدا في تفاهماته مع عبد
الناصر.. ذلك لأنهم كان يرون أن الانقلاب سيتم، سواء وافق الإخوان المسلمون عليه
أم لم يوافقوا، فآثروا المُضي في تنفيذ ما اتفق عليه ممثلهم شادي مع عبد الناصر؛
إيمانا منهم بأن مشاركتهم ستحسم الانقلاب لصالح الضباط الأحرار، ومن ثم تبدأ
مصر
عصرا جديدا، كان المجتمعون قد تداولوا في ملامحه طويلا..
بلغت "الوقاحة" بجمال عبد الناصر أن يحاول إقناع حسن العشماوي (كاتب المحاضر)، خلال حديث ثنائي (التفاصيل في هذا المقال) بأنه الممثل "الحقيقي" لفكرة الإخوان المسلمين! ومن ثم يجب استبعاد كل الضباط المنتمين للإخوان المسلمين من عضوية "مجلس قيادة الثورة" بعد الإطاحة بالملك فاروق!
مما
لفت نظري في هذا الجزء من محاضر اجتماعات "الإخوان والضباط" التي دوّنها
المستشار حسن العشماوي في كتابه "الأيام الحاسمة وما بعدها"، تلك
الانتهازية المتطرفة، أو "الميكيافيللية" في أحط صورها التي كانت تحرك جمال
عبد الناصر.. فقد كان لديه القدرة على النظر في عين محاوره، وحمله على الاقتناع،
والتسليم بما قرره سلفا، مهما كان فجّا، أو وقحا، أو مستحيلا!
لقد
بلغت "الوقاحة" بجمال عبد الناصر أن يحاول إقناع حسن العشماوي (كاتب
المحاضر)، خلال حديث ثنائي (التفاصيل في هذا المقال) بأنه الممثل "الحقيقي"
لفكرة الإخوان المسلمين! ومن ثم يجب استبعاد كل الضباط المنتمين للإخوان المسلمين
من عضوية "مجلس قيادة الثورة" بعد الإطاحة بالملك فاروق! أما السبب
الحقيقي لطرح استبعاد الضباط الإخوان، فكان غير ذلك بطبيعة الحال.. فقد أفصح عبد
الناصر للعشماوي في هذه الجلسة عن السبب، في لحظة "طمأنينة واسترخاء"
فيما أظن.. وكان السبب كما ورد على لسان عبد الناصر:
"غريب
شأن معروف [الحضري – ضابط من الإخوان] هذا.. أتعلم أن الضباط رفضوا التحرك بالأمس
ما لم يكن معروف حاضرا معهم؟ ومعروف كان مريضا كما تعلم، فاضطررنا إلى نقله بملابس
نومه إلى الثكنة.. ولولا ذلك ما تحرك أغلب الضباط!
لقد فكر
عبد الناصر وفعل كل شيء بانتهازية منقطعة النظير؛ كي لا ينازعه أحد في القيادة،
حتى لو كان أكفأ منه، أو أصلح منه، وكانت مصلحة البلاد تقتضي أن يتأخر هو ويتقدم
آخرون! لقد استحالت أفكار "ميكيافيللي" التي سجلها في كتابه
"الأمير" إلى دم يسري في عروق عبد الناصر! فأضحى "ميكيافيللي"
بمثابة "المرشد" الذي أسلم عبد الناصر له عقله، وانقاد له، وأمسى كتاب
"الأمير" الدستور أو "القرآن" الذي آمن به حتى مات!
إنه
شبق السلطة، وبريقها الذي يخطف أبصار هذا النوع من البشر، ولا يهم بعد ذلك أن تتجه
أوطانهم إلى الهاوية، وهو ما كان من أمر مصر..
مما
لفت نظري أيضا، أن الذين كانوا يحمون منزل جمال عبد الناصر ليلة الانقلاب وما
بعدها هم عناصر مدرَّبة من الإخوان المسلمين! لكن عبد الناصر "نسي" ذلك
لاحقا، كما نسي مقولة العشماوي له: إياك أن تبدأ حركتك بدم.. فالدم لا يُنسى في
بلادنا"! ولم يتردد في اتهام الإخوان بمحاولة اغتياله، في ميدان المنشية بالإسكندرية!
فيما
هو آت، نتابع معا (عزيزي القارئ) أحداث الانقلاب، من جانب الإخوان المسلمين..
مما لفت نظري أيضا، أن الذين كانوا يحمون منزل جمال عبد الناصر ليلة الانقلاب وما بعدها هم عناصر مدرَّبة من الإخوان المسلمين! لكن عبد الناصر "نسي" ذلك لاحقا، كما نسي مقولة العشماوي له: إياك أن تبدأ حركتك بدم.. فالدم لا يُنسى في بلادنا! ولم يتردد في اتهام الإخوان بمحاولة اغتياله،
23
يوليو 1952
(قبل
الغروب، غرفة استقبال ذات أثاث مُذَهَّب، مما جرت عادة متوسطي الناس في مصر أن
يكون ضمن جهاز زواجهم. منضدة مستطيلة أمام أريكة طويلة، يجلس عليها جمال وحسن، كلاهما
بالبنطلون والقميص.. ويجلس عبد القادر على كرسي مجاور لهما.. يستمر الجالسون في
حديثهم).
- جمال:
لقد ارتاح أهلي لهذه الطمأنينة التي وصلتهم مبكرا.. وإن كان أزعجهم الطرق على
الباب في مثل ذلك الوقت.. حتى قبل إعلان نبأ الحركة في الراديو.. اشكر لي ذلك
الشاب.. وأرجو أن يكون أحد من سيتولون حراسة بيتي هذه الأيام، فأنا متفق مع صلاح
[شادي– إخوان] على وجوب الاحتياط إلى أن أنتقل إلى منزل آخر.. ولا بد من الاطمئنان
إلى من نختارهم لذلك.
- عبد
القادر: سيكون إبراهيم أحدهم كما طلبت [يقصد الشاب الإخواني الذي ذهب إلى زوجة عبد
الناصر؛ ليطمئنها عليه].. وسيكونون ثمانية يتناوبون؛ اثنان كل ست ساعات.. وهم
مسلحون طبعا، فلا تسمح لأحد الجنود أن يتعرض لهم.
- جمال:
لا.. اطمئن من هذه الناحية.. ولكن ما لهذا الموضوع أردت لقاءكم.. وبالمناسبة، لِمَ
لم تحضرا إلى إدارة الجيش كما طلبت منكما أول الأمر؟
- حسن:
إجراءات الدخول.. لا نريد أن نتعرض لها.. ويحسن أن يكون معنا تصريح بالدخول إن شئت
أن نلقاك هناك.
- جمال:
سأرسل لك الليلة التصريحين إلى مكتبك.
- عبد
القادر (مقاطعا): أرسِل تصريحا واحدا لحسن.. أما أنا فلن ألقاك إلا في منزلك أو في
أحد منازلنا.
- جمال:
لماذا؟
- عبد
القادر: أنت هناك مشغول.. وشبه حاكم.. وأنا لا أحب أن أزيد مشاغلك، ولا أميل إلى
مقابلة الحكام.
- جمال:
يا لك من شخص غريب الأطوار.
- حسن:
هو هكذا.. لا تتعب نفسك معه.. المهم الآن، فيمَ أردت لقاءنا؟
- جمال:
آه.. أردت أن أطمئن إلى ألا يغادر المستشار [الهضيبي] الإسكندرية هذه الأيام..
وألا يصدر أي بيان تأييد للحركة.. فأنتم تعلمون أن هذا يضر بنا.. وليكن الأمر كما
اتفقنا عليه.
- عبد
القادر: المستشار (كما اتفقنا) لن يغادر الإسكندرية إلا بعد أن نخطره، ويمكنك أن
تلقاه بعد حضوره.
- جمال:
طبعا يهمني جدا أن ألقاه.. لقد كنت أخشى فقط أن يستقل برأيه فيحضر، أو يعلن تأييد
الحركة، أو يطالب بعزل الملك؛ فيكشف بذلك حقيقة حركتنا.
- عبد
القادر: المستشار أعقل من ذلك.. وعلى كلٍّ.. فثق أنه لن يصدر بيان تأييد أبدا.
- جمال
(في تعجب): أبدا؟! ما تعني؟ حتى بعد أن تستقر الأوضاع؟!
- عبد
القادر: حتى بعد أن تستقر الأوضاع.. قد يصدر بيان نصيحة أو توجيه لكم.. لا أكثر من
ذلك.
- جمال:
آه.. فهمت.. أهلا بتوجيهه ونصحه.. إنه أخونا الأكبر.
- عبد
القادر: أستأذن في الانصراف الآن، فأنا على موعد لا أريد أن أتأخر عنه.. وصلاح
[شادي] لن يحضر إليكم اليوم.. فهو مشغول جدا.
- جمال
(ينظر في ساعته): وأنا مضطر أن أعود إلى إدارة الجيش، بعد نصف ساعة على الأكثر..
ألا يبقى معي حسن قليلا؟
- عبد
القادر: هنيئا لك به.
(يتجه
عبد القادر إلى الباب، ويذهب معه جمال ليودعه.. ويعود فيجلس مكانه).
- جمال:
هناك أمر أريد أن أقصه عليك.. لقد حضر إليَّ صباح اليوم معروف [الحضري] وعبد
المنعم [عبد الرؤوف] وعبد الحي [أبو المكارم].. [ثلاثتهم من الإخوان المسلمين،
وأعضاء في تنظيم الضباط الأحرار].. (يصمت عبد الناصر)..
- حسن:
وبعد؟
- جمال:
غريب شأن معروف هذا.. أتعلم أن الضباط رفضوا التحرك بالأمس ما لم يكن معروف حاضرا
معهم؟ ومعروف كان مريضا كما تعلم، فاضطررنا إلى نقله بملابس نومه إلى الثكنة..
ولولا ذلك ما تحرك أغلب الضباط!
- حسن
(ساخرا): أنقلتَه أنت إلى الثكنة؟
جمال
(ضاحكا): لا.. لا.. أنا وعبد الحكيم كنا في الكلية حين عثر علينا يوسف [صدِّيق- يساري-
عضو تنظيم الضباط الأحرار].. أخذَنا إلى إدارة الجيش.
- حسن
(يضحك هو الآخر): وهكذا صرتما بطلين بالنقل!
- جمال:
التدبير أهم من التنفيذ.. أليس كذلك؟
- حسن:
ما علينا.. المهم فيمَ جاءك الصحاب؟
- جمال:
آه.. نعم.. جاءني معروف [الحضري] بطريقته المعهودة.. هادئا صريحا دمثا.. قال لي:
إنه لا بد من وجود واحد على الأقل من الهيئة [الإخوان] في لجنة الضباط التي ستسمى (فيما
بعد) مجلس قيادة الثورة.. وقال في صراحة: إنه لا يعتقد أني أرغب في مشاركته هذه
المسؤولية؛ لأننا رغم صداقتنا لا أحب العمل معه، وهو (على أية حال) لا يريد أن
يترك عمله العسكري في الجيش.. ولذلك، فهو يرشح عبد المنعم [عبد الرؤوف] فهو أيسر
تفاهما معي من ناحية، وأكثر تمثيلا للهيئة [الإخوان] من ناحية أخرى.. وإلا فهناك عبد
الحي [أبو المكارم] وإن كان عبد المنعم أولى، فهو من أوائل المؤسسين للضباط
الأحرار.
- حسن:
كلام معقول.. وإني أفضل عبد المنعم أيضا، إن اقتصر الاختيار على واحد.
- جمال:
لقد قلت له إني لا أملك الفصل في هذا الأمر؛ لأن الرأي فيه للجنة الضباط الأحرار
القائمة عند قيام الثورة.. وبهذا تخلصت من إحراجه!
- حسن:
مخطئ أن تقول ذلك، بعد أن وعدت صلاح [شادي- ضابط شرطة- ممثل الإخوان في التفاهمات
الثنائية مع عبد الناصر] بغيره.
- جمال:
مخطئ أم مصيب.. المهم أني تخلصت من الإحراج.
- حسن:
فيمَ أحرجك معروف؟ إنه عرض كريم من رجل كريم، تعرف قدره، ولا تنكر فضله عليك في
عراق منشية [أثناء حرب فلسطين].
- جمال:
أنا لا أنكر ما قام به، ولكنه كان يريد بعمله وجه ربه.. وكفاه هذا.
- حسن:
لست أفهم.
- جمال:
اسمع يا حسن.. لا يجوز أن يضم هذا المجلس منتميا، أو ذا شعبية في الجيش.
- حسن:
لماذا؟
- جمال:
المنتمي سيستند إلى الهيئة المنتمي إليها.. وذو الشعبية في الجيش سيلزِمنا بما لا
نرضى استنادا إلى شعبيته.
حسن:
آه، فهمت.. ولذلك يخرج ثروت [عكاشة] وعبد المنعم [عبد الرؤوف] وعبد الحي [أبو
المكارم] لانتمائهم.. ويخرج رشاد [مهنا] ومعروف [الحضري] لشعبيتهما في الجيش.. وأي
شعبية أكبر من ألا تخرج الثكنة إلا ومعروف يرقد فيها؟ ولكن قل لي.. كيف قبلت دخول
خالد [محيي الدين – يساري] رغم انتمائه، وعبد الحكيم [عامر] رغم شعبيته في الجيش؟
- جمال:
خالد غير منتمٍ.. لقد أخرجته معي.. إنه ذكي.. ذو ثقافة اشتراكية تنفعنا ولا
تضرنا.. لكنه غير منتمٍ كما قلت لك.. أما عبد الحكيم، فشعبيته تنفعنا؛ لأنه لن
يفعل شيئا ضدي.
- حسن:
ألا تخشى أن تصبح لنجيب شعبية؟
- جمال:
نجيب والدٌ لنا كبرت سنه.. إنه رمز لحركتنا في مرحلتها الأولى، ومع ذلك فنحن نحتاط
له دائما.
- حسن:
(ساخرا): ما رأيك في انتمائك أنت؟
- جمال:
أنا وارث الحركة [يقصد الإخوان المسلمين] التي أنتمي إليها، وتنتمي أنت إليها، بعد
تطورها.. أنا شيء آخر..
- حسن:
كأني سمعت كلاما كهذا من قبل.. من عبد الرحمن [السندي- رئيس التنظيم الخاص في
الإخوان المسلمين، وكان عبد الناصر يأتمر بأمره] منذ أقل من عامين.
- جمال:
عبد الرحمن انتهى زمنه.. إنه يعيش في ماضٍ.
- حسن:
وأنت تعيش في الواقع.. قل لي: على أي نحو أنت في هذه الحركة [الإخوان] التي ينتمي
إليها مثلي؟
- جمال:
أنا فهمها الصحيح.. لا يجوز أن تسفر الحركة [الإخوان] بوجه ديني إلا بمقدار ما
يفيدنا ذلك.. أنا الفهم السياسي المناضل الذي يقبله مثلك من العقلاء.. أما
الأغبياء، فلا يجوز أن نقيم لهم وزنا أكثر من الهتاف والتصفيق، والرضى بما نعمل.
- حسن:
وماذا تنوي أن تفعل.. مثلا؟
- جمال:
الملك.. نعم.. ذكرتني إياه.
- حسن:
أكنت قد نسيته؟
- جمال:
لا تحاسبني على عباراتي.. أقصد ذكرتني أن أروي لك ما حدث معه.. لقد خضع لنا.. قبِل
استقالة الهلالي، وعيَّن علي ماهر كما طلبنا.. وسيعين نجيب قائدا عاما للجيش..
ولكن ليس هذا كله هو المهم.. المهم أنه سعى إلى نهايته.. إلى خاتمة ملكه.. لقد كان
في قصر المنتزه عندما علم بالانقلاب، فركب سيارته ومعه زوجته وابنه، واتجه فورا
إلى قصر رأس التين، إلى حيث كان جده إسماعيل حين ترك البلاد متنازلا عن العرش..
لقد كانت معسكرات مصطفى باشا في طريقه.. والإسكندرية ليست معنا كما تعلم.. ولو أنه
دخلها ومعه ذووه وحرسه وابنه لتغير الوضع.. كان قد أثار العواطف من هناك.. وكان
علينا أن نحارب زملاءنا.. إنه أعفانا من ذلك.. والليلة تتحرك قواتنا آمنة إلى
الإسكندرية.. سيكون عبد المنعم [عبد الرؤوف- ضابط إخوان] هو المسؤول عن حصار فاروق
في قصر رأس التين.
- حسن
(كالسَّاهِم): صحيح.. إن الرجل يسعى إلى قدر آمن به.
- جمال:
ماذا تقول؟
- حسن:
أقول إنكم قد نجحتم.
- جمال:
يرى البعض أن نحاكمه.. ويرى المجنون [جمال سالم] أن نقتله.
- حسن:
هذه سخافات دعك منها.. إنه سيتنازل عن العرش.
- جمال:
وأنا أرى رأيك وسأصر عليه.. مستر كافري [جيفرسون- السفير الأمريكي في القاهرة]
يطالب صراحة بضمان حياة الملك وأهله.
- حسن:
بغض النظر عن أنه رأي مستر كافري.. فإياك أن تبدأ حركتك بدم.. فالدم لا يُنسى في
بلادنا.. أتركك الآن، وعد أنت إلى إدارتك.. وألقاك هناك إن لزم الأمر.. تذكَّر
جيدا، إياك وسخافات أصدقائك.
(يتصافحان
ويخرج حسن من الباب)
(يُتبع)..
twitter.com/AAAzizMisr
aaaziz.com