وصلتني
رسالة (لا يريد المحامي ذكر اسمه كي لا يتضرر صاحبها) من خلف جدران المسالخ
الإسرائيلية،
هذه التي كانت تسمّى سجونا إسرائيلية أو زنازين أو باستيلات أو معتقلات، فاليوم
أصبح المسمّى بكل جدارة واستحقاق المسالخ الإسرائيلية، وقد تجاوزت بذلك سجونا سيئة
الصيت والسمعة مثل أبو غريب وجوانتانامو الأمريكي..
السجون
الإسرائيلية صارت مسالخ سرية للغاية؛ تمارَس فيها كلّ أشكال الوحشية والسادية
ويتفنّن السجانون في كل أشكال الإهانة والتعذيب..
لنقرأ
الرسالة كما وردت:
"الأهل
الأعزاء أنا مشتاق لكم جدا ومحتاج لدعائكم كثيرا.
لقد
تم اعتقالي كما تعلمون قبل خمسين يوما، حينها تم تقييدي من الرجلين واليدين وتعصيب
العينين، وتم ضربي ضربا مبرحا في اليوم الأول، عدا عن الشتم والإهانات بكلمات لم
أسمع بها في حياتي من قبل، عدا عن الإهانة والتحقير بطرق تشعرك أنهم لا يرونك تعدل
حشرة أو بعوضة. كنت أشعر بأن حقد العالم كلّه قد تجسّد فيهم وأرادوا أن يذيقونا
شرّه دفعة واحدة وبلا حدود.
وفي
اليوم السادس والسادس عشر تم أخذي للمخابرات، أيضا تم ضربي وإهانتي بشكل كبير،
تفنّنوا فينا بتجليات سادية يصعب وصفها، ولست أنا وحدي وإنما كل الأسرى. كانت أياما
لا أتمنّاها لا لصديق ولا لعدوّ، لم أتخيّل أبدا أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه من
شرّ مطلق رغم أنّي عانيت من شرّهم خمس عشرة سنة في سجونهم، أُخضعت فيها للتحقيق
مرات عديدة وقُمعت كثيرا وتعرضت للتنكيل أكثر من مرّة، لكن في هذه المرّة لا أعتبر
ما مرّ عليّ سابقا عُشر ما رأيته في هذه الخمسين يوما.
أمّا الظروف
التي أعيش بها الآن فأنا أتواجد في غرفة فيها عشرة شباب ينام قسم منا على الأرض. أمّا
عن اللباس: فمنذ اليوم الأول لم ألبس إلا ملابس الإدارة، القميص والبنطال، رغم
دخول فصل الشتاء وشدّة البرد، نوافذ مفتوحة والنصف العلوي من الباب مفتوح، لقد
نصلت أجسادنا من البرد وأغلبنا أصبح يعاني من آلام في الصدر والمعدة ومن كان مريضا
تفاقم مرضه ولا علاج أبدا. لم أحلق ذقني أو شعري وإن أردتم أن تتخيلوا منظري
فانظروا في صورة الإنسان في العصر الحجري.
أما
الأكل فهو قليل جدا ومنذ خمسين يوما نعاني من جوع على مدار الأربع والعشرين ساعة،
تحسّن قليلا قبل أيام ليصبح مخصص الفرد يوميا أربع شرائح خبز وصحن رز صغير وبيضة
وملعقة لبنة. أنا منذ 32 يوما صائم ومعي مجموعة كذلك نصوم كي نوفّر للشباب الصغار
ما يقيم أودهم.
بالنسبة
للخروج للساحة نخرج إليها عشر دقائق إلى ربع ساعة وهي لا تكفي للحمام، حيث أنه
خارج الغرف في الفورة وهي ستة حمامات لمائة وعشرين معتقلا.
تم
منعنا من الصلاة. نتعرّض للتفتيشات والاقتحامات بصورة متكررة وفيها ما فيها من
توجيه الإهانات والضرب لأتفه الأسباب أو دون أن يكون سبب لذلك أبدا لأن المعتقلين
حريصون جدا على ضبط النفس وعدم إعطائهم أيّ مبرر. وحقيقة أوضاعنا صعبة للغاية
والأسرى كلهم صابرون ينتظرون الحرية في الصفقات القادمة" (انتهت الرسالة).
لا
بدّ من الملاحظة أن هذه الرسالة موجّهة من المعتقل إلى أهله وفي هذه الحالة يجري
التخفيف كي يقلّل من القلق والتوتّر الذي يعاني منه أهل الأسير.
أولا:
ما الهدف من هذا التنكيل؟
للعلم،
الشاهد مجموع حبساته سابقا 15 سنة، لم ير فيها مثل هذا
التعذيب، مرّ بتحقيق عسكري
وفي فترات متعدّدة، خاض تجربة التحقيق ومرّ عليه عشرات المحقّقين الذين عذّبوه بكثير
من صنوف التعذيب النفسي والجسدي، لكنه لم يمرّ بمثل ما مرّ به هذه الأيام كما ذكر
في شهادته. كان الهدف سابقا للحصول على الاعتراف بينما اليوم الهدف هو إشباع شهوة
الانتقام لديهم، التعذيب من أجل التعذيب، أصبح التعذيب بحدّ ذاته هدفا ولم يعد
وسيلة لتحقيق مآرب معيّنة.
ثانيا:
من المسؤول ومن صانع القرار لهذه الساديّة؟
هل هو
انفلات من قِبل ضباط معينين أم تصرفات فردية أو ردّة فعل أو حميّة أخذتهم فيها
العزّة بالإثم؟ ليس كلّ هذا، وإنما هو بكل تأكيد قرار اتخذه ما يسمّى وزير الأمن
الداخلي بن غفير بتفويض كامل من أعلى مستويات اتخاذ القرار عندهم. وقد صرّح سابقا
بنيّته تطبيق حكم الإعدام وبأن الأسرى يعيشون في فنادق خمس نجوم وما إلى ذلك،
كاشفا نيّته في سحق المعتقلات والمعتقلين، ثم جاءته أحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر
ليعلّق على شمّاعتها ما كان ينويه من قبل وليُخرج أنيابه ويعمل ما يشاء في السجون.
ويضاف
إلى هذا خطاب الكراهية والعنصرية التي انتهجتها الحكومة الإسرائيلية وإعلامها،
وقوّة التحريض العالية على ممارسة القتل والإجرام، وفرق القمع التي تدير السجون
جاهزة لتحويل هذا الخطاب العنصري إلى تطبيقات عملية تمارسها في السجون وتحوّلها
إلى هولوكوست كما يمارس الجيش القتل والتدمير في هولوكوست غزّة.
ثالثا:
هذه القرارات التي بموجبها تحوّلت السجون إلى جحيم أو هولوكوست تكشف بكلّ وضوح
الطبيعة العنصرية المقيتة التي تتمتع بها هذه الحكومة الإسرائيلية بكلّ جدارة، وهي
تأتي بذلك ترجمة عملية للمقولات التي تؤكد أنهم ينظرون لأنفسهم بأنهم صنف من البشر
أعلى جينيّا وأن
الفلسطيني يبدو لهم بأنه مجرّد حشرة أو أفعي سامّة، وبالتالي
يشرعنون التعذيب، ولو نظروا للفلسطينيين على أنهم بشر لما أجازوا لأنفسهم مثل هذا
الصنيع.
رابعا:
ما هو المطلوب منا؟
لا
يمكن أن نبقى على ذات الوتيرة في التعامل مع قضيّة الأسرى كما كنّا قبل السابع من
تشرين الأول/ أكتوبر، هم غيّروا قواعد اللعبة 100 في المائة وبالتالي علينا أن
نفكّر خارج الصندوق الذي عفى عليه الزمن وأن نبتكر طرقا ووسائل لا أدّعي في هذا
المقال أنّي أمتلكها، ولكن لا بدّ من القوى الفاعلة والمهتمّة بشأن الأسرى
فلسطينيّا أن تخرج عن النمط القديم وذلك على صعيدين: الأوّل، مقاومة الاعتقال وأن
لا يبقى الفلسطينيّ لقمة سائغة بين يدي المحتلّ، والثاني العمل على تحرير أسرانا
ومتابعة مأساتهم بإبداعات جديدة في معركة الوعي أولا (محليّا وعالميّا) ومعركة
استرجاع حقوقهم القانونية ثانيا، وكذلك متابعة ملفّات شهداء الحركة الأسيرة بصورة
جديّة وفاعلة في المحاكم الدوليّة.