تقارير

الحق والعدل في القرآن.. بين المفهوم المجرد والمفهوم التاريخي

مفكرون غربيون يناقشون قيمتي الحق والعدل في القرآن الكريم.. (عربي21)
مفكرون غربيون يناقشون قيمتي الحق والعدل في القرآن الكريم.. (عربي21)
تناقش الباحثة منصورة خليليزاند زميلة أبحاث بجامعة فرايبورغ إشكالية كونية ونسبية مفهوم الحق بالاستناد إلى نظرية صدر الدين الشيرازي حول الحق القرآني، فتستعرض نظريته وكيف ميز بين الدرجات الثلاث للحق، الحق المطلق الذي يتجسد في التجسد الفكري (الأصل النهائي)، والحق الذي يتكشف كأشكال خيالية تم إنشاؤها، فتتلاشى في الروح الكونية الفريدة، والحق، الذي يتكيف مع قيود وشروط الظهور في العالم الطبيعي، ويظهر تبعا لذلك كحقيقة مادية وزمنية خاصة.

وتخلص من نظرتها في نظرية الشيرازي إلى أن القرآن لا يمثل إلا تجلي الحقيقة القرآنية في العالم المادي، ولذلك، لا ينبغي اعتباره ممثلا للحقيقة المطلقة للحق، ما دام ظاهرة لغوية تنتمي بالضرورة إلى العالم الطبيعي العابر، وتجسد فقط الحقيقة النسبية في سياق معين. وفي المقابل، فإن الحق المطلق، يحمل طبيعة فكرية خالصة، لا يمكن بلوغها إلا بالتأمل الفلسفي.

الحق القرآني بين كونية الوجود المطلق، ونسبية تجلياته في العالم المادي؟

تستعرض الباحثة سياق تطوير الشيرازي لنظريته في أعماله الثلاثة الأساسية " الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة العقلية" و"مفاتيح الغيب" و"أسرار الآيات"، وقد اشتغلت في هذه الورقة على سؤالين مهمين، علاقة النص القرآني بالفكر الأفلاطوني الجديد الذي تمثله الشيرازي، وأي مقاطع القرآن جذبت فكر الشيرازي (قضية الأصل والنهاية أي موقع الإنسان في الكون ووجوده) وذلك لتدرس ما إذا كان بالإمكان إثبات وتأكيد ورود هذه العناصر بالرجوع إلى مصادر أقدم، وليس فقط بالرجوع بشكل حصري إلى المصادر الإسلامية.

وقد عرضت لمفهوم الصدر الشيرازي للوجود وخصائصه الرئيسية، وقدمت شرحا مفصلا للتشكيلات المختلفة للحقيقة القرآنية في هرم الوجود، وتناولت في الجزء الأخير من ورقتها كيف تسمح نظرية الصدر عن الحقيقة القرآنية بإعادة صياغة المكان المعطى للنص القرآني في السياق الإسلامي، وبالتالي إعادة تعريف العلاقة بين الحقائق الدينية والفلسفية.

وانتهت إلى تقرير عدد من الخلاصات منها ضرورة مراجعة إسقاط العصر الوسيط على حقبة من تاريخ المسلمين تناسب فترة العصر الوسيط بالنسبة للتاريخ الأوربي، وأن  هذا الإسقاط  ليس له ما يبرره، فضلا عن كونه لا يساعد كثيرا في التعرف على المنطق الجوهري للحركات والتغييرات في السياق الإسلامي وتوضيحه، واستندت في ذلك إلى تأكيدها تبلور بداية حقبة جديدة جذرية في تاريخ الإسلام الوسيط، بسبب تحديث الهياكل التعليمية في البلدان الإسلامية، وأيضا بسبب مسارات صعبة متغايرة أخذت بالفعل طريقها إلى هذه المنطقة منذ أكثر قرن من التاريخ، إذ عرفت هذه المسارات بإنهاء هيمنة الفقهاء على التعليم، بحيث لم تعرف هذه الحقبة فقط دخول سلسلة متكاملة من التخصصات المعرفية الجديدة إلى الثقافة الإسلامية، ولكنها أيضا جعلت الإرث الإسلامي متاحا أكثر فأكثر، بالنسبة لفئة من العلماء الذين لا يشتركون في الخلفية الدينية الأرثودوكسية، وليست لهم دوافع ومعتقدات الفقهاء، ولا تتشبث بنفس الطبقة السياسية والاقتصادية، ومثلت لهذه الطبقة من العلماء لهم دراية واسعة بالفلسفات الأخرى، ولا يخشون التغييرات التي قد تحدث في النظام الحالي للمجتمعات الإسلامية، والتي قد تؤدي إلى إصلاح السلطة السياسية فيها.

وترى الباحثة أنه بسبب هذا الترتيب الجديد الذي قدمته هذه الطبقة، وبسبب تحريرها التراث الإسلامي من الهيمنة الأرثودوكسية الراديكالية للفقهاء، فقد تم التغاضي عن أفكارها ومعتقداتها، ومن تم نسيانها بسهولة ولاسيما في الفلسفة الإسلامية.  وأن من هؤلاء صدر الدين الشيرازي، الذي تعرضت كتاباته ونظرياته لعملية إخفاء منهجي مثير للدهشة قام به الفقهاء واستمر حتى مع علماء المسلمين المعاصرين الذين يمثلون التيار الفكري الأكثر تأثيرا في العالم الإسلامي في عصرنا الحالي.

كما خلصت إلى أن الاستناد إلى نظرية الشيرازي في الحق القرآني، يثبت أنه لا يمكن اعتبار أي قيمة في نص القرآن على أنها مطلقة إلا إذا كانت تشير إلى الدرجة الفكرية للوجود، وكان بالإمكان أن تنطبق على الوجود الإنساني، وذلك بغض النظر عن الخصوصيات المحلية والتاريخية، وأن الأحكام الخاصة الواردة في القرآن، تتعلق بالمجتمع الذي أنزل فيه، وأن تعامل الفقهاء مع هذه الأحكام، يبين في الجوهر ارتباكهم في محاولة نقل الوجود المادي المتغير للحق إلى درجة الوجود المطلق الخالد الأبدي، بينما يؤكد الشيرازي، أن القادر على اكتشاف الحقائق المطلقة وربط الحقائق النسبية الواردة في القرآن بها هم الفلاسفة وليس الفقهاء.

الطريق المستقيم أو العدل الكوني

تناولت ورقة البروفيسور بدي المرابطي رئيس المعهد الأوروبي للدراسات الابستمولوجية مفهوم "الصراط المستقيم" من خلال سورة الفاتحة، وقد أشار إلى الاطراد في ورود هذه اللفظة في القرآن الكريم (حوالي 37 مرة)، وإلى خصوصية كل حقل معرفي في مقاربته لهذا الموضوع، واختصاص الرؤية الإسلامية برؤتها المختلفة عن الرؤى الأخرى. وتوقف بدي عند دلالة "الصراط المستقيم" في سورة الفاتحة، وكيف تحيل على ثلاث مسارات أساسية: الطريق إلى الله، والطريق إلى الدين، ثم الطريق إلى وسط عادل،  وتناول في مقاربته مفهوم الإمام الغزالي للاستقامة، واستعرض الإشكالات التي تثيرها لفظة "صراط"، والدلالة التي تأخذها في لغات مختلفة، لاتينية وانجليزية وألمانية وفرنسية، كما عرض  للمفهوم الذي تأخذه لفظة "مستقيم"، وإحالاتها اللغوية  على معنى العدل والصحة والحق، كما أشار إلى بعض إحالاتها المجازية، كما هو الشأن عند الصوفية (الأداء الخلقي،  والسير إلى شيء في الأفق، السير إلى الله، مدارج السالكين). وتوقف في مداخلته على العلاقة القائمة بين العدل والاستقامة، وكيف يأخذ مفهوم "الطريق المستقيم" في النص القرآني مفهوم الطريق إلى العدل، فيكون الطريق المستقيم بهذا الاعتبار الالزام بتعاليم الدين وأحكامه التي تحقق العدل.

ويتعرض البرفيسور بدي إلى مفهوم العدل عند المعتزلة، والموقع الذي احتله ضمن مبادئهم العقدية الخمسة، ويتوقف بهذا الخصوص على تفسير كل من الإمام الزمخشري والإمام الرازي لمفهوم الصراط المستقيم، وتركيزهما على مفهوم العدل في توجيه الآيات التي تتضمن لفظة الاستقامة.

ويستعرض البروفيسور بدي مفهوم الاستقامة عند الإمام الرازي وكيف يحيل على العدل، وعلى التوسط والاعتدال بين أمرين يتطرف كل واحد منهما لجانب، ويشير أيضا إلى معنى الهداية، والتي لا تتحصل حسب الرازي إلا بطلب الله المعرفة بالدليل والحجة، وأيضا بتصفية الباطن والرياضة، بحيث تختلف طرق السير إلى الله بحسب منهج كل سائر، وهو من الأسرار التي لا تتوقف العقول عن إدراكها حسب الفخر الرازي.

ويخلص من نظرة الرازي في السورة إلى ثلاثة مسارات أساسية، مسار الحديث عن الله باعتباره مصدر الهداية إلى العدل وإليه يتوجه الطلب، ومسار الحديث عن الإنسان، باعتباره موضوع الهداية والعدل، ومسار الحدث عن العدل باعتباره المقصد والهدف ومضمون الهداية.

لا يمكن اعتبار أي قيمة في نص القرآن على أنها مطلقة إلا إذا كانت تشير إلى الدرجة الفكرية للوجود، وكان بالإمكان أن تنطبق على الوجود الإنساني، وذلك بغض النظر عن الخصوصيات المحلية والتاريخية، وأن الأحكام الخاصة الواردة في القرآن، تتعلق بالمجتمع الذي أنزل فيه، وأن تعامل الفقهاء مع هذه الأحكام، يبين في الجوهر ارتباكهم في محاولة نقل الوجود المادي المتغير للحق إلى درجة الوجود المطلق الخالد الأبدي
ويستعرض البروفيسور بدي رأي الإمام الغزالي في العدل، والطريقة التي تناول بها العلاقة بين العدل والعقل، وكيف اختار أن يجمع بين إدراك العقل للعدل في ذاته، وبين الرؤية الأشعرية التي تضفي على الشيء الحسن من جهة تحسين الشرع له، فيجعل من خلق الله للعالم على أساس من العدل مدخله للتوفيق بين الرؤيتين، وأيضا لإعطاء العقل دور في تحديد ماهية العدل، فيذهب إلى أن العالم صادر من عدل الله، وأن الموجودات والحوادث بفعله ما هي في الجوهر إلا فيض من عدله على أحسن الوجوه وأكلمها وأتماها وأعدلها.

ويؤسس بدي لمفهوم "كونية" القيمة (العدل) من خلال المقابلة بين شكلين من أشكال تمثل الغزالي لمفهوم العدل، المفهوم الذي يلتقي فيه مع أرسطو، وذلك حين يربط بين العدل والعقل، والمفهوم الذي يلتقي فيه مع أفلاطون، وذلك حين يعتبره فضيلة للنفس، مثله في ذلك مثل فضيلة العقل، وفضيلة الشجاعة، وفضيلة العفة (الفضائل الأربع للنفس).

العدل في القرآن مبدأ كوني أم عشائري قبلي؟

أشار الباحث نجم الدين خلف الله الأستاذ بجامعة لوران بفرنسا في ورقته إلى أهمية تبني النموذج السيميائي في دراسة مفهوم العدل في القرآن،  وذكر ببعض الأدبيات التي لا يمكن الاستغناء عنها في دراسة هذا المفهوم، كدراسة جاكلين شافي عن تأثير البنية العربية على دلالات الألفاظ والمعاني القرآنية، ودراسة لوكسمبورج كريستوف عن تأثير اللغات السامية على النص القرآني، ولم يفته أن يذكر بالتقاليد التي كرستها المدرسة الاستشراقية الفرنسية، لاسيما مع ريجيس باشلار، وأشار الباحث أن الإفادة من هذه الأبحاث ضرورية مهما كان حجم الاتفاق أو الاختلاف معها.

وقد انطلقت الورقة من دراسة لفظة العدل بجميع مشتقاتها كما وردت في السياق القرآني (34 مرة) مع اعتماد معيار ورودها بحسب ترتيب النزول، والتوقف عند أسباب نزول كل آية على حدة، لتشكيل رؤية عن المعنى السياقي للفظة العدل في كل آية، وقد أفاد في ذلك من مفهوم محمد أركون للدينامية السيميائية.

وذكر في ورقته بجملة من الضوابط التي ينبغي مراعاتها في سياق الاشتغال على مفهوم العدل في القرآن أو أي مفهوم قيمة أخرى،  فذكر من ذلك استبعاد المقاربة الانتقائية، والمقاربة الإسقاطية، وضرورة احترام البنية اللغوية للنص، والتمييز بين المعنى التقني والمعنى اللغوي، ولم يقدم في الواقع خلاصات  بحثه، ولم يقرر أي نتيجة تخص مفهوم العدل وعلاقته بالكونية أم استمداده من البيئة القبلية التي سبقت نزول القرآن، لكنه ركز في المقابل على  أهمية تطوير نموذج سيميائي لدراسة المصطلح القرآني، باستخراج اللفظ من خلال جميع سياقاته القرآنية، واستحضار البعد السياقي لكل آية من خلال مراعاة ترتيب النزول وسياق نزول كل آية على حدة.

في مفهوم العقل.. مدخل إلى إثبات كونية التعقل في التراث المعرفي الإسلامي

تنطلق ورقة نجيب جورج عوض بروفسور اللاهوت المسيحي ورئيس برنامج الدكتوراه في كلية هارتفرد للدراسات الدينية وحوار الأديان في ولاية كونكتكت في أميركا من مقارنة تحليلية في مفهوم "عقل" و "يعقل" في التفسير القرآني وعلم الكلام في العصر العباسي المبكر، ويبرر اشتغاله على هذه المادة بالأهمية التي يعطيها النص القرآني للتعقل في تأطير علاقة المؤمنين بالخالق وفي اتباعهم لمشيئته، وتحديد العلاقة مع الله من خلال العقل. وقد تناولت الورقة بشكل نقدي مقارن مقاربة المفسرين القرآنيين في القرآن الثالث لمفهوم العقل والتعقل (ابن جرير الطبري، وابن ابي حاتم، وهود ابن المواري والحرب المحاسبي) ومقاربة الفلاسفة والمتكلمين المعتزلة (عمر بن عبيد، واصل بن عطاء، أوب الهذيل العلاف، والنظام، ابن المعتمر، ابن خابط،  الجاحظ، أبو عيسى الوراق، علي بن ربان الطبري، القاسم ابن إبراهيم الراسي)، ويرى الباحث أن هذا العمل النقدي المقارن، يظهر التباين والتنوع المعرفي والمفاهيمي الذي  تميز به الفكر الإسلامي في العهد العباسي المبكر، وأن المضمون القرآني لم يتم تبينه من قبل كافة التيارات الفكرية واللاهوتية في ذلك القرن بحرفية  نصية، وأن مقاربات معرفية أخذت المفاهيم والقيم الإسلامية، مثل قيمة التعقل، وقدمت تأويلا لها يتأسس على  الفكر الفلسفي المحض. كما يخلص في ورقته أن التمايز في فهم قيمتي "العقل" و"التعقل" القرآنيين أظهر في كثير من الأحيان حسب ما ظهر في التاريخ الفكري اللاهوتي والكلامي الإسلامي تفسيرات ومقاربات متفاوتة تتضارب أحيانا حتى مع المحتوى القرآني.

هذه الخلاصة، دفعت الباحث إلى عدم التسرع في تقديم الخطاب الإسلامي المستوحى من القرآن باعتباره خطابا كونيا وحدا، بل على العكس من ذلك، فإنه يشي بوجود خطاب سياقي وتاريخي تعددي يتأثر بخلفيات ومنهجيات واهتمامات الباحث في القرآن.

في تطور المفهومات الأخلاقية في القرآن

حاولت روقة الدكتور عبد الرحمان حللي أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة قطر، أن تنطلق من اختبار تطور المفهومات الأخلاقية في القرآن، من خلال اعتماد مؤشر التواتر اللغوي، إذ استقرأت المفهومات الأخلاقية (القيم الأخلاقية) الواردة في القرآن المكي والمدني، ووتيرة ذكرها فيهما، مع تتبع تطور هذه المفهومات، بالإشارة إلى عنصر التواتر والاطراد ودراسة المفهومات التي اطرد حضورها في القرآن المكي، والتي اطرد حضورها وتكرارها في القرآن المدني، وذلك باعتماد معيار إحصائي، مع  جهد في تصنيف هذه المفهومات حسب أربع حقول دلالية مختلفة. الثلاثة الأولى منها هي المفهومات الأشد تواترا في المرحلة المكية، ثم انحدرت درجة تواترها في المرحلة المدنية، ويختص الحقل الأول بالمفهومات التي تتصل بأخلاق المعرفة وموقف الإنسان من الحقيقة والأنا والإنكار، والمفهوم الأهم في هذا الحقل هو (الكذب)، وأما الحقل الثاني، فموضوعاته تدور حول مجامع الأخلاق المذمومة، التي تتجاوز الأنا والآخر،  والمفهوم الأهم في هذا الحقل هو (الظلم)، وأما الحقل الثالث، فهو المفهومات التي تقرر مجامع الأخلاق المحمودة والتي  يكرسها القرآن المكي، وهي على النقيض من الحقلين السابقين، والمفهوم الأهم في هذا الحقل هو (الرحمة)، أما الحقل الرابع، فيعني المفهومات الأخلاقية التي اطرت حضورها في المرحلة المدنية، وكانت أقرب إلى الأخلاق الكلية، والمفهوم الأهم فيها هو (التقوى).

ويخلص الباحث في دراسته إلى أن القرآن المكي هو الحامل الأكبر للمفهومات الأخلاقية، وأن التغيرات التي حدثت على المحتوى الأخلاقي الذي قرره القرآن المكي يجد تفسيره في تغير البيئة والمستجدات التي عرفها المجتمع المسلم في المدينة وأن القرآن المدني، لم يفعل أكثر من تتميم المحتوى الأخلاقي المكي، خاصة بآلية التشريع. كما خلص إلى أن المفهومات الأربعة الأشد تواترا في القرآن هي نفسها التي تميز الحقوق الدلالية الأربعة، أي مفهوم الرحمة (الحقل الثالث) ثم مفهوم الظلم (الحقل الثاني) ثم مفهوم الكذب (الحقل الأول) فمفهوم التقوى (الحقل الرابع) ويركب الباحث على ذلك خلاصة مركزية، يرى فيها أن الإنسان في المنظور الأخلاقي للقرآني، يتخلق ابتداء بأخلاق المعرفة، فيتخلى عن الإنكار، ويخرج من  الأنا التي تحجبه عن الاعتراف بالحقيقة، فلا يكذب، ومن ثم يعترف بالحقوق التي للآخر، فلا يظلم، فيسمو بأخلاقه مع الآخرين بالرحمة، فيسدد طريقه ويحتكم إلى ضميره الأخلاقي، فيتمثل مجموع الأخلاق المحمودة، ويبتعد عن مجموع الأخلاق المذمومة، فيعيش قيمة التقوى.

في تصنيف القيم الكونية بحسب مقاصد الشريعة

قدمت هدى حسن هلال الأستاذة بجامعة زايد بالإمارات العربية المتحدة ورقة حاولت من خلالها التأسيس لمجموعة شاملة من القيم الكونية التي وردت في القرآن، وأكدت أن هذه القيم هذه القيم قابلة للتكيف مع التطور المستمر للسلوك البشري بغض النظر عن الزمان والمكان.

وقد استقرأت الباحثة هذه القيم الكونية، فقسمتها إلى مجموعتين، القيم الجماعية (العدل، الحرية، الكرامة الإنسانية، الأمن، والسلامة) والقيم الفردية (الخير، والصدق، والجدارة بالثقة، الصبر والتسامح والتعلم والتدبر) وأكدت على عناية الشريعة بها، وكيف تحتل أولوية في بنائها التشريعي.

وقد عمدت الباحثة إلى تأصيل هذه القيم، من خلال البحث في النص القرآني عن الآيات التي تؤسس لها، وجعلت من ذلك منطلقا لإثبات كونيتها.  وقد اعتمدت الباحثة على دلالات القيمة كما وردت في القرآن بالاستناد إلى المعاجم اللغوية، وأيضا من خلال الاستناد إلى دلالاتها السيمائية، وأيضا بالرجوع إلى بحث الأدبيات التاريخية (أسباب النزول) لتحديد المعنى السياقي للقيمة كما وردت في النص القرآني.

وفي الشق الثاني من الورقة المعنية قامت بجهد تصنيف هذه القيم بحسب مقاصد الشريعة، مستندة إلى النموذج المقاصدي الذي قدمه كل من الإمامين الغزالي الشاطبي، وحاولت أن تضع كل قيمة على حدة ضمن الضروريات الخمس التي أصل لها الإمام الشاطبي أو ضمن الحاجيات أو التحسينيات.

ملاحظات منهجية

لم تسلم الأوراق المقدمة من ملاحظات نقدية وردت في تعقيبات عدد من الباحثين المعنيين بدراسة  القيم في القرآن الكريم، فقد لاحظ الدكتور محمد الناصري أستاذ دار الحديث الحسنية، على ورقة البرفيسور أوليفر شاربروت اعتماده في استقراء أفكار محمد عبده على "تفسير المنار" وعلى "تفسير جزء عم"،  دون التمييز من جهة بين ما هو منسوب إلى تلميذه رشيد رضا، وبين ما هو منسوب إليه في تفسير المنار، كما لاحظ عليه من جهة أخرى، عدم التمييز بين مسارين مختلفين من حياة  محمد عبده، مسار  مضطرب عرف بكثرة  الأسفار والوجود  ببلاد المهجر (فرنسا) ومسار مستقر، هو الذي عاش في ه في مصر، واعتبر أن هذا التمييز ضروري من الناحية المنهجية في فهم تفسير محمد عبده للقرآن، لاسيما ما يتعلق بموقع العقل، وموقفه من الغيبيات الواردة في القرآن، ومحاولاته تقديم تأويل لها لتجاوز أي دعوى بمخالفته للعقل أو للعلم.

ومن جهته، لاحظ الدكتور سعد الدين العثماني، على ورقة عبد الرحمان حللي، التمايز الموجود في الحجم بين القرآن المكي والمدني، والذي يؤثر بشكل كبير على النتائج التي استفيدت بمؤشر التواتر اللفظي، فتمايز الحجم بين القرآن المكي والمدني، فضلا عن تمايز مدة النزول، يجعل من الاعتماد على معيار اطراد الورود بالنسبة إلى قيم بعينها لبناء خلاصات معرفية أمرا محفوفا بكثير من الحذر.

كما انتقد على ورقة دافاري عدم الاستقراء التام في استخراج قيمة الحب في القرآن، وأن آيات كثيرة تم تغافلها مع أهميتها في بناء مفهوم هذه القيمة، كما انتقد على ديفين ستيوارت نسبه محبة الله وعدم محبته لأفعال لا الأشخاص، مستعرضا عددا من الآيات التي ينص فيها القرآن على عدم محبة الله لأشخاص بأعيانهم، ومحبته أشخاصا آخرين بأعيانهم، وأن الفعل إذا تلبس به الشخص، كانت المحبة أو عدم المحبة من الله، على الشخص بسبب الفعل، لا على الفعل بغض النظر عن الشخص.

ومن جهته لاحظ الدكتور بلال التليدي عضو مختبر البحث دراسات الفكر والمجتمع بجامعة شعيب الدكالي بالجديدة على ورقة دافاري، محدودية الاستقراء في مفهوم الحب في النص القرآني، والخلط بين مفهوم الحب في القرآن وبين وروده في المخيلات الشعبية للمجتمعات الإسلامية (الثقافية الفارسية)، فضلا عن عدم جدية الاختيار المقارن، إذ عمدت الباحثة مقارنة النص القرآني بنص روائي وشاعر أمريكي، يعرف من مساره الدفاع القوي عن المثلية الجنسية. كما لاحظ على ورقة منصورة، محاولة الانطلاق من  أدبيات الشيرازي في نظريته الحق القرآني، منطلقا لبناء تصور حول مفهوم كونية القيمة، مع  جعل مفهومه عن تجليات الحق كأساس للنظر إلى الأحكام الشرعية الواردة في القرآن، باعتبارها نسبية تاريخية لا تتعدى زمنها وعصرها، في حين  كان المطلوب ابتداء النظر إلى الحق باعتباره قيمة قرآنية كما وردت في النص القرآني، لا محاكمة النص القرآني بأدبيات انطلقت الباحثة من فرضية مرجعيتها مع أنها هي الأخرى، تحتاج إلى أن يناقش منطق بنائها، كما لاحظ على ورقة نجم الدين خلف الله، اقتصار الورقة على الشروط المنهجية لبناء تصور حول مفهوم العدل في القرآن، دون أـن يقدم أي نتائج بخصوص هذه القيمة، وهل هي مبدا قرآني أم مجدر مبدأ عشائري، جاء الإسلام يثبته.

وأما ملاحظته على ورقة الأستاذة هلال هدى هلال، فقد تركزت على المنهجية التي استفادت منها الباحثة القيم المذكورة، إذ لم تبذل أي جهد في استخراجها من النص القرآني، بل انطلقت من قاعدة وجودها، أو قاعدة ورودها في الفكر الإنساني، والحاجة إلى تأصيلها من داخل النص القرآني، ثم محاولة وضعها ضمن أحد مراتب مقاصد الشريعة (ضروريات، حاجيات، تحسينيات) باعتماد مرجعية الشاطبي،  في حين كان المطلوب ابتداء، هو وضع القيم المذكورة في دائرة الشك والدرس، والانطلاق من النص القرآني في استقراء القيم واستخراجها،  مع توضيح الفائدة العملية من جهد  تصنيف القيم بحسب مقاصد الشريعة، وهل  يفيد ذلك في مجرد التأصيل، أم يتحصل من ذلك فائدة عملية، يدرس من خلالها مراتب القيم، وعلاقة بعضها مع بعض، وأيها تحظى بالحاكمية وأيها تحظى بالتبعية.

وقد شكلت لائحة القيم الجماعية والفردية التي سعت لباحثة إل تأصيلها من داخل النص القرآني محل نقاش مستفيض من قبل عدد من الباحثين، الذين شككوا في تأصيل قيمة الكرامة الإنسانية كما وردت في الفكر الغربي، مذكرين بالتباين اللغوي بين الجدر اللغوي لهذه القيمة في القرآن، وأن آية واحدة (ولقد كرمنا بني آدم)، لا تكفي لتأصيل هذه القيمة، وأن آية سورة التين (أحسن تقويم)، بعيدة في التأصيل، وأن من اللازم قبل ذلك، البحث عن حفريات هذه القيمة في الأدبيات الفلسفية اليونانية، وتطور المفهوم في السياق الفلسفي الأوربي، حتى تستبين الدلاة المفهومية، وينظر بعد ذلك إلى إمكان التأصيل.

من جهته، ركز الدكتور خالد الصمدي أستاذ التعليم العالي بجامعة عبد الملك السعدي بتطوان بالمملكة المغربية، ورئيس المركز المغربي للدراسات والأبحاث التربوية  بالرباط  تعقيبا على ورقة ديفين ستيورات على قضيتين منهجيتين مركزيتين في استخراج ودراسة القيم من القرآن الكريم، تتعلق الاولى بالمعايير العلمية في استخراج هذه المنظومة، وفي هذا  السياق، عرض تجربة فريق البحث الذي يرأسه  بالمغرب  في  تطوير هذه المعايير  واعتمادها بعد تحكيمها، في استخراج  منظومة القيم الكونية من القرآن الكريم ودراستها وتحليلها، وقد  أسفر ذلك عن استخراج ست وعشرين قيمة، يتم  الاشتغال حاليا  بدراستها  وتحليلها من حيث صياغتها الدلالية واللغوية، وسياقاتها المختلفة في القرآن الكريم، مما سيمكن من تحديد نواتها المنطقية المكونة من بنيتها  المفاهيمية، وعلاقتها الترابطية مع قيم أخرى،  ومجالاتها التطبيقية ، بالإضافة إلى استخراج  مؤشرات قياسها وتقويمها، وهو ما سيمكن من تحديد الخارطة المعرفية  لكل قيمة باعتبارها خارطة مرجعية يستند إليها في التطبيقات الفكرية والتربوية.

أما الثانية، فتتعلق بدوائر الخطاب القرآن الكريم بين الخاص والعام، ذلك أن في القرآن الكريم دائرتين للخطاب: الأولى خاصة تنظم العقائد والعبادات وسائر التكليفات الشرعية ذات الصلة بالمؤمنين به، خطاب (يأيها الذين آمنوا) بالإضافة إلى قيم التعامل والعيش المشترك بين الناس بما في ذلك التعامل مع المختلفين في الدين والمعتقد واللغة واللون والثقافة،  وللخطاب في هذا المجال مفاهيمه  وأساليبه ووسائله الخاصة، التي ينبغي اعتمادها في تحليل مضامينه لأنه لا يفهم الا من خلالها ، ودائرة عامة التي تتصدرها عبارات  "أيها الناس"،  " يا بني آدم "  وهي الدائرة الأوسع التي تتضمن المشترك الانساني وهو المجال الأوسع لاستخراج ودراسة منظومة القيم  الكونية في القرآن الكريم.

واعتبر الصمدي أن الاشتغال على هذين المجالين بالتحليل والدراسة انطلاقا من خصوصية الخطاب في كل مجال، من شأنه أن يرسخ التقارب والتساكن ويخفف من نوازع التعصب والصراع، موضحا أن الاشتغال على تأصيل منظومة القيم الكونية في القرآن، بهذا المنظور هو الطريق الأمثل لبناء المشترك الإنساني، وتعزيز ثقافة التسامح والاختلاف. كما أشار الصمدي إلى بعض القواعد والمبادئ الت تم استخلاصها من تجربة فريق البحث بخصوص كونية القيم أم خصوصيتها، ومنها كقاعدة "كونية القيم وخصوصية مفاهيمها "، واعتبر أن شأن هذه القاعدة أن تفك إشكالية تنازع نسبة القيم الى مرجعية دون أخرى، لأن القيم كلها كونية فطرية في الإنسان، لكن مفاهيمها تختلف من مرجعية إلى أخرى بحسب سياقاتها الدينية والاجتماعية والثقافية.

إقرأ أيضا: كونية القرآن موضوع مدارسة بحثية في السربون بين الإثبات والنفي
التعليقات (1)
نسيت إسمي
الإثنين، 05-06-2023 03:00 م
'' الحق والعدل في القرآن.. بين المفهوم المجرد والمفهوم التاريخي '' مما يشرح الخاطرُ يَسُرُّ النَّفْسَ، القراءةُ و التأمُّلُ في عقول الأذكياء و أهل الفطنةِ، فإنَّهَا متعةٌ يسلو بها المطالع لتلك الإشرقات البديعة من أولئك الفطناءِ، و سيّدُ العارفين و خيرةُ العالمين"، رسولنا صلى الله عليه و سلم"، و لا يقاسُ عليه بقيةُ الناسِ، لأنَهُ، مؤيّدٌ بالوحي، مصَّدقٌ بالمعجزات، مبعوثٌ بالآيات البينات .. و هذا فوق ذكاء الأذكياء و لموع الأدباءِ. ساوت الصحيفة و هي الدستور الذي وضعه النبي صلى الله عليه و سلم لأهل المدينة في الحقوق و الواجبات، و إعتبرتهم أمة واحدة و جسداً واحداً. حقوق المواطنة : تحتاج قاعدة فكرية و ثقافية متجددة تغدي أبناء الوطن الواحد بقناعات حقيقة و قانونية، يفعلها و يحميها. الإسلام أعمق بكثير من الأفكار السطحية و الشكلية التي نراها، معظم المسلمين اليوم مسلمون بالوراتة فقط لا غير و لا يذركون، جوهر الإسلام لم يأمرنا الله بتطبيق أحكام الإسلام في بيئة فاسدة غير مسلمة بل متأسلمة .. بالفعل أمر الله بقطع يد السارق لكن قبل ذلك شرع منهجية فاضلة للبيئة المسلمة تقوم فيها "الحياة على العدل و الحق و جميع الفضائل" و على أن يوجد "بيت مال المسلمين" يستفيد منه المسلمون دون الحاجة إلى الإستعادة بأحد وقتها. إذا سرق أي شخص في المجتمع المتوازن تقطع يداه لأنه تعدى على حقوق غيره في الوقت الذي تكون حقوقه محفوظة يستحق هذا العقاب بالإضافة إلى أنه لو قطعت يد شخص واحد ستكون عبرة عظمى لغيره و لن يسرق أي شخص بعده .. أما في حال وجود بيئة معاقة فكرياً و ذهنياً تحتوي جميع أنواع الوساخة و الإنحطاط و البعد التام عن منطق الدين و الرحمة و العدل و التمسك بأديال المقصد و جعل منها عناوين مقدسة هي أصل الدين ف هناك و بسبب الإختلال المجتمعي حرام أن تطبيق منهجية الإسلام كما طبقت في عهد الصحابة بل ينبغي تجديد و إصلاح العقول لفهم الدين فهماً روحياً حقيقياً و تطبيقه لأنه لا يوجد منهج أسلم من الإسلام للبشرية .. بعد تطبيق الدين بحذافيره وقتها تعالى للمناقشة بشأن العقوبات التي ينبغي تطبيقها و إلا فإنك تمارس ظلماً فوق ظلم .. اللهم أنر الإسلام المسلمين.