كتب

الدستور التونسي بين وحدانية اللغة وحرية التعبير.. جدل التأسيس

كتاب يشرح ملابسات الفصل الأول من الدستور التونسي: "تونس دولة حرة، مستقلة ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها"..
كتاب يشرح ملابسات الفصل الأول من الدستور التونسي: "تونس دولة حرة، مستقلة ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها"..
الكتاب:  les Dispositions Generales De La Constitution
الكاتب: مجموعة من الباحثين التونسيين شاركوا في ندوة فكرية  تتعلق بالذكرى الخمسين لإصدار دستور 1959، بمساعدة المؤسسة الألمانية Hanns Seidel Stiftung
الناشر: كلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس، بالاشتراك مع الجمعية التونسية للقانون الدستوري، تونس 2010
(236 صفحة من القطع المتوسط)

في تونس، وقبل أن نتعرض إلى دستور عام 1959، يجب أن نؤكد على أن العديد من النصوص السياسية والأساسية في تاريخ تونس المعاصر لم تتعرض إلى اللغة، وهو شأن كل من عهد الأمان وقانون الدولة لسنة 1861، أو كذلك النصوص والوثائق التي لها ارتباط بفكرة الدستور، من ذلك الوثائق الصادرة عن لجنة العمل للضمانات الدستورية والتمثيل الشعبي سنة 1951، وخاصة الأمر العلي المؤرخ في 29 ديسمبر لوضع الدستور، ونكون بذلك قد انتظرنا دستور غرة جوان 1959 ليقع لأول مرة تأطير ظاهرة اللغة في الدستور.

ويحق لنا أن نتساءل عن المكانة التي تحظى بها اللغة في الدستور التونسي؟

يقول في هذا السياق الأستاذ أمين محفوظ :"إنَّ الإجابة التقليدية سواء بالنسبة للسلطات العامة أو للفقه تكمن عادة، عندما تكون اللغة موضوع الدراسة، في الرجوع إلى الفصل الأول من الدستور دون سواه، والحال أن هذه النظرة تتسم، في اعتقادنا، بمرجعيتها الضيقة ذلك أن اللغة لها مكانتها كذلك في فصول أخرى أهمها الفصل الثامن من الدستور، ولا يخفى على أحد تعلق هذا الفصل بضمان الحريات بما يتجه ضرورة التوسيع من المرجعية الدستورية للغة في هذا الشأن، على أن التوصل إلى هذه النتيجة لا يجب أن يمنعنا من التصريح على أن الدستور التونسي تضمن، في خصوص تأطير ظاهرة اللغة، مفارقة تعكس في نهاية الأمر صراعاً مستديماً بين الوحدانية والتعددية أو بين الحرية والتسلط، ذلك أن أسلوب التعامل اختلف من فصل إلى آخر، فلئن اتسم الأسلوب الأول بالانحياز تجسد من خلال اختيار العربية كلغة الدولة (الجزء الأول) تبنى الدستور أسلوباً ثانياً اتسم أساساً بالحياد فآلت النتيجة إلى تكريس، ما نعتبره، بحرية اللغة (الجزء الثاني)، (ص 12).

جاء في الفصل الأول من الدستور: "تونس دولة حرة، مستقلة ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها".

إن العبارات المختارة من قبل الآباء المؤسسين في هذا الفصل ولئن بدت سهلة الفهم إلا أن التطبيق أكد وجود صعوبات تجسدت في تعدد التأويلات وخاصة الرسمية منها، لذا نرى لزاماً قبل التعرض إلى فهم السلطات المؤسسة لمدلول الفصل الأول (فقرة ثانية) أن نرجع إلى فهم أصحاب هذه العبارات بما يتجه معه الرجوع إلى الأعمال التحضيرية التي سبقت المصادقة على الفصل المذكور (فقرة أولى).

فقرة أولى، ظروف تكريس اللغة في الدستور

لا يمكن أن نغامر بالحديث عن اللغة في الدستور التونسي دون الرجوع إلى الظروف والملابسات التي دعت إلى ذلك، وهو ما يتطلب منا العودة إلى مناقشات المجلس القومي التأسيسي التي سبقت المصادقة على الصيغة الحالية للفصل الأول من الدستور.

فعلى مستوى الشكل نلاحظ أن أول جلسة تضمنت مناقشة فصول الدستور كانت الجلسة المسائية المنعقدة في 14 نيسان (أبريل) 1956، وفي غياب مشروع متكامل للدستور المزمع وضعه من قبل الحكومة، فقد تضمن جدول أعمال الجلسة تقديم مشروع الفصل الأول من الدستور دون سواه، ويتكون هذا الفصل من ثلاث مواد: مادة أولى ورد فيها "تونس دولة عربية إسلامية مستقلة ذات سيادة" ومادة ثانية نجد بها "الشعب التونسي هو صاحب السيادة يباشرها على الوجه الذي يضبطه هذا الدستور" ومادة ثالثة مفادها "الدولة التونسية تضمن حرية المعتقد وتحمي حرية القيام بالعشائر الدينية ما لم تخل بالنظام وتنافي الآداب".

وبالرغم من وجود هذا المقترح على جدول الأعمال إلا أنه لم تقع مناقشته، إذ أن افتتاح جلسة المناقشة بدأ باقتراح تقدم به الحبيب بورقيبة الذي دخل مباشرة في صلب الموضوع متجاهلاً بذلك الاقتراح الوارد في جدول الأعمال، وفي ذلك أكثر من معنى، فهو دليل على أن الحبيب بورقيبة لم يكن وراء تقديم الاقتراح المذكور آنفاً، وهو دليل كذلك على أنه بصفته رئيس الحكومة فمن المفترض أن تكون مقترحاته منطلقاً للنقاش، وهي ربما رسالة أراد أن يوجهها بورقيبة إلى أعضاء المجلس القومي التأسيسي مفادها أنه الرجل القوة للمرحلة القادمة، وبذلك فإن المبادرة تنطلق منه.

أما على مستوى المضمون فقد ورد في اقتراح الحبيب بورقيبة ثلاث مواد، مادة أولى ورد بها "تونس دولة مستقلة ذات سيادة" ومادة ثانية بها "الشعب التونسي هو صاحب السيادة يباشرها على الوجه الذي يضبطه هذا الدستور" ومادة ثالثة نصت على أن "الإسلام دين الدولة والعربية لغتها وهي تضمن حرية المعتقد وتحمي حرية القيام بالشعائر الدينية ما لم تخل بالقانون".

لا يمكن أن نغامر بالحديث عن اللغة في الدستور التونسي دون الرجوع إلى الظروف والملابسات التي دعت إلى ذلك، وهو ما يتطلب منا العودة إلى مناقشات المجلس القومي التأسيسي التي سبقت المصادقة على الصيغة الحالية للفصل الأول من الدستور.
ومباشرة بعد تقديم الاقتراح طلب رئيس الجلسة، وهو أحمد بن صالح آنذاك، أن يتم النقاش على ضوء المقترح الذي قدمه الحبيب بورقيبة، وبذلك يمكن القول إنه وقع تهميش المبادرة الأولى، مجهولة المصدر، حتى لا تقل قبرها والتي وردت في جدول الأعمال، فتحول بذلك مقترح "السيد الحبيب بورقيبة" كمنطلق للنقاش، وبذلك يكون الحبيب بورقيبة قد كسب معركته من الناحية الشكلية.

وهكذا يتضح لنا من الوهلة الأولى أن اللغة وإن لم يكن لها مكاناً في المبادرة الأولى، فإنها وردت بوضوح في المبادرة الثانية الصادرة عن النائب الحبيب بورقيبة، وقد كان لإدخال هذا المصطلح أثراً إيجابياً من حيث توفر أول مادة كانت محل جدل بين أعضاء المجلس القومي التأسيسي، وفي ذلك دليل على أن النقاش كان له معنى داخل المجلس والحال أن الدولة لم يمضي على استقلالها إلا أيام معدودة، فقد أفرز النقاش وجود اتجاهين متباينين داخل المجلس: اتجاه أول يلصق العربية باللغة وهو الذي تزعمه الحبيب بورقيبة واتجاه ثانٍ يلصق العربية بالدولة إذ يدعو إلى ضرورة التنصيص على "عربية الدولة" من جهة ثم على اللغة العربية كـ"لسان الدولة" من جهة أخرى، ويتزعم هذا الاتجاه النائب محمد الشاذلي النيفر، وقد حاول كل اتجاه تبرير موقفه.

فبالنسبة إلى النائب محمد الشاذلي النيفر يرى "أن عربية اللغة غير عربية الدولة" وأن التنصيص على عربية الدولة يرمي بالأساس إلى التأكيد على انتماء الدولة التونسية إلى ما أسماه بـ"المجموع العربي بمعنى العائلة العربية"، وبزيادة التوضيح فلقد أكد على أن الهدف هو الانتماء إلى "الجامعة العربية" بغاية تأسيس "اتحاد عربي".

وقد سانده في ذلك كل من النواب نصر المرزوقي وصالح القلعاوي وصلاح الدين كشريد، فقد اقترح الأول كذلك تضمن المادة الأولى أن "تونس دولة عربية إسلامية حرة مستقلة" ورأى النائب صالح القلعاوي أن التنصيص على عربية الدولة يستجيب إلى "غالب الرأي العام التونسي" أما النائب صلاح الدين كشريد فقد أكد على أن "كلمة لغة فيها التباس وقوميتنا قومية عربية".

وبذلك فإن العربية لا يعتبرها أنصار هذا الاتجاه مجرد لغة وإنما لها مدلول سياسي وإيديولوجي وجب التنصيص عليه في الدستور.

وبالمقابل حاول أنصار الاتجاه الثاني الدفاع على تكريس العربية كلغة الدولة مع الحرص على التخلص من تعبير "عربية الدولة" محاولين تبرير ذلك بالعودة إلى البراهين التالية:

ـ أن المادة الأولى يجب أن تتضمن ركائز الدولة من خلال التصريح بكون تونس حرة مستقلة ذات سيادة، وهو الموقف الذي عبر عنه كل من الباهي الأدغم، والحبيب بورقيبة وأحمد بن صالح وأحمد المستيري.

ـ أن عربية الدولة له مدلول سياسي يرتبط بعلاقات الدولة واتجاهاتها، حسب الحبيب بورقيبة، إذ تهدف في النهاية إلى إدخال تونس في الجامعة العربية أو إلى اتحاد عربي وهو في نهاية الأمر "عمل سياسي" مجاله ليس في نص الدستور مؤكداً في نفس الوقت على أهمية البند الأول من الدستور الذي حسب رأيه "يخلق الدولة ويكونها بصفتها دولة حرة مستقلة ذات سيادة".

وقد ذهب النائب أحمد المستيري في نفس الاتجاه إذ بين أن الدستور يتكون من مقدمة وفصول، وإذا كانت المقدمة يمكن أن تتضمن مسائل غير قانونية "كاتجاهات الدولة، دولة عربية أو دولة إسلامية" فإن الفصول لا تتضمن إلا المسائل التي لها صبغة قانونية ويتعلق الأمر بالأساس "بأركان الدولة"، وبناءاً عليه فهو يعتبر أن "زيادة عربية أو إسلامية ليس له صيغة قانونية" وذلك على عكس القول بإن "الإسلام دين الدولة" وإن "اللغة العربية هي اللغة الرسمية للبلاد".

وعلاوة على نعت الاتجاه الذي يحاول تكريس عربية الدولة وإسلامها بكونه اتجاه سياسي وغير قانوني فقد ذهب الحبيب بورقيبة أكثر من ذلك إذ دعا إلى ضرورة "ترك العاطفة البسيطة لعدم الظهور بمظهر أناس غير جديين" وبذلك يكون الاتجاه الرامي إلى التنصيص على عربية الدولة يتسم حسب معارضيه بالسياسي وغير القانوني، وكذلك بالعاطفي وبغير الجدي.

ومن آثار هذا الجدل القبول بمقترح النائب الباهي الأدغم الذي مفاده: "تونس دولة حرة مستقلة، الإسلام دينها، والعربية لغتها".

ودون أن نتولى تقييم موقف بورقيبة، المتمثل في قبول اقتراح الباهي الأدغم أن كان عن مضض أو عن حكمة وتبصر، إلا أن قوله، بعد الاستماع خاصة إلى عدد من المتدخلين من الشقين، أن "زيادة كلمة عربية ليس من الأمور التي يتألم منها الإنسان أو يعترض فيها لأن هاته المعارضة تزيد في قلوب الناس تخوفاً" قد تفسح المجال أمام تأويلات عدة، علماً وأنه حرص على التأكيد على أنه عندما "نقول اللغة العربية أو العربية لغتها كل إنسان يعرف انتسابنا للعروبة ودخولنا في العروبة لأن العروبة هي مجموعة من الشعوب التي تتكلم العربية، بحيث لم توجد أشياء أخرى تربط بينها فالذين يختلفون فيه والجنس يختلفون فيه والأصل يختلفون فيه، والدول التي تختلف في شعائرها والأديان والأصل والجنس كلها داخلة في العروبة لأن لغتها هي العربية.

وعندما طرح رئيس الجلسة على النواب النقاش حول سن مادة مستقلة تسن "تونس دولة مستقلة ذات سيادة" أو جعل مادة أخرى تتعلق بالدين واللغة، تدخل رئيس الحكومة الحبيب بورقيبة ليصرح بأنه "لا يرى مانعاً بكون تونس دولة حرة مستقلة ذات سيادة الإسلام دينها والعربية لغتها أي بربط المسألة في فصل واحد".

ومن الآثار المباشرة لهذا التنازل قيام النائب محمد الشاذلي النيفر بسحب مقترحه، وقد تمت الموافقة على مقترح الباهي الأدغم بالإجماع .

قد يكون التمشي الذي تبناه الدستور التونسي قد أثر على الاختيارات التي كرسها كل من دستوري المملكة المغربية لسنة 1996، وجمهورية الجزائر لسنة 1996، ذلك أنه ولئن لم يقع تكريس عربية الدولة في الفصول إلا أن الديباجة أكدت بالنسبة للمملكة المغربية أن المملكة "جزء من المغرب العربي الكبير" وهي "دولة إفريقية" في حين نقرأ في ديباجة الدستور الجزائري أن الجزائر "أرض عربية، وبلاد متوسطية وإفريقية".
وقد وقعت المحافظة على صيغة الفصل، على هذا الشكل، سواء في مسودة الدستور المؤرخة في 9 جانفي 1957، أو في مشروع الدستور المؤرخ في 30 جانفي 1958 أو في النسخة النهائية لنص الدستور ولكن مع إضافة مصطلح "الجمهورية نظامها" ويمكن القول إن بورقيبة ولئن يقر بانتمائه للعرب والحضارة الإسلامية إلا أن ذلك لم يكن مشفوعاً بنوع من الشوفينية والتعصب بل على العكس فهو يدعو إلى ضرورة الالتحاق، عما أسماه، بركب الحضارة، وقد عبّر عن هذا الموقف في عديد المناسبات من صور ذلك الخطاب الذي ألقاه في افتتاح أعمال المجلس القومي التأسيسي أو في موكب ختم دستور 1 جوان 1959.

ويمكن اعتبار الاتجاه الذي أقره الدستور التونسي ينخرط في نفس الاتجاه الذي اقرته بعض الدول الناطقة باللغة العربية شأن دستور لبنان لسنة 1926 ودستور الصومال لسنة 1960 ودستور جمهورية السودان لسنة 1997 ودستور جمهورية جيبوتي ودستور جزر القمر ودستور العراق، وهو اتجاه يخالف ذلك الذي تبناه أغلب دساتير الدول الأخرى التي أكدت على كونها دولاً عربية قبل تكريس اللغة العربية كلغة رسمية للدولة، وهو شأن دستور المملكة الأردنية الهاشمية لسنة 1954 ودستور دولة الكويت لسنة 1962 ودستور جمهورية مصر العربية لسنة 1971 ودستور الجمهورية العربية السورية لسنة 1973 ودستور الجمهورية اليمنية لسنة 1994 ودستور دولة قطر لسنة 2003، ووقع تكريس نفس التمشي في النصوص الأساسية التي تحكم كل من الجماهيرية العربية اللبيبة الشعبية الاشتراكية منذ 1969 والمملكة العربية السعودية منذ 1992 وسلطنة عمان منذ 1996.

وقد يكون التمشي الذي تبناه الدستور التونسي قد أثر على الاختيارات التي كرسها كل من دستوري المملكة المغربية لسنة 1996، وجمهورية الجزائر لسنة 1996، ذلك أنه ولئن لم يقع تكريس عربية الدولة في الفصول إلا أن الديباجة أكدت بالنسبة للمملكة المغربية أن المملكة "جزء من المغرب العربي الكبير" وهي "دولة إفريقية" في حين نقرأ في ديباجة الدستور الجزائري أن الجزائر "أرض عربية، وبلاد متوسطية وإفريقية".

وبذلك فإننا نلاحظ أن الفصل على شكله الحالي لم يكن ليخدم أي فكرة أو مدلول سياسي أو أيديولوجي، وقد أكد الأستاذ بلعيد أن هذا الجدل طغت عليه الاعتبارات السياسية أما تأثير الاعتبارات القانونية والفنية الناتجة عن القانون الدستوري فكان محدوداً لأن هذا الأخير لا يمنع الدولة إن شاءت ذلك الإعلان ضمن دستورها على انتمائها أو تعلقها بمجموعة سياسية معينة، مضيفاً أن مدلول هذا الفصل يعني في النهاية أن "اللغة الرسمية للدولة، هي اللغة العربية.. وهو قرار متداول عند جميع الدول التي تستعمل لغتها الوطنية في المواقف والوثائق الرسمية".

على أنه وجب التذكير أن فهم الفصل الأول من الدستور من قبل السلطات العامة قد تراوح بين إعطاء طابع رمزي للفصل المذكور وبين التشدد في فرض لغة واحدة على كل مكونات المجتمع السياسي.

إقرأ أيضا: قراءات في الدستور التونسي لعام 1959 بعد نصف قرن من صدوره
التعليقات (0)