كتاب عربي 21

أسطورة العدو الخارجي

محمد هنيد
الرئيس السوري بشار الأسد يتهم جهات خارجية بالوقوف خلف الثورة التي تستهدف نظامه على مدى 12 سنة (الأناضول)
الرئيس السوري بشار الأسد يتهم جهات خارجية بالوقوف خلف الثورة التي تستهدف نظامه على مدى 12 سنة (الأناضول)
من بين أهم المقولات العاملة في مجال الوعي السياسي العربي سواء في السلطة أو في المجتمع نرصد واحدة من أخطر المقولات الوظيفية ذات القيمة الإجرائية القادرة على تضليل وعي المتلقي. هذه المقولة تتأسس في الأصل على حقيقة مفادها أنّ سبب الهوان والتخلف العربي إنما مصدره الوحيد العدو الخارجي والمؤامرة الخارجية على الشعوب والبلدان العربية.

المقولة ليست خاطئة في أصل نشأتها لأنها تعتمد على معطيين أساسيين: أما الأول فيتمثل في المعطى التاريخي المبني على الماضي الاستعماري للقوى الخارجية خاصة الغربية منها في البلاد العربية وهي التي رسمت حدود سايكس بيكو ومنعت نهضة الأمة وارتكبت أبشع الجرائم فيها. ويتلخص المعطى الثاني في الحضور الطاغي للفاعل الخارجي في مسارات دول المنطقة عبر دعم الدكتاتوريات وهندسة الانقلابات واختراق الاقتصاد وصولا إلى الغزو العسكري مثلما حدث في العراق خلال السنوات الأخيرة.

السؤال هو: كيف استغلت الأنظمة العربية وأذرعها الإعلامية والدعائية هذا المعطى في سبيل ترسيخ وعي معين يغيّب حقيقة الصراع وأدواته؟ هل من سبيل إلى تفكيك الزيف المحيط بهذا المعطى؟ وما هي الخلفيات الحقيقية وراء هذا التوظيف؟

حق أريد به باطل

إن ما يميز صورة العدو الخارجي في الخطاب السياسي الرسمي العربي أنه كيان هلامي لا يملك حدودا معلومة ولا أوصافا واضحة يمكن بها تمييزه عن غيره من الكيانات الحركية. فهو مرة الماسونية ومرة الإمبريالية وتارة حلف النيتو وطورا الصهيونية العالمية إلى غيرها من الأجسام العدوانية التي يصورها هذا الخطاب سببا في تخلف شعوب المنطقة وتأخرها.

صحيح أن هذه المكونات باختلاف أوجهها وخلفياتها كيانات توسعية سياسيا وفكريا وحضاريا وحتى عسكريا فالفكر الصهيوني مثلا يمثل الركيزة التي تأسس عليها كيان الاحتلال في فلسطين بعد أن نجح خلال قرون من العمل السري والعلني في إقناع القوى الاستعمارية الغربية بتأسيس وطن لليهود على أرض فلسطين. صحيح أيضا أنّ حلف شمال الأطلسي الذي يجمع الإمبراطوريات الأوروبية الاستعمارية القديمة إلى جانب الولايات المتحدة حاضر بقوة في المجال العربي ويملك فيها نفوذا قويا وقواعد عسكرية ووكلاء محليين.

إن القوى الأوروبية والكيانات المشار إليها أعلاه هي في الحقيقة فواعل تقوم بوظيفتها التوسعية التي يمليها مبدأ الصراع الذي هو قانون العلاقات بين الدول والشعوب والحضارات منذ فجر التاريخ.
لكن النظر إلى هذه المكونات من زاوية مغايرة يدفع إلى طرح جملة من التساؤلات: فمنذ قرون سحيقة تمتد إلى الحروب الصليبية كانت حالة الصراع والتجاذب بين الشرق والغرب هي القاعدة، وهو الأمر الذي تطور بعد ضعف الخلافة العثمانية حتى تصفية إرثها بعد إسقاط الخلافة إلى خضوع كامل المشرق العربي خاصة إلى نفوذ هذه القوى. إن مبدأ التوسع والبحث عن الأسواق ومصادر الطاقة والمواد الأولية وحتى اليد العاملة الرخيصة (تجارة الرقيق) هو القاعدة وليس الاستثناء في العلاقة بين الشرق والغرب وفي العلاقات الدولية بشكل عام.

بعبارة أخرى فإن القوى الأوروبية والكيانات المشار إليها أعلاه هي في الحقيقة فواعل تقوم بوظيفتها التوسعية التي يمليها مبدأ الصراع الذي هو قانون العلاقات بين الدول والشعوب والحضارات منذ فجر التاريخ. بناء عليه فإن كل الدول بما فيها الدول الكبرى إنما تشكل مطمعا لقوى أخرى تبحث عن إضعافها وتفكيكها والسيطرة عليها وعلى ثرواتها. إن الوعي بهذا القانون هو الذي أجبر الدول على مضاعفة التصنيع العسكري وتطوير منظومات الدفاع والاستخبارات بما فيها السباق المحموم للحصول على أسلحة الردع وعلى رأسها القنابل النووية. لا توجد دولة ولا شعب ولا حضارة على الأرض ليس لها أعداء يتربصون بها ويريدون إسقاطها والسيطرة عليها. إنه البحث الأزلي عن الثروة والسلطة والهيمنة وفرض المنوال الحضاري على الكيانات الضعيفة عملا بمبدأ أن البقاء للأقوى دائما.

العدو الحقيقي في الداخل

 عربيا نجحت السلطة الاستبدادية المحلية في تعليق كل فشلها بما فيه قمعها للحريات والتضييق على الصحافة والرأي المخالف على شماعة المؤامرة الخارجية التي تستهدف الوطن. الوطن في السردية الرسمية العربية هو النظام والنظام هو الزعيم والزعيم هو الحاكم المطلق بأمره لا سلطة تراقبه ولا برلمان يحدد عمله ولا قضاء يحاسبه.

قد نتفهّم سعي الحاكم إلى توظيف نظرية المؤامرة لصالح تثبيت حكمه بالحديث المتكرر عن المتآمرين والخونة والكيانات الموازية ومراكز القوى والمندسين والعملاء وأعوان الخارج. لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحدّ بل قفز إلى مستويات أخطر بعد أن استلمت تيارات فكرية وسياسية هذا القناع من يد السلطة لتزيد من تثبيته بإعادة توظيف مقولة العدو الخارجي.

في الخطاب اليساري مثلا تطغى شيطنة الامبريالية العالمية والنظام العالمي الجديد والرأسمالية المتوحشة القادمة من وراء البحار لابتلاع الأوطان وسحق الطبقة الشغيلة. لكن نفس هذه المدارس اليسارية إنما تأسست على مقولات غربية واستلمت إطار عملها النظري من وراء البحار عبر الأطروحات الشيوعية وفلسفة الصراع الطبقي وغيرها من المقولات المسقطة على المجال العربي إسقاطا.

إن تحميل الخارج كل أسباب التخلف والانهيار الداخلي يعفى الحاكم من مسؤولية المحاسبة ويوجه أنظار الجماهير إلى كيانات أجنبية بدل التركيز على مسؤولية الفواعل الداخلية في تمكين العدو الخارجي من السيطرة على الأوطان ونهب ثرواتها.
على واجهة أخرى أبدعت التيارات القومية والعروبية في مهاجمة الصهيونية العالمية والقوى الامبريالية المتحكمة في مصير التقديمة العربية كما برز ذلك جليا في خطابات الزعيم الخالد عبد الناصر والأخ القائد القذافي والرئيس الضرورة حافظ الأسد والمهيب الركن صدام حسين. لكن هذا التيار العروبي لا يجد حرجا في الاصطفاف إلى جانب المشروع الإيراني مثلا أو المشروع الروسي كما تجلى ذلك بوضوح خلال موجات القمع والتقتيل التي صاحبت ثورات الربيع. بل إن الفكرة القومية نفسها لم تكن في أصل نشأتها فكرة عربية بل كانت مشروعا بريطانيا مثل الجامعة العربية لمحاربة البديل الإسلامي من جهة ولتسهيل القضاء على بقايا الخلافة العثمانية إبان الحرب العالمية الأولى من جهة ثانية.

لم يشذ الإسلاميون بمختلف مدارسهم وتياراتهم عن هذه القاعدة فالغرب الصليبي وبلاد الكفار هي العدو الأساسي للدين الإسلامي والمسلمين وهي مصدر كل الشرور التي أدت بالأمة والجماعة إلى الحال التي هي عليها. لكن القمع الذي تعرضت له الحركات الإسلامية في البلاد العربية خاصة قد دفع بقياداتها إلى اللجوء إلى دول الغرب والاستقرار فيها دون أن يشكل ذلك حرجا في تطبيق المقولات المبدئية للحركات الإسلامية.

إذا كانت السلطة العربية تستفيد من تصدير مشاكلها بوضعها على عاتق الخارج فإن المعارضة ترتكب أبشع الجرائم بإنكارها أن أصل الداء وسبب التخلف إنما يكمن في الداخل. إن تحميل الخارج كل أسباب التخلف والانهيار الداخلي يعفى الحاكم من مسؤولية المحاسبة ويوجه أنظار الجماهير إلى كيانات أجنبية بدل التركيز على مسؤولية الفواعل الداخلية في تمكين العدو الخارجي من السيطرة على الأوطان ونهب ثرواتها.

بناء عليه فان تحويل بوصلة المسؤولية من عدو خارجي مطلق إلى مسؤول داخلي محدد يشكل نقلة نوعية في كشف أساطير الاستبداد وتفكيك شفرتها ومن ثم في إعادة بناء وعي شعبي يقطع مع شعارات التضليل والتزييف ويؤسس لبناء فهم أعمق وأصدق لأسباب التخلف والهوان العربي.
التعليقات (4)
منصور
الأحد، 21-05-2023 08:49 ص
مقالات .. تحليلات ...خطب.. بل رسائل دكتوراه .. هي بالالاف ان لم ابالغ بالملايين و ماذا بعد ..؟ هل بعد هذا المقال تفتحت عيوننا و بدأنما التغيير ؟ طبعا لا و الف لا . يأتي احدهم و يقول احسنت يا دكتوررر و أخر يكاد يزغرد لان الدكتورر وضع يده على الجرح !!! يا عزيزي الدكتورر شبعنا من هذه المقالات و التحليلات بل منذ صغرنا و نحن نسمعها ونقراها ماذا غيرت لا شئ ... .. لو كل كاتب زرع كم راس فجل استفاد منها هو و جيرانه لكان أفضل له و للأمه !! قبل ان يهاجمني اي من كان على هذه السطور الثقيله على النفس ليتفضل و يقول ماذا ستغير مقال الدكتور ؟
أبو العبد الحلبي
السبت، 20-05-2023 06:42 ص
مقالٌ رائعٌ ذو مستوىً راقٍ يا أستاذ محمد حيث يقوم بتشخيص مسألة في منتهى الأهمية و هي من هو الذي أطاح بأمتنا فجعلها على هامش الأمم تعيش أوضاع تخلفٍ في محالات الحياة و واقع هزائمٍ مستمرةٍ و تراجع مع أن لدينا ثروات طبيعية و قدرات فكرية و صفات متميزة ينفرد فيها أبناؤنا عن غيرهم ؟ كرجلٍ عجوزٍ ، تابعت الموضوع لسنوات و قرأت الكثير من المراجع بالعربية و بثلاث لغات أوروبية أعرفها بكل تواضع . توصلت بعدها لمثل قناعتك في هذا المقال. باختصار ، لا شك أن العدو الخارجي قد آذانا كثيراً سواءً أيام الاستعمار القديم أو أيام خلفِهِ الأشرس أي الاستعمار الجديد بل و " قام بتكسيرنا كما قال الأستاذ الدكتور عبد الله النفيسي حفظه الله" . و هو مستمرٌ في كيده و مكره آناء الليل و أطراف النهار لا يكلَ و لا يملَ . لكن نسبة إسهامه في تدهور أحوال أمتنا تنخفض عن نسبة 50% كثيراً و يوجد دليلٌ على ذلك من سيرة نبينا صلى الله عليه و سلَم و بالذات من خطبة الوداع التي حضرها آلاف الأشخاص و طلب من الحضور تبليغها لمن كان غائباً عنها . حين يكون إنسان عادي في حالة وداع لأعزائه سواء عند ذهابه لسفرٍ طويلٍ أو عند قرب مفارقته للحياة فسيقول لهم خُلاصة ما يوصي به ، و رسولنا الكريم - الإنسان المتلقي لوحي الله - كانت خطبته ليست طويلة و قامت بالتركيز على ما نسمَيه الآن "الجبهة الداخلية" و لم يتطرق للعدو الخارجي نهائياً ، فليرجع كل واحدٍ منا لقراءة هذه الخطبة العظيمة لإدراك أن هذا العدو الخارجي لا وزن له و لا قيمة بالمقارنة مع العدو الداخلي و خاصة حين يتكون من المنافقين و العملاء و الجواسيس و المتكبرين و المنبطحين... الخ . على أن من المُريح لكثيرين إسقاط اللوم على أقوامٍ آخرين أو على ظروفٍ أو على أزمنة ...أو كلَ شيء سوى من يتحمل غالبية اللوم لعوامل منها النجاة من بطش الأنظمة القمعية و من بذل الجهود الشاقَة في الإصلاح. تُوجد أبيات شِعْرٍ حكيمة للإمام الشافعي رحمه الله في صُلْبِ هذه المسألة يقول فيها : (نَعيبُ زَمانَنا وَالعَيبُ فينا **وَما لِزَمانِنا عَيبٌ سِوانا. وَنَهجو ذا الزَمانِ بِغَيرِ ذَنبٍ ** وَلَو نَطَقَ الزَمانُ لَنا هَجانا. وَلَيسَ الذِئبُ يَأكُلُ لَحمَ ذِئبٍ ** وَيَأكُلُ بَعضُنا بَعضاً عَيانا). إذا كان الواقع هكذا أيام الشافعي فكيف واقعنا في هذه الأيام ؟؟؟
mh1959
الجمعة، 19-05-2023 04:02 ص
ثلاث كلمات أوصى أوباما بإعادة تعويمه
الحريةالمالية
الخميس، 18-05-2023 11:13 م
شكرا سيدي، صحيح لا يجب إلقاء اللوم على صهاينة الغرب لكن حذاري هم يعتبروننا أشد الأعداء و أفتك سلاح لديهم هو النظام المالي الذي نحن تحت رحمته وخير دليل هو هبوط الليرة التركية بعد الفوز النسبي لأردوغان وهناك أمثلة عديدة
احمد
الخميس، 18-05-2023 06:23 م
اكثر من يتكلم بالعدو الخارجي هو ايران و الفقاعات التي انشأتها في المنطقه فشعارات الموت لامريكا الموت لاسرائيل تتردد منذ خمسين سنه و في النهايه التعاون مع الشيطان الاكبر يظهر في ابهى صوره عندما سلمت امريكا حكم العراق لايران .. كثيرا ما هاجمت نظام صدام لكنه النظام الوحيد الذي كان مستهدفا من الامبرياليه كما قلت و لديه اعداء خارجيين و ليس عدوا واحدا .. شبعنا من اجترار نفس الاسطوانه منذ عشرات السنين ماذا سنسفيد من مقال كهذا ؟ لا ابالغ ان قلت ان طالب في قسم السياسه يستطيع ان يكتب حتى افضل منه !! حاول ان تتناول مواضيع تهم المواطن العربي خاصه و اننا دخلنا في منطقتنا عهدا استعماريا جديدا و بما انك في فرنسا لمذا لا تكتب عن السياسه الخارجيه الفرنسيه او ما هو موقفها من اطماع ايران في المنطقه