رغم اقترابنا من نهاية الشهر الثالث للحرب على
غزة المحتلة إلا أن جيش
الاحتلال
المسلح بأحدث الأسلحة والعتاد والمدعوم بجيوش ست دول عظمى من حيث القوة العسكرية
والاستخبارات الدقيقة؛ لم يستطيع التجرؤ وإعلان انتصاره، بل على العكس من ذلك
فالكل في معسكر الكيان الصهيوني أو داعميه لا يزالون يبحثون عن الكلمات والعبارات
المناسبة التي يمكنها أن تلخص حالة الهزيمة دون جرح كبرياء الكيان لأنهم يدركون أن
إعلان هزيمته ستصب في صالح
المقاومة وفي صالح الشعوب المؤيدة للمقاومة والمعادية
للكيان الصهيوني وكل الدول التي تؤيده.
ورغم استمرار العدوان إلا أن المقاومة تواصل صمودها وتقدم
للشعوب العربية، عوامها ونخبها كبيرها وصغيرها ساستها ومثقفيها، دروسا بالغة الأهمية
استعرضنا جزءا منها في المقال السابق والذي تناولت فيه يجب أن أتعلمه بشكل شخصي،
وهو نذر يسير من خير كثير يجب أن نتعلمه من المقاومة في
فلسطين.
اليوم أضع بين أيديكم بعضا مما يجب أن نتعلمه وتتعلمه
الأمة من المقاومة وهي تواصل مقاومتها على مدار ثلاثة أشهر:
1-
التخطيط الدقيق وخصوصا ما جرى في يوم السابع من تشرين
الأول/ أكتوبر 2023، يوم انطلاق طوفان الأقصى. فلا نزال نشاهد بعض الفيديوهات التي
تبثها المقاومة حتى يوم أمس عن مشاهد الطوفان التي لن تنساها الأجيال، ومن الواضح
أن هناك دقة في التخطيط أعجزت العدو عن التفكير وأصابته بشلل تام لدرجة أنه وفق
أحدث التقارير توفرت لديه معلومات قبيل الطوفان ولكنه عجز عن الحركة فلم يكن الأمر
مجرد سرية المعلومات ولا مفاجئة التحرك، ولكن قوة التحرك الذي أربك العدو رغم
استعداداته وإمكاناته العسكرية الهائلة. وحين تحرك العدو متأخرا أصاب نفسه بنفسه
وقتل جنوده وبني جلدته واعترف قادته بذلك.
وأنا هنا أتحدث عن طوفان الأقصى واليوم الأول وما تلاه
من أيام قليلة جعلت العدو يبدو ضعيفا هزيلا يستجدي الدعم ويتسول العون من أمريكا
والغرب، مدعيا أن المقاومة قامت باغتصاب النساء وقتل الأطفال، وورط معه رئيس أكبر
دولة في العالم لترويج أخبار اضطر للتراجع عنها بسبب عدم مصداقيتها وعدم وجود أدلة
على صحتها.
2- يمكننا أن نتعلم أن التخطيط السليم هو الطريق نحو تحقيق الهدف
الذي تسعى إليه، ومن المهم أن تعرف أن الهدف يجب أن يكون واقعيا وواضحا ومحددا
بوقت ومناسبا للإمكانات المتوفرة ومتفق عليه من الجميع (أي جميع القوى المقاومة).
3- تحديد الهدف ووضوحه، وهنا أتحدث عن الهدف الأساسي
للمقاومة والذي يختلف عن هدف الجيوش النظامية، فهدف المقاومة هو إيلام العدو وإرهاقه
واستنزاف قدراته ودفعه دفعا إلى التفكير مرات ومرات في الانسحاب وترك الأرض احتلها،
سواء بالبحث عن وسطاء لإخراجه من المستنقع أو بالانسحاب من جانب واحد، وكلما زادت
آلام العدو وارتفع صوته بالصراخ كلما اقتربت المقاومة من هدفها. وقد قدمت المقاومة
نموذجا هائلا في تحديد الهدف وصياغته بطريقة متميزة وفق القدرات المتاحة لديها.
4- ويمكننا أن نحقق أهدافنا بدقة وإن كانت بسيطة وصغيرة،
لكن المهم هو تحقيق الهدف ولا مانع من وجود رؤية كبيرة وعظيمة وأهداف أكبر، ولكن
المهم هو أن تبدأ بنجاحات صغيرة كما فعلت المقاومة في عصرها الحديث.
5- الأحجام والأوزان، فليس كل صغير ضعيف وليس كل كبير
قوي، هذه المقولة هي أحد أهم ما يجب أن نتعلمه من المقاومة المحاصرة التي تواجه
جيش العدو وداعميه وحصار الأصدقاء وصمت الأشقاء وتآمر المتصهينين، ورغم قلة عتادها
وعدتها كما يبدو للجميع إلا أنها قررت أن تثبت أن العدو المتضخم ما هو إلا بالونة ضخمة
يمكن تفريغها وتفجيرها في جو السماء بمجرد غرس دبوس فيها وهو ما كان. لقد قدمت
المقاومة درسا في فن اختيار ما يؤلم العدو وما يمسح بكرامته الأرض، أو على حد
تعبير القيادي يحيى السنوار "تهشيم العدو"، أو على حد تعبير رئيس
الاستخبارات السعودية الأسبق تركي الفيصل "تحطيم الصورة التي كانت لدى كثير
من العالم أن إسرائيل هي المانع المنيع ضد أي قوة ممكن أن تنافسها".
لقد أثبتت المقاومة فعليا أن الرغبة والإرادة وإن قلت
الإمكانات مع إمكانات العدو يمكنها أن تصنع المستحيل، وتُحدث الفارق الذي قد يقود
يوما ما إلى تحقيق النصر الكامل.
6- التسجيل والتوثيق، فالإعلام هو سلاح العصر وكلمة السر في إحداث
التغيير وقلب الموازين، وهو السلاح الذي تخلت عنه الأمة العربية وتركت الساحة
للصهاينة ليتم تغيير ثقافة الأمة وتزييف وتزوير تاريخها، خصوصا ما يتعلق بالجهاد
والمقاومة والذود عن الحقوق والحدود وصيانة المكتسبات التي حققها أسلافنا على مر
العصور.
7- تقدم لنا المقاومة دروسا وحصصا تثقيفية ومادة توثيقية
لما يجري في ميدان المعارك تشبه ما يقوم به مدراء المشاريع من تسجيل وتوثيق لكل
مرحلة من مراحل الإنجاز في المشروع من أول يوم حتى آخر يوم، وهذا التوثيق هو ثروة
حقيقية لكل الأجيال، وهو إثبات وحجة على الجميع بأن المقاومة بإمكاناتها المحدودة
استطاعت ونجحت فما بال أقوام لديهم ما يفوق المقاومة من مال وثروة وعتاد وسلاح
وتدريبات ومناورات تبدو عاجزة غير قادرة على رد العدوان أو حتى الحفاظ على أرضها
وثرواتها.
8- يمكننا أن نتعلم من المقاومة أن تسجيل الأحدث وتوثيقها والتعامل
السريع بالنشر والتفاعل مع كل حدث أولا بأول هو أحد أهم الأسلحة لحفظ وعي افرد
والأمة وحمايته من التزييف والتجريف.
9- التطوير والتحسين، فالناظر البصير لتاريخ الانتفاضة
الفلسطينية الحديث منذ الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي انطلقت في 8 أيلول/ سبتمبر
1987 من القرن الماضي سيدرك سر كلمة التطوير وأهميتها في حياة الفرد والمجتمع
والأمة بأسرها. لقد انطلقت انتفاضة الحجارة، وكنا نشاهد كيف يتسابق الصبية في قذف
الحصى في وجه جنود الاحتلال المختبئين خلف العربات المدرعة والمصفحة وكان المرء
يتعجب من جدوى هذه الحجارة وماذا عساها أن تفعل، ثم يزداد تعجب المرء حين يرى إصرار
الأطفال والكبار على ممارسة نفس الفعل في المواسم والتوقيتات الوطنية مثل يوم
الأرض، ومع قسوة الاحتلال زادت شفقة المرء على إخوتنا وأهلنا، وكان المرء يسأل
نفسه: لماذا يصر هؤلاء على ممارسة هذا الفعل رغم أنه قد يبدو بلا جدوى؟
ولكن الحقيقة أن انتفاضة الحجارة كانت ميدان التدريب
والتأهيل لحفظ الحقوق في عقول وقلوب هؤلاء الفتية الذين استطاعوا لاحقا أن يكونوا
شبابا يقود انتفاضة الأقصى؛ مع تطوير أدوات المقاومة التي تطورت حتى امتلك الصواريخ
محلية الصنع والتي سخر منها بعض الساسة وبعض المشايخ وكثير من المحبطين من
المثقفين وسألوا ذات نفس السؤال: وماذا عساها أن تفعل هذه الصواريخ التي قيل عنها
ساعتها أنها عبثية؟ ومرت الأيام والسنون سريعة لنجد أن تطوير الصواريخ كان خطة فرضها
الواقع مع تطوير قدرات الشباب في مجال جمع المعلومات وتحليل الأوضاع بطريقة توظف
السلاح المتوفر بكفاءة عالية ونتائج مذهلة للجميع، العدو والصديق.
والدرس الذي يجب علينا أن نتعمله أن الجمود تراجع وتخلف،
وأن التطوير والتحسين تقدم ولو كان بطيئا أو تدريجيا، وأنه يتعين على المرء في
مجال عمله أن يكون له وِرد سنوي أو نصف سنوي اسمه تطوير الذات وتطوير الإمكانات
المتاحة، حتى يتمكن المرء من مواكبة العصر والتغلب على التحديات التي يواجهها
وتواجهه.
وإن شاء نكمل في مقالات مقبلة الدروس التي يجب أن
نتعلمها من المقاومة في فلسطين المحتلة.