محام ومؤلف وبرلماني وسياسي بارز ترك أثرا واضحا في بلاده وفي المنطقة بأكملها.
قاد أول ثورة مدنية في تاريخ الشرق الأوسط، وتحدى سلطة الشاه محمد رضا بهلوي وحلفائه الدوليين محتكري النفط
الإيراني، كما أنه كان أول من قاد فكرة التأميم التي وصلت إلى العالم العربي أيضا.
ينتمي
محمد مصدق، الذي ولد في عام 1882 في محلة سنگلج في طهران، إلى عائلة مرموقة من أصول بختيارية، فوالده عمل جابيا للضرائب في مقاطعة خراسان في عهد القاجار، وأمه حفيدة شاه قاجار فتح علي شاه.
حصل مصدق على البكالوريوس في الفنون ثم الماجستير في القانون الدولي من "معهد الدراسات السياسية" بباريس قبل أن ينال الدكتوراه في القانون من جامعة "نيوشاتيل" في سويسرا، كما درس أيضا في جامعة طهران.
بدأ مصدق حياته السياسية وهو في سن 24 عاما مع الثورة الدستورية، فانتخب عام 1906 نائبا عن أصفهان في البرلمان الجديد الذي سمي مجلس إيران.
وفي عام 1919، رحل إلى سويسرا احتجاجا على المعاهدة مع
بريطانيا، إلا أنه عاد في العام التالي بعد أن تسلم دعوة من رئيس وزراء إيران الجديد للدخول في وزارته وزيرا للعدل.
ثم عين وزيرا للمالية في حكومة أحمد قوام عام 1921، فوزيرا للخارجية في عام 1923، بعدها أصبح حاكما لمقاطعة أذربيجان، ثم أعيد انتخابه في البرلمان عام 1923.
دخلت إيران في عام 1925 في أزمة دستورية بعد أن اقترح أنصار رضا خان في البرلمان إصدار تشريع يحل به حكم سلالة قاجار وتعيين رضا خان شاها جديدا، إلا أن مصدق صوت ضد تلك الخطوة، غير أن المجلس خلع أحمد شاه قاجار، وأعلن رضا شاه على عرش بلاد فارس كأول ملوك الأسرة البهلوية.
وفي عام 1941، أجبر البريطانيون رضا شاه بهلوي على التنحي عن العرش لابنه محمد رضا بهلوي.
وأبعد مصدق عن المشهد السياسي مؤقتا لكنه عاد بقوة بعد إعادة انتخابه في البرلمان حيث تسلم قيادة "الجبهة الوطنية" التي كانت تهدف إلى إرساء الديمقراطية وإنهاء الوجود الأجنبي في إيران، وتأميم النفط الإيراني الذي تسيطر عليه شركة "النفط الأنجلو-إيرانية".
وفي عام 1950، حاول رئيس الوزراء الجنرال حاجی علي رزمارا إقناع النواب ضد التأميم الكامل على أساس أن إيران لا يمكنها تجاوز التزاماتها الدولية، وقلة قدرتها على تشغيل صناعة النفط من تلقاء نفسها، إلا أنه اغتيل بعدها بأربعة أيام أثناء صلاته في المسجد.
كان حزب "توده" الشيوعي قوة ضغط أخرى في مشروع التأميم، ففي أوائل عام 1951 نظم الحزب إضرابات وأعمال شغب في أنحاء البلاد احتجاجا على التأخير في تأميم صناعة النفط بالإضافة إلى انخفاض الأجور وسوء ظروف السكن لعمال النفط.
وعلى هذا الوقع، انتخب البرلمان في عام 1951 مصدق رئيسا للوزراء، وفور استلامه المنصب أدخل مجموعة واسعة من الإصلاحات الاجتماعية، كما قام بتأميم النفط وألغى الامتياز الممنوح لشركة "النفط الأنجلو-إيرانية" وقام بمصادرة أصولها.
سحبت الشركة البريطانية موظفيها وأغلقت منشآتها النفطية، وحذرت أصحاب ناقلات النفط أن "فواتير الحكومة الإيرانية لن تكون مقبولة في السوق العالمية"، وأعلنت الحكومة البريطانية حصارا بحكم الواقع، وعززت قوتها البحرية في الخليج العربي. وعمليا فقد توقف كامل قطاع النفط الإيراني، وفي نفس الوقت ضاعفت شركتا "بي بي" و"أرامكو" إنتاجهما في السعودية والكويت والعراق لتعويض نقص الإنتاج الإيراني.
وأثناء وزارة مصدق الثانية عام 1952، أصر على حق رئيس الوزراء الدستوري في تسمية وزير الحربية ورئيس الأركان، فرفض الشاه ذلك، مما دفع مصدق للاستقالة.
فعين أحمد قوام رئيسا للوزراء فأعلن عزمه على استئناف المفاوضات مع البريطانيين لإنهاء النزاع النفطي مما أدى إلى خروج مظاهرات حاشدة واحتجاجات عنيفة، نتج عنها مقتل أكثر من 250 شخصا.
بعد خمسة أيام من المظاهرات أمر القادة العسكريون جنودهم أن يعودوا إلى ثكناتهم خشية سقوط طهران في أيدي المحتجين مما أجبر الشاه على عزل قوام وإعادة تعيين مصدق مع منحه كامل الصلاحيات بالسيطرة على الجيش.
حاول مصدق من خلال سلطة قانون الطوارئ الممنوحة من قبل البرلمان تعزيز مؤسسات الدولة السياسية عن طريق تقليص صلاحيات الأسرة المالكة، فقطع ميزانية الشاه الشخصية ومنعه من التواصل المباشر مع الدبلوماسيين الأجانب، ونقل إلى الدولة أراضي العائلة المالكة.
لكن إصلاحات مصدق تلك لم تعط نتائج مباشرة فقد ازداد الوضع الداخلي والاقتصادي سوءا بسبب المقاطعة البريطانية، وبدأ ائتلاف مصدق السياسي بالتفكك، وازداد أعداؤه، وبدأت تحركات رجال الدين الشيعة تتسع ضده، والتي قيل إنها كانت بدافع خوفهم من استيلاء الشيوعيين على البلاد.
وفي تلك الفترة كانت بريطانيا منغمسة في مشاكل عديدة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ولم تكن قادرة على حل تلك القضية بمفردها، فاتجهت نحو الولايات المتحدة لمساعدتها، ولم تقدم أمريكا مساعدتها إلا في أواخر 1952 بعد انتخاب دوايت أيزنهاور رئيسا لأمريكا وتحريض رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل بأن حزب "توده" الموالي للسوفييت وحليف مصدق سمح بالمد الشيوعي والنفود السوفييتي في إيران.
في عام 1953 بدأ وزير الخارجية الأمريكي جون فوستر دالاس بتوجيه الأوامر لوكالة "CIA" لتنفيذ خطة للتخلص من مصدق، وصادق على اعتماد مليون دولار لاستخدامه "في إسقاط مصدق بأي شكل من الأشكال".
ووضعت اللمسات الأخيرة للخطة في اجتماع المسؤولين في الاستخبارات الأمريكية والبريطانية، وأنشأت المخابرات الأمريكية شبكة قوية من العلاقات في إيران التي ضمت أكثر من 100 عميل.
وحين وصلت خطة العملية "أجاكس" إلى مرحلة التنفيذ، التجأ الشاه إلى بغداد بصحبة زوجته الملكة ثريا ومرافقه الخاص بطائرته الخاصة، ثم توجه بعدها إلى إيطاليا وقبل أن يغادر وقع قرارين: الأول بعزل مصدق والثاني بتعيين فضل الله زاهدي محله، والذي قام في 19 آب/ أغسطس 1953 بقصف منزل مصدق وسط طهران.
وبدأ تنفيذ خطة المخابرات الغربية بخروج "تظاهرات معادية" لمصدق في وسائل الإعلام الإيرانية والدولية تم تدبيرها من قبل فريق روزفلت، وإطلاق الهتافات الرخيصة التي تحط من هيبة مصدق. كما وقعت اشتباكات في الشوارع وعمليات نهب وحرقت المساجد والصحف وخلفت ما يقرب من 300 قتيل.
وسيطرت العصابات المأجورة (البلطجية) على كل الميادين الرئيسية في طهران، وحرقت المؤسسات الحكومية ومقرات الشرطة، وحررت الضباط
الانقلابيين المقبوض عليهم في المحاولة الأولى للانقلاب على مصدق.
اظهار أخبار متعلقة
وكمحاولة لركوب الموجة، انضم الجيش للأحداث وانتشرت الدبابات بالعاصمة وقصفت مقر الإقامة الرسمي لرئيس الوزراء مصدق، وتمكن مصدق من الفرار من الغوغائيين الذين هاجموا منزله ونهبوه، وفي اليوم التالي اعتقل مصدق في نادي الضباط حيث نقل إلى سجن عسكري.
عاد الشاه من روما، وسرعان ما وصلت حكومة زاهدي الجديدة إلى اتفاق مع شركات نفط أجنبية من أجل استعادة تدفق النفط الإيراني إلى الأسواق العالمية بكميات كبيرة، وإعطاء الولايات المتحدة وبريطانيا حصة الأسد من النفط الإيراني.
وفي المقابل، فإن الولايات المتحدة مولت ودربت الجيش وقوات الشرطة السرية (السافاك) وبقيت كذلك حتى الإطاحة بالشاه في عام 1979.
وحوكم مصدق أمام محكمة صورية وحكم عليه بالإعدام، ثم خفف إلى سجن انفرادي لثلاث سنوات، وبقي مصدق تحت الإقامة الجبرية في مقر إقامته شمالي إيران، وعاش معزولا بقية حياته لا يستطيع أحد زيارته إلا أقرباءه حتى توفي بمرض السرطان عام 1967.
لم يسمح الشاه بجنازة علنية لمصدق ورفض وصيته بدفنه بجوار ضحايا الاشتباكات عام 1951، ودفن بجوار بيته في جنازة صامتة لم يشارك فيها إلا حفنة قليلة من أقاربه.
لكن في عام 1980 وفي الذكرى الأولى لوفاة مصدق بعد الثورة الإيرانية، سافر مليونا إيراني إلى قبر مصدق للإعلان عن تقديرهم للرجل الذي تحدى البريطانيين والأمريكيين وحده، فيما يعرف بـ"28 مُرداد" في التاريخ الإيراني.
كانت حياة مصدق وانقلاب 1953 موضوع عدة أفلام وثائقية أنتجها الغرب، وفي عام 1951 تم تسمية مصدق كشخصية العام على غلاف مجلة "التايم" الأمريكية.
ووفقا لمؤرخين، فقد كانت عملية الإطاحة الأمريكية السرية بمصدق الشرارة الملهمة لقيام الثورة الإيرانية عام 1979.
ووصف منتقدو العملية بأنها عملية تتسم بالاستقواء وأنها غير قانونية وغير أخلاقية، واقترح لاحقا إطلاق اسم "النكسة". وقال عضو الكونغرس رون بول إن تحول إيران لتصبح "ديكتاتورية ثيوقراطية" كان بسبب الانقلاب المدعوم من وكالة المخابرات المركزية في عام 1953.
ولم تعترف الولايات المتحدة بدورها في الإطاحة بمصدق رسميا لسنوات عديدة، وكشف النقاب عنه بعد خلاف دار داخل وكالة الاستخبارات وعرض في جلسات الاستماع في الكونغرس في عام 1970، فيما لم تعترف الحكومة البريطانية بدورها في هذا الانقلاب الذي يبدو أنه قيد ضد مجهول.