لم يكن
تطبيع العلاقات
السعودية الإيرانية مفاجئا لأغلب المراقبين، وخصوصا المتابعين عن كثب،
لتجاذبات هذه العلاقات خلال السنوات الثلاث والأربعين الماضية على الأقل من عمر نظام
الجمهورية الإسلامية في إيران، وذلك لاتسام هذه العلاقة بالشد والجذب
طبقا للتطورات السياسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث يعتبر الطرفان الأكثر
حضورا على الساحة الإقليمية بالإضافة إلى تركيا وإسرائيل، غير أن صراعهما يُعتبر الأبرز، وذلك لما مثله من تناقض أيديولوجي واختلاف للرؤى السياسية ظاهريا، بالإضافة إلى نفوذهما
السياسي والاقتصادي والديني.
نظرة تاريخية
للعلاقات
شكل وصول
آية الله الخميني إلى السلطة في طهران عام 1979 زلزالا كبيرا في المنطقة؛ إثر ثورة شعبية
عارمة (ولأول مرة في تاريخ المنطقة)، أطاحت بنظام الشاه محمد رضا بهلوي، ثم تبنيه مبدأ
تصدير الثورة الإسلامية ومواجهة الإمبريالية الغربية وحلفائها، في إشارة إلى دول مجلس
التعاون الخليجي وإسرائيل.
اتسام هذه العلاقة بالشد والجذب طبقا للتطورات السياسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث يعتبر الطرفان الأكثر حضورا على الساحة الإقليمية بالإضافة إلى تركيا وإسرائيل، غير أن صراعهما يُعتبر الأبرز، وذلك لما مثله من تناقض أيديولوجي واختلاف للرؤى السياسية ظاهريا، بالإضافة إلى نفوذهما السياسي والاقتصادي والديني.
النهج
الجديد للنظام الوليد أدى إلى تدهور علاقاته الدبلوماسية خصوصا مع السعودية والعراق، الذي أشعل بعد ذلك حربا طاحنة بينه وبين العراق (1980-1989) بدعم خليجي مالي ولوجستي
كامل، ثم لاحقا اشتباكات جوية مع السعودية، بالإضافة إلى أزمة التظاهرات المكية، التي
أدت إلى وفاة ما لا يقل عن 275 حاجا إيرانيا (1987)، أعقبتها مباشرة قطيعة كاملة للعلاقات الدبلوماسية
حتى عام 1991.
العلاقة
بعد ذلك ظلت شبه مستقرة، لكنها لم تخلُ من توترات، خصوصا بعد اعتراف السعودية على مضض
بنظام طالبان عام 1996 في أفغانستان (النظير الأيديولوجي الآخر للنظام في طهران)، لكن
سرعان ما تم امتصاص هذا التوتر بجهود مباشرة بين الرئيس الإيراني الأسبق هاشمي رفسنجاني
والملك عبد الله (ولي العهد حينها)، اللذين كانا يتمتعان بعلاقة شخصية وثيقة، أسفرت
عن استقرار العلاقات بين البلدين حتى بداية الألفية الثانية.
الحرب الأمريكية على أفغانستان والعراق
تعتبر
الحرب ثاني أكبر زلزال في المنطقة بعد الثورة الإيرانية، حيث أسفرت عن تغيير كبير لصالح
إيران والسعودية (كل حسب أهدافه ومصالحه السياسية)، حيث تبادلت الدولتان العداء لنظامي
طالبان وصدام، لما يعتبرانه تهديدا وجوديا لهما ولسياستهما في المنطقة.
تمتعت
السعودية بعلاقة الأمر الواقع مع حكومة طالبان حينها، إلا أنها دعمت الحرب الأمريكية
ماليا ولوجستيا لأمرين، أولهما: التملص من عقدة ارتباطها أيديولوجيا بالقاعدة (المتمركزة
في أفغانستان)، الذي وضعها في محل انتقاد كبير وتشكيك عند النخبة السياسية الأمريكية؛ إثر هجمات نيويورك وواشنطن، خصوصا مع مشاركة العديد من السعوديين في الهجمات وهو ما
دفعها لرفع الحرج عنها. ثانيا: التخلص من نظام إسلامي يزاحمها آنذاك، ولو بشكل بسيط على التمثيل السني في العالم الإسلامي، حيث تريد الرياض احتكار هذا الأمر
لها فقط.
أما بالنسبة
لنظام صدام الحاكم في العراق، فتعتبره الرياض مهددا لها في المنطقة بسبب محاولته احتلال
الرياض إبان حرب الخليج الأولى، وكذلك التخلص من عقد مزاحمة العراق
لها كقوة إقليمية، ومن ثم إخراجه كليا من هذه المعادلة.
النظام
الإسلامي في إيران هو الآخر اعتبر نظامي طالبان وصدام تهديدا وجوديا له؛ لما يشكلانه
من عداوة أيديولوجية وقومية، وكذلك يعتبران عقبة لتصدير ثورته بسبب إحاطتهما جغرافيا
له من الشرق والغرب، وهو ما تمخض لاحقا عن انتشار سريع وكبير للنفوذ الإيراني بعد إسقاطهما
مباشرة، وتحول إيران بعدها إلى لاعب سياسي رئيس
في المنطقة.
نظر البلدان لثالث أكبر حدث في المنطقة عام 2011 على أنه تهديد لهما ولمصالحهما على المتوسط القريب سياسيا، فمن جهة أولى أفرزت هذه الثورات عند اندلاعها قوى جديدة كانت مغيّبة عن الساحة مثل جماعة الإخوان المسلمين، التي لها حضور شعبي واجتماعي قوي في الشارع العربي؛ لذلك سرعان ما ظهرت على السطح، خصوصا في مصر وليبيا واليمن وسوريا وتونس.
الربيع العربي
نظر البلدان
لثالث أكبر حدث في المنطقة عام 2011 على أنه تهديد لهما ولمصالحهما على المتوسط القريب
سياسيا، فمن جهة أولى أفرزت هذه
الثورات عند اندلاعها قوى جديدة كانت مغيّبة عن الساحة
مثل جماعة الإخوان المسلمين، التي لها حضور شعبي واجتماعي قوي في
الشارع العربي؛ لذلك سرعان ما ظهرت على السطح، خصوصا في مصر وليبيا واليمن وسوريا وتونس.
أما من
جهة ثانية؛ فحمّى الديمقراطية -التي صاحبت انتشار الثورات-، تعتبر مهددة لنظامي البلدين
اللذين يحتكران صناعة القرار، بعيدا كل البعد عن المشاركة الشعبية؛ لذلك تدخلت الدولتان
بثقلهما لمنع انتصار الثورات في دول الربيع العربي، خصوصا المؤثرة منها كمصر وسوريا،
حيث تبادلا الأدوار كل على حسب مصالحه وجهوده في إجهاض هذه الثورات.
فبالنسبة
لمصر -اللاعب المؤثر تاريخيا-، كان أي تغيير يمسها إنذارا بتغير موازين القوى في المنطقة،
فنجاح أي تجربة ديمقراطية فيها بعيدا عن حكم العسكر المستمر منذ سبعين عاما، ينذر بتغير
وجه المنطقة كاملا، خصوصا أنها صاحبة الثقل السياسي التاريخي، ومركز توجيه السياسات
في المنطقة منذ زمن بعيد جدا؛ لذلك نجاح التجربة الديمقراطية الوليدة فيها آنذاك، سيدفع
ويحرك الشعوب في باقي الأقطار العربية للاحتذاء بمصر والمطالبة بالديمقراطية.
تبنت السعودية
في بداية الحراك الشعبي المصري موقفا مناهضا واضحا له، حيث جرى على لسان الملك الراحل
عبد الله مطالبة واشنطن بالتدخل ومنع أي تغيير يطال الحكم في القاهرة، متهمة الحراك
بأنه مؤامرة على استقرار المنطقة، ثم ما لبث بعد سقوط مبارك أن دعمت العسكري السابق
أحمد شفيق في الانتخابات المصرية ضد مرشح الإخوان محمد مرسي.
الرياض
اتجهت بعد ذلك إلى مقاطعة حكومة الرئيس الراحل محمد مرسي اقتصاديا بغية إفشاله، وهو
ما تم لها لاحقا من خلال أحداث تموز/يوليو، ثم دعم انقلاب السيسي، والتخلص من الثورة المصرية
الوليدة وكل مخرجاتها السياسية لاحقا.
كان لإيران
مصلحة في التخلص من حكومة الإخوان وكل مخرجات الثورة المصرية، خصوصا الديمقراطية منها؛
لخشيتها من صعود القاهرة مرة أخرى إلى الساحة السياسية في المنطقة وإفشال مشروع تصدير
ثورتها خصوصا في سوريا، كذلك تعتبر جماعة الإخوان ذات
الأيديولوجية السنية الإسلامية منافسا "مكافئا" حقيقيا لها؛ بسبب انتشارها في كثير من
أقطار العالم الإسلامي.
أما بالنسبة
لسوريا -ثاني أهم لاعب سياسي تاريخي في المنطقة بعد مصر-، فاشترك البلدان في وأد ثورتها،
فقد تولت طهران دعم الحكومة السورية عسكريا لسحق الثورة في بداية الأمر، ثم ما إن فشل
الأمر، تدخلت عسكريا عبر أذرعها في العراق ولبنان لمساعدته، ولاحقا استدعت التدخل الروسي
المباشر بموافقة أمريكية وخليجية ضمنية.
لقد كانت
سوريا ولا تزال بالنسبة لطهران ومشروعها أشبه ببيضة القبان، إن صح التعبير؛ فهي حلقة
الوصل الجغرافي بينها وبين حزب الله في لبنان، فإذا سقط النظام فيها تعرض المشروع
الإيراني لخطورة بالغة على المدى المتوسط؛ كون من يحكم سوريا يسيطر على لبنان عمليا،
وكذلك الحال بالنسبة للعراق (ركز النفوذ الإيراني البشري والمادي)"، حيث سيجد السنة المناوئون فيه دعما هائلا في
مواجهة حكومة بغداد الموالية لطهران.
كانت سوريا ولا تزال بالنسبة لطهران ومشروعها أشبه ببيضة القبان، إن صح التعبير؛ فهي حلقة الوصل الجغرافي بينها وبين حزب الله في لبنان، فإذا سقط النظام فيها تعرض المشروع الإيراني لخطورة بالغة على المدى المتوسط؛ كون من يحكم سوريا يسيطر على لبنان عمليا، وكذلك الحال بالنسبة للعراق.
الجهد
السعودي في خضم الثورة في سوريا، بدأ متوازيا ومتوائما مع الاستراتيجية الأمريكية، التي
تركزت على إضعاف سوريا، مع الإبقاء على النظام فيها، فدعمت الرياضُ المعارضة (مرحليا)
عن طريق غرفتي الموم والموك العسكرية؛ فقط لأجل استمرار الحرب فترة من الزمن لتدمير
سوريا، ثم ما إن وصلت المعارضة على أطراف العاصمة دمشق حتى دعمت التدخل الروسي، وتم
وقف الدعم العسكري كليا وإغلاق غرفتي الموم والموك، ثم التفرغ لدعم الأكراد في مواجهة
تنظيم داعش.
لقد اتسمت
الاستراتيجية السعودية الإيرانية في سوريا بالتوازي، ولو بشكل غير مباشر؛ فدعمت طهران
النظام لبقائه عسكريا، يقابلها إفشال الرياض المعارضة عسكريا وسياسيا لتحقيق الغاية
الأهم، وهي حصر الثورات في سوريا فقط بعيدا عنها، التي كانت تتدحرج كحجر الدومينو
من قطر عربي لآخر، بالإضافة إلى إضعاف سوريا دولة وشعبا أمام مصالحها ودورها القيادي
عربيا.
طبيعة العلاقات ومستقبلها
يمكن وصف
طبيعة العلاقات والصراع السعودي الإيراني بأنه صراع مصلحي وقتي وليس أيديولوجيا إقصائيا،
أي إن نظامي البلدين لا يسعيان لإسقاط أحدهما للآخر (حاليا)، وما يهمهما ليس سوى الريادة
السياسية في المنطقة الخاضعة لسطوة الولايات المتحدة الأمريكية؛ صاحبة النفوذ الدولي
الأول في المنطقة وفي العالم أجمع، في نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية.
فالنظامان
يتشابهان من حيث البنية الهرمية الاستبدادية؛ لذلك يشتركان في محاربة أي تغيير ديمقراطي
في المنطقة، كما هو الحال بالنسبة لعلاقتهما مع تركيا (رغم التحسن في العلاقات مؤخرا) الذي يعتبر إقصائيا، حيث تهدف الرياض وطهران إلى إفشال التجربة السياسية الديمقراطية
النموذجية الناجحة في أنقرة، التي أدت إلى نهوض تركيا مرة أخرى كقوة اقتصادية وعسكرية
في المنطقة.
السعودية
وإيران تستفيدان كذلك من صراعهما في تصدير أزماتهما الداخلية، فتهربت الرياض من مطالبة
الأقلية الشيعية بالإصلاح في الشرق إبان الاحتجاجات المصاحبة للربيع العربي ولمنع انتشارها
لبقية مناطق المملكة، واتهمت المحتجين بالولاء لطهران وعززت الحس الطائفي عن طريق وسائل
إعلامها، بالتزامن مع تصاعد الحمّى الطائفية في المنطقة بسبب الصراع في سوريا.
أما طهران، فتتهرب دائما من الاحتجاجات المتصاعدة للأقلية البلوشية السنية في جنوب غرب البلاد،
وذلك باتهامها بالولاء والعمالة للخارج، في إشارة إلى السعودية، وكذلك الحال بالنسبة
إلى الأحوازيين والأكراد، رغم اختلاف توجه الأقليتين المذهبي والأيديولوجي مع السعودية.
حكومتا
البلدين تشتركان كذلك في الخوف من تأثير سقوط أحدهما على الآخر، وذلك لخوفهما من البديل،
فبالنسبة للسعودية، فإن البديل للنظام الإسلامي في طهران سيكون ديمقراطيا علمانيا، وهو
مرفوض من قبلها، كذلك الحال بالنسبة لإيران، فإن البديل للأسرة المالكة في السعودية
إما نظام إسلامي سني عقائدي أو ديمقراطي؛ لذلك الحل في نظرهما هو الحفاظ على تماسك
البنية السياسية الحالية للمنطقة ومنع أي تغيير قد يطالها، مع المحاولة في توسيع نفوذ
أحدهما على الآخر، وهو أمر ناجح الآن بالنسبة لطهران، بانتظار
نسمات ربيع عربي جديد قد يفتح بابا لتغيير سياسي كبير في المنطقة.