لقد
جاء "طوفان الأقصى" برمزيته الدينية وبتداعياته السياسية والحضارية (قضية
المنظومة الكونية لحقوق الإنسان والمؤسسات الدولية المشرفة على تطبيقها) ليمثّل
لحظة مفصلية، لا في تاريخ الصراع ضد الكيان الصهيوني وما يحكمها ومن
"أساطير" تتعلق بقوة "إسرائيل" أو بعلاقة أغلب الأنظمة
العربية والإسلامية بها فحسب، بل أيضا في فهمنا للغايات الحقيقية لمحور الثورات
المضادة (محور التطبيع) وكذلك لرهان إسقاط الربيع العربي وقاطرته الأساسية أو
المستفيد الأكبر منه (الحركات ذات المرجعية الإخوانية).
فالسردية
الأساسية في كل الثورات المضادة كانت تركز على التخويف من "الإخوان"
الذين ارتضوا العمل القانوني والاحتكام للإرادة الشعبية باعتبارهم تهديدا للسلم
الأهلي وللحقوق الفردية والجماعية التي وفرتها الفلسفات الحديثة للدولة-الأمة، مع
التلميح أحيانا والتصريح أخرى إلى علاقة "الإخوان" بالقوى الإمبريالية
بل بـ"الصهيونية". وهي سردية استطاعت النجاح في ضرب انبثاق حقل سياسي
"طبيعي"، وأعادت السلطة إلى ممثلي "المنظومات القديمة" تحت
مسميات مختلفة تراوحت بين "الثورة التصحيحية" (مصر)
و"الإنقاذ" (تونس)، أو جعلت منهم شركاء في إدارة بلد منقسم (ليبيا) أو
أخرجتهم من دائرة السلطة (المغرب).
السؤال الذي يطرحه طوفان الأقصى على العقل السياسي العربي والإسلامي هو سؤال مزدوج. ويتعلق السؤال في جزء منه بإعادة قراءة الرهانات الحقيقية للثورات المضادة باعتبارها في جوهرها -على خلاف ما تدعيه- خدمة للإمبريالية وللصهيونية، سواء أكانت تلك الخدمة مقصودة أم كانت نتيجة تقاطعات موضوعية لم يتدبر أصحابها ما تعنيه في المستوى الإقليمي أو الجيو-استراتيجي
بناءً
على ما تقدم، فإن السؤال الذي يطرحه طوفان الأقصى على العقل السياسي العربي
والإسلامي هو سؤال مزدوج. ويتعلق السؤال في جزء منه بإعادة قراءة الرهانات
الحقيقية للثورات المضادة باعتبارها في جوهرها -على خلاف ما تدعيه- خدمة للإمبريالية
وللصهيونية، سواء أكانت تلك الخدمة مقصودة أم كانت نتيجة تقاطعات موضوعية لم يتدبر
أصحابها ما تعنيه في المستوى الإقليمي أو الجيو-استراتيجي المتجاوز لنصاب
"الدولة الوطنية" (أي المتجاوز للرهانات المحلية و"القضايا
الصغرى" للنخب "الحداثية" في كل دولة على حدة).
أما
الجزء الثاني من السؤال فهو يرتبط ببعد مستقبلي مداره إمكانية أو استحالة بناء
مشروع قومي للتحرير أو لمناهضة الامبريالية والصهيونية مع إقصاء المكون الإسلامي
من "الرهان الديمقراطي" (وهو هنا "المكون الإخواني" الذي
تشيطنه النخب العلمانية العربية بمختلف مرجعياتها الأيديولوجية وتتحالف ضده مع
الوهابية السعودية ومع الإمارات باعتبارهما عرَّابي صفقة القرن من جهة وقاطرتي
الثورات المضادة من جهة أخرى).
ولو
شئنا التعبير عن جزأي السؤال في صياغة واحدة لقلنا: هل يمكن بناء مشروع للتحرير
الوطني أو للديمقراطية أو لمقاومة الصهيونية والإمبريالية دون القبول بالمكون
الإسلامي/ الإخواني ذي القاعدة الشعبية الواسعة، بعد أن رضي هذا الفصيل بالتحول من
موقع البديل إلى موقع الشريك لباقي القوى "الوطنية" (بدءا من
فلسطين
ذاتها)، على خلاف "الوهابية السعودية" بجميع مدارسها
"العلمية" و"الجهادية"؟ وهل يمكن لأي مشروع سياسي يقوم على
إقصاء
الإسلاميين من أن يمنع نفسه من الالتقاء موضوعيا -وأحيانا التنسيق- مع
المشروع الصهيوني في المنطقة العربية والإسلامية؟ بل هل يمكنه أن يجنب نفسه التحول
إلى مجرد "وكيل" للصهاينة كما هو شأن كل الأنظمة التي تؤسس شرعيتها على
محاربة الإخوان أو التحريض على تصنيفهم "حركة إرهابية"؛ بدعوى مقاومة التطرف
والإرهاب (وهي الحجة التي أسقط بها العسكر المصري المطبع مع الكيان أول تجربة
ديمقراطية في البلاد، وهي كذلك الحجة ذاتها التي يستعملها الصهاينة وحلفاؤهم في
توصيف
المقاومة الإسلامية الإخوانية في غزة)؟
في
تونس وفي غيرها من الدول العربية، نجحت الثورات المضادة في التغطية على الرهانات
الحقيقية بإفشال الانتقال الديمقراطي وذلك بإظهار صراعاتها ضد
"الإخوان" صراعا ضد التطرف والإرهاب، وليس صراعا ضد انبثاق حقل سياسي
"طبيعي" يقوم على الشراكة بين الإسلاميين والعلمانيين. لقد حرص القائمون
على الثورات المضادة على إظهار أنفسهم منقذين للشعوب، بل للديمقراطية ذاتها،
والحال أنهم لم يكونوا إلا مجرد بيادق في خدمة المشاريع الانقلابية المرتبطة
بمنظومات الاستعمار/ الاستحمار الداخلي وحلفائها الإقليميين والدوليين.
ورغم
وجود أدلة قاطعة على وجود أياد خارجية (أموال/ استخبارات) تتلاعب بالوضع العام
وتدفع به نحو اتجاهات معينة، فإن الأذرع الإعلامية للمنظومات القديمة حرصت على
تهميش هذا المعطى وتتفيه الخطابات المشيرة إليه وشيطنتها.
حسب
سرديات "الإنقاذ" و"التصحيح" المهيمنة على الثورات المضادة،
لا يكمن "الشر" في "الوهابية" التي ترتبط بالمخابرات السعودية
والغربية "الحليفة"، فضلا عن أنها لا تطرح نفسها شريكا للنخب العلمانية
في المشروع الديمقراطي. كما لا يوجد شر جوهري -حسب تلك السرديات- في منظومات
الاستعمار الداخلي ولا في "محور الثورات المضادة" رغم أنه هو ذاته
"محور التطبيع".
رغم مسارعة أغلب النخب الانقلابية في تونس إلى المساندة الخطابية لطوفان الأقصى، فإن الطوفان قد وضعها في مأزق سياسي وأيديولوجي كبير. فالمقاومة التي كسرت أساطير الكيان هي في جوهرها مقاومة "إخوانية" خالصة بقيادة حركَتي حماس والجهاد الإسلامي. ولا شك في أن هذا الوضع سيضع "الانقلابيين" أمام مفارقة يصعب إيجاد المخرج منها دون حدوث "أضرار جانبية"
إن
الشر المطلق هو في "الإخوان" بحكم قاعدتهم الشعبية الواسعة، تلك القاعدة
التي دفعت بهم إلى السلطة بعد "الربيع العربي" على كُره من النخب
"الديمقراطية"، مما جعلها تمثل تهديدا وجوديا لمصالح "النخب
الوظيفية" ماديا ورمزيا في المستوى المحلي، وتهديدا وجوديا للنظام العالمي
المتصهين في المستوى الإقليمي.
ولكنّ
السماح بالربط بين هذين الخطرين الوجوديين في الوعي الجمعي للتونسيين أو لغيرهم من
العرب كان يعني تهاوي مشاريع الانقلاب و"التطبيع"، كما كان يعني فقدان
النخب "الوظيفية" الدائرة في فلك المنظومات القديمة لشرعيتها
ولامتيازاتها. وهو ما حرصت النخب "العلمانية" على منعه بطريقتين: أولا، تضخيم
خطر "الإخوان" باعتماد مقاربة هوياتية ثقافوية للصراع (حرف الصراع عن
مداره الاقتصادي والاجتماعي)، ثانيا، حجب الرهانات الدولية والإقليمية للثورات
العربية والتغطية على علاقات "محور الثورات المضادة" بمشروع صفقة القرن
والتطبيع، بحيث يبدو وكأن السعودية والإمارات وغيرهما من بلدان "محور الثورات
المضادة" معنية حقا بملف الديمقراطية أو مساندة لمشاريع التحرير الوطني أو
مناهضة للإمبريالية والصهيونية.
رغم
مسارعة أغلب النخب الانقلابية في تونس إلى المساندة الخطابية لطوفان الأقصى، فإن
الطوفان قد وضعها في مأزق سياسي وأيديولوجي كبير. فالمقاومة التي كسرت أساطير
الكيان هي في جوهرها مقاومة "إخوانية" خالصة بقيادة حركَتي حماس والجهاد
الإسلامي. ولا شك في أن هذا الوضع سيضع "الانقلابيين" أمام مفارقة يصعب
إيجاد المخرج منها دون حدوث "أضرار جانبية" في أفضل الحالات.
فعلاقة
"الديمقراطيين" في تونس مع "الإخوان" بصفة عامة (أي مع حركة
النهضة أو حتى مع إخوان مصر وليبيا أو فلسطين ذاتها) هي علاقة عدائية يحكمها منطق
"التناقض الرئيس" ويمثّله الإخوان أو الرجعية الدينية، و"التناقض
الثانوي" الذي تمثله البرجوازيات اللا وطنية الحاكمة، كما يحكم تلك العلاقة
منطق "الاستئصال الصلب" (تحويل "الإخوان" إلى ملف أمني قضائي
وحرمانهم من العمل السياسي القانوني) ومنطق "الاستئصال اللّين" (إخراج
"الإخوان" من الحكم وتهميشهم سياسيا دون إقصائهم والدفع بهم إلى العمل
السياسي السري). ومن الواضح أن هذا العقل السياسي لا يمكن أن يتماهى مع
"حماس" أو الجهاد، أو يعتبر "الإخوان" شريكا في الوطن أو في
تشكيل الفضاء العام.
يطرح طوفان الأقصى العديد من الإشكالات والإحراجات على منطق "التناقض الرئيس والتناقض الثانوي" المسنود بـ"منطق الاستئصال" (في صيغتيه الناعمة والصلبة). ولكن يبدو أنّ الطوفان الميداني لم يؤثر على المياه الراكدة في العقل السياسي "العلماني" في تونس وغيرها، فنحن لا نرى أي مؤشرات على وجود نية لمراجعة المفاهيم التوليدية للعقل السياسي المُعلمن بمختلف مدارسه الليبرالية واليسارية (الماركسية والقومية)
يطرح
طوفان الأقصى العديد من الإشكالات والإحراجات على منطق "التناقض الرئيس
والتناقض الثانوي" المسنود بـ"منطق الاستئصال" (في صيغتيه الناعمة
والصلبة). ولكن يبدو أنّ الطوفان الميداني لم يؤثر على المياه الراكدة في العقل
السياسي "العلماني" في تونس وغيرها، فنحن لا نرى أي مؤشرات على وجود نية
لمراجعة المفاهيم التوليدية للعقل السياسي المُعلمن بمختلف مدارسه الليبرالية
واليسارية (الماركسية والقومية). ومصداق ذلك أننا لم نجد إلى حدود كتابة هذا
المقال رمزا من رموز "العلمانية" ومعاداة الإخوان قدم نقدا ذاتيا أو دعا
إلى مراجعة تحالفاته الإقليمية والدولية، أو اعتبر أن التناقض الرئيس هو مع
الصهيونية والغرب وليس مع الإخوان، أو أقرّ باستحالة بناء مشروع التحرير الوطني
للتحرير أو تأسيس ديمقراطية "طبيعية" بإقصاء المكون الإسلامي. كما لا
نجد أي رمز "حداثي" أقرّ بأن مشروع الثورات المضادة هو أحد وجهي العملة
في مشروع التطبيع وصفقة القرن، فأقصى ما يفعله "الديمقراطيون" في تونس
هو احتلال المنابر الإعلامية لمناصرة مقاومة هم أعدى أعداء مرجعيتها
"الإخوانية".
إذا
كان طوفان الأقصى قد أكّد الطبيعة "الوظيفية" لأغلب الأنظمة العربية في
خدمة المشروع الصهيوني، فإنه قد أكّد أيضا عجز النخب "الحداثية" بمختلف
مدارسها الفكرية عن قراءة هذا الحدث قراءةً تأسيسية، أي قراءةً تؤسس لعقل سياسي
جديد سواء في علاقته بمفاهيم "الحداثة الغربية" (خاصة اللائكية
الفرنسية) أو في علاقته بشركائه في الوطن والمصير من خلال الانفتاح على المدارس ما
بعد الاستعمارية أو لاهوت التحرير وغيرهما من السرديات التي حاول الانعتاق من
العقل الغربي ومشاريعه الاستعمارية الجديدة.
ولذلك،
فإن محصول القول في تأثيرات طوفان الأقصى على العقل السياسي "اللائكي"
التونسي هو أنها ظلت في مستوى السطح وخضعت لتلاعبات واعية وغير واعية؛ هدفها
الدفاع عن السرديات التقليدية دون خسارة الرأي العام المتعاطف مع المقاومة. فتلك
التأثيرات لم تبلغ عمق السرديات "الانقلابية" ولم تجعلها تتساءل عن
دورها الحقيقي في مشاريع التطبيع وتأبيد وضعية الاستبداد والتبعية والتخلف، ولا
التساؤل أيضا عن دورها في التمهيد للوضعية التاريخية الحالية التي تضع
"المقاومة" في مواجهة "طوق عربي" متصهين؛ هو في أغلبه حليفٌ
استراتيجي للقوى "الديمقراطية" وللقوى التي تدعي مناهضة التطبيع في
تونس.
twitter.com/adel_arabi21