إذا كان الزمان غير
الزمان، فالإنسان هو الإنسان وفريضة الدفاع عن النفس والأرض والعرض لا تسقط عنه
إلى يوم الدين. وسنة التدافع بين الناس والحضارات والقيم، تجعل دوام
الحال من المحال، ولو دامت للأولين لما دانت للآخرين! وإن الكيل بمكيالين في
حقوق الإنسان من القائمين على مجلس الأمن المخيف، هو سبب كل الخلل في المعايير
والموازين وهذا الدمار المبين.
وفي
تاريخ الحروب والثورات
التحريرية العظمى، دروس للمعتبرين، وإن الذكرى قد تنفع حتى البغاة والعصاة
والطغاة، فضلا عن المؤمنين!!
وبمناسبة إحياء
الجزائر للذكرى التاسعة والستين لثورة القرن العشرين دون منازع في الفاتح من تشرين الثاني (نوفمبر 1954)، وربطا
بما تصادفه إحياء هذه الذكرى من أحداث جسام جارية في الساحة والساعة الدولية، عرفنا
إرهاصات بدايتها ولا نعرف نهايتها بعد، نود أن نذكر المعتبرين بدروس التاريخ الحي، الذي عشناه في هذه
الثورة لحما ودما وجهادا و"استشهادا"، لما يزيد عن
السبع سنين، مماثلة لما يراه العالم على المباشر يوميا من أهوال الحرب غير المتكافئة بين الحق والباطل، في معركة
الأحزاب الثانية في فلسطين الحالية، والتاريخ بيننا يبقى دائما الشاهد الأمين على
المحسنين والمسيئين، والظلمة والمجرمين، وأصحاب الحق المغتصب الذي لا يسترجع إلا
غلابا وافتكاكا باليمين، وتلك هي سنة الله في الأولين والآخرين.
تأتي ذكرى هذا العام مشحونة بكثير من الآلام المبرحة والآمال العريضة
في الوقت ذاته، وهي تصادف قمة الثورة الجهادية الوريثة الشرعية لها في معركة الأقصى
بشقيقتها الصغرى فلسطين.
لقد عايشت تلك الثورة
الجهادية كابن شهيد ومجاهد في صفوف جيش تحريرها، حتى توقيف القتال وتقرير المصير
والاستقلال. وكنت شاهدا على كثير من مجرياتها المفرحة والمقرحة بورودها وأشواكها؛
بأفراحها بانتصاراتها وأقراحها بالإحباطات والتقلبات والخيانات، التي اعترضت
مسيرتها الطويلة إلى النصر المبين!
ومن مميزاتها أن يوم انتصارها وتحقيق الاستقلال سنة 1962، كان هو يوم
ذكرى الغزو والاحتلال سنة 1830، مما يعني أن كل استقلال قد يحمل بذور احتلال، كما أن
كل احتلال يحمل بذور استقلال؛ إذا بقي عزم الرجال كما كان واقع الحال.
وإدراكا مني بما للثورة الجزائية من أوجه شبه وتطابق أحيانا مع ما
يجري في فلسطين هذه الأيام، إلى درجة التوأمة (السيام) بين الثورتين، وخاصة من
جهة نوعية الاستيطان وفصيلة المستوطنين أنفسهم خلفا عن
سلف، والدليل على ذلك هي آلاف القوافل من شهداء المغرب العربي الكبير المدفونين في القدس الشريف على مر
التاريخ الإسلامي للأمة، عندما كانت أمة
حرة حتى تحت الاحتلال الأجنبي الخارجي
(الأرحم مع الأسف من الاستحلال الداخلي الراهن!!!!)، حيث ذهب أكثر من 4000 مجاهد سنة 1948، ودخلوا من أرض الكنانة سابقا لنجدة الأشقاء في الأرض المباركة، التي لم تتغير
في وجدان كل مسلم من المحكومين لاحقا في أمة المليارين من أصحاب العين البصيرة
واليد القصيرة، على امتداد سماع الآذان وتلاوة القرآن من جاكارتا إلى داكار ونواكشوط والرباط وتطوان، مرورا بقسنطينة ووهران!؟!
وإني لهذا السبب وغيره أعيد نشر بعض فصول كتابي (جهاد الجزائر: حقائق
التاريخ ومغالطات الجغرافيا)، هنا في صحيفة "عربي21"، وهو صورة حية عن
جوانب مشرقة من ثورة القرن العشرين التي جسدت أمجاد الحرية والكرامة، تماما كما هو
حال غزة وفلسطين هذه الأيام؛ لما بين الثورتين من تطابق وتشابه كما قلنا وعشنا في الثورة الأولى، مقارنة
بما نراه على المباشر في الثورة
الفلسطينية العظيمة الثانية، التي اختصرت أمة المليارين (من غثاء
السيل) في المليونين من أبناء الشعب الفلسطيني في غزة والقدس وجنين.
وإنني أدرك تمام الإدراك الصلة الوثيقة بينهما في حجم التضحيات
ومعارك التحرير، التي يخوضها الأشقاء الفلسطينيون هناك (كما كان أشقاؤهم هنا لأكثر من سبع سنين دون
انقطاع)، في مواجهة أعتى احتلال وأشده شراسة، لا سيما وأنه احتلال
يلتف حوله قادة العالم الغربي الاستعماري كله، ويدعمونه انتقاما من عدوهم اللدود على هزائمهم السابقة وإحياء
لخلافات وأحقاد تاريخية دفينة.
كنا
نعتقد، وإن بعض الظن ليس إثما، أن ثورات الحرية والكرامة والسيادة
والاستقلال التي عرفتها مختلف أنحاء المعمورة، قد تجاوزتها الوحوش البشرية المسلحة
بالنووي والحقد الأعمى في معاداة حقوق الإنسان الفلسطيني خارج حقوق الإنسان،
التي يحميها حق الفيتو الظالم أمام كل أنظار العالم الأعور الأصم الواجم.
إن
الإسلام والاستعمار ضدان لا يلتقيان في مبدأ ولا في غاية، فالإسلام دين الحرية
والتحرير، والاستعمار دين العبودية والاستعباد، والإسلام شرع الرحمة والرفق، وأمر
بالعدل والإحسان، والاستعمار قِوامه على الشدة والقسوة والطغيان، والإسلام يدعو
إلى السلام والاستقرار، والاستعمار يدعو إلى الحرب والتقتيل والتدمير والاضطراب،
والإسلام يثبت الأديان السماوية ويحميها ويقرّ ما فيها من خير ويحترم أنبياءها
وكتبها، بل يجعل الإيمان بتلك الكتب وأولئك الرسل قاعدة من قواعده وأصلا من أصوله،
والاستعمار يكفر بكل ذلك، ويعمل على هدمه خصوصا الإسلام ونبيه وقرآنه ومعتنقيه.
وهذا
المكيال العجيب الغريب بين إنسانين، لا يثير القلق فقط حول مصير البشرية في
هذا العالم (وحيد القرن)، وإنما يعيد السؤال أيضا وبإلحاح عما إذا كان للمعارك
الحضارية الكبرى التي سعت لتوحيد البشرية على أساس العدل والمساواة، تتراجع إلى ما
تحت الصفر كما نراها في مجازر المغول الجدد بالصوت والصورة في غزة العزة
والإنسانية، التي تحتضر في مستشفياتها المنكوبة كلها اليوم والمقطوعة
عن الحياة أمام أعين دعاة حقوق الإنسان (الحجري)، وليس الإنسان البشري
المتحضر المتعلم والمتقدم"!!
وما يفيد في هذه الصفحات من ثورة الجزائر (فلسطين الأولى) الأشقاء في الجزائر الثانية (فلسطين الحالية)، سأسرده ليس من باب تقديم الدروس، وإنما من باب قراءة التاريخ
والاتعاظ به وأخذ العبرة منه.
بقدر ما كانت الثورة الجزائرية عظيمة في أهدافها، وواسعة في نطاقها
ومتنوعة في وسائلها، ومعقدة في عناصرها وأطرافها، اعترضتها مخططات وخيانات
ومؤامرات في مستوى عظمة أهدافها، وشراسة أعدائها، في الخارج والداخل، من الفاعلين
الحقيقيين المباشرين ومن نوابهم المساعدين؛ وهو ما نتناوله في هذه المقالات بما
يتطلبه من شمولية، وتفصيل، وشهادات وتوثيق من الأطراف المعنية حسب مختلف المراحل
والمنعرجات التي مرت بها الثورة من البداية إلى النهاية، وقد حصرنا أهم هذه
المناوآت والاعتراضات والخيانات والمؤامرات فيما يلي:
المؤامرة الزرقاء
يُمكن أن نعد ودون أية مبالغة بأن أكثر من نصف سنوات الثورة، قد
أمدّ في عمرها الحركي، والعملاء والخونة الذين غادروا صفوف الثورة إلى معسكرات
العدو لأسباب، بعضها يعود إلى اجتهادات خاطئة لبعض القادة، وبعضها الآخر إلى
تجاوزات وأخطاء قيادات الثورة، تسبب فيها ضبّاط المصالح الخاصّة الفرنسية بقيادة
النقيب (ليجي)، كمـا يروي هو المؤامرة نفسه بالتفصيل في كتابه الصادر في أوائل
الثمانينيات بفرنسا، الذي يعترف فيه أنه أوقع بالفعل بعض قادة الثورة في شراكه
المنصوبة بخبث ودهاء شديدين، وكأني بفرنسا قد انتقمت بمُؤامرة الزرقاء في الولاية
الثالثة سنة 1958 من عملية العصفور الأزرق، التي كانت قد قامت بها الثورة في
الولاية ذاتها، قبل سنتين من ذلك التاريخ، وقد نجحت فيها نجاحا باهرا أحبط مؤامرة
(روبير لاكوسط)، وزعزع أركان الثورة المُضادة، التي كان ينوي القيام بها، لتعود
عليه وعلى رجاله بالخسران المبين.
أمّا الحكم على تلك التجاوزات والمظالم التي
وقعت للمُجاهدين جرّاء هذه المؤامرة اللعينة، فأتركها لمن عاش مأساتها جسدا وروحا
أكثر مني، واكتوى بلهيب نيرانها الجهنمية التي كادت أن تأتي على الأخضر واليابس في
الولاية الثالثة، لولا لطف الله بالمجاهدين المخلصين والثورة المباركة.
وتأكيدا لوجود هذه المؤامرة بالفعل (وليس بالقول)، نورد هنا شهادة
الضابط آكلي قصري الذي عاش كلّ أحداثها، ويستدل عليها بالحقائق التالية: "قضية
لابلويت صحيحة مئة بالمئة، وليس فيها أي شك، فرنسا زرعت فعلا في صفوف جيش التحرير
الوطني عناصر يعملون لصالحها، والكثير من المواقف والأحداث، تثبت بما لا يدع مجالا
للشك، أنهم كانوا مندسين في صفوف جيش التحرير، والبعض منهم كان في منصب المسؤولية،
فعلى سبيل المثال أروي قصة الملازم (ح،م) كنت أتعامل معه أنا شخصيا بصفتي مسؤول
قطاع وهو مسؤول ناحية، وفي سنة 1957، كنا على اتصال مع جنديين من المجندين
الجزائريين في الجيش الفرنسي بثكنة "دي كايي" بضواحي ذراع بن خدة، لكي
نساعدهم على الهروب، فوضعنا خطة محكمة لتهريبهم، أخبرونا أنه سيلتحق بالثكنة حوالي
30 جنديا آخرين، لو ننتظر قليلا فقد نمكنهم هم كذلك من الفرار، واتفقنا على هذا
الأمر، وفعلا تم إقناع الجنود الثلاثين بضرورة الفرار من الثكنة والالتحاق بصفوف
جيش التحرير الوطني، وكان في الثكنة حوالي 40 جنديا فرنسيا، واتقفنا على أن يكون
الموعد يوم الأحد؛ على اعتبار أنه يوم عطلة بالنسبة للجنود الفرنسيين، وسيقضون
يومهم داخل قاعة السينما، مما يسهل علينا الانقضاض عليهم والفرار نحو الغابة.
يُمكن أن نعد ودون أية مبالغة بأن أكثر من نصف سنوات الثورة، قد أمدّ في عمرها الحركي، والعملاء والخونة الذين غادروا صفوف الثورة إلى معسكرات العدو لأسباب، بعضها يعود إلى اجتهادات خاطئة لبعض القادة، وبعضها الآخر إلى تجاوزات وأخطاء قيادات الثورة، تسبب فيها ضبّاط المصالح الخاصّة الفرنسية.
كان هذا هو الاتفاق النهائي مع الجندي الذي كان في اتصال معنا،
فأعطانا قائمة الأسلحة التي كانت بالثكنة، وقال: عليكم بجلب بغال لنقلها، فاتصلت
أنا بدوري بالملازم "ح، م" (لا أذكر اسم العائلة حتى لا أجرح مشاعرها)،
من أجل تزويدي ودعمي بالقوة المطلوبة، ولكنه أخلف وعده مرتين في إرسال ما اتفقنا
عليه، وهكذا أحبطت الخطة من أساسها بسبب خيانة ذلك الضابط (الأزرق)، الذي تبين أنه
هو الذي أخبر العدو بخطة الهروب! حيث أمرت قيادته العسكرية بتغيير كل الجزائريين
الموجودين في تلك الثكنة، وإرسالهم إلى أماكن أخرى بعيدة ومتفرقة داخل الوطن!
ومرة أخرى، طلب منا هذا الضابط نفسه (ح،م) حضور اجتماع الناحية، عقد
في بني جناد سنة 1957؛ بصفته مسؤول الناحية، وكنت آنذاك مسؤول قطاع سيدي نعمان،
ولما انتهينا من الاجتماع في حدود الساعة الرابعة، وجهنا إلى مكان نأوي إليه
لنستريح فيه، ولكننا ما إن وصلنا حتى حاصرنا جنود العدو بطريقة توحي بأنهم كانوا
على علم بمكان وجودنا، فأخبرتنا ربة البيت أن هناك مخبأ في البيت إن أردنا
الاختباء فيه، لكني رفضت ذلك، وأمرت الجنود بالاستعداد للمواجهة، حتى وإن كانت في
غير صالحنا، فليس لدينا خيار آخر، وبقينا في فناء البيت نتبادل إطلاق النار، وكنا
نبحث عن مسلك للفرار، فتسلقت جدار البيت، وتسللت بصعوبة إلى المنزل المجاور ومنها
إلى الخارج، واتخذت مكانا محصنا وشرعت في إطلاق النار، لتمكين زملائي من الفرار،
فخرجنا بأعجوبة من المنزل، وتم إصابة جندي اسمه مقران في العملية، فقمنا بإجلائه،
ونجونا من موت محقق.
ولكن أسئلة كثيرة كانت تتبادر إلى أذهاننا: لماذا بعثنا
"ح،م" إلى ذلك البيت؟ كيف عرف الجيش الفرنسي وجودنا بتلك الدقة
والسرعة؟ راودتنا شكوك بأن هناك وشاية من صاحب المنزل، وفي المساء عدنا إلى
ذلك البيت الذي حوصرنا فيه، فاستفسرنا إن كان صاحب المنزل قد تعرض لأي أذى من طرف
الجيش الفرنسي، فأخبرتنا ربة البيت أنه لم يحدث له أي شيء، فاستغربنا كيف لصاحب
منزل عثر فيه الجيش الفرنسي على ثمانية مجاهدين بداخله، ولا يتعرض حتى للاعتقال،
لو كان أحد آخر في مكانه، لتعرض للتنكيل والتعذيب، وربما للقتل، فاعتقلنا ربة
البيت وابنها وعروسها، وبعد التحقيقات اعترفت العروس أن صاحب المنزل عميل للجيش
الفرنسي، وأنهم كانوا قد طلبوا منها أن تدس لنا السم في الطعام، وأن ربة البيت دعت
المجاهدين للاختباء في المخبأ حتى يتمكن الجيش الفرنسي من القضاء عليهم بداخله
بسهولة ودون مقاومة، ولما تأكدنا من المعلومة، نفذنا حكم الإعدام في الابن والعجوز
وأطلقنا سراح العروس.
والحالة الثالثة التي يرويها الضابط آكلي قصري، وهو آخر مجاهد
(نوفمبري) ما يزال على قيد الحياة، فيقول: "كان جيش التحرير الوطني يدفع
للمسبلين مستحقاتهم، وكنت مع مطلع كل شهر أتنقل إلى قرية الرجاونة بأعالي مدينة
تيزي وزو لدفع المستحقات، وكان في المنطقة مسؤولان (لا أذكر اسمهما)، ثبت فيما بعد
أنهما من الزرق، وبينما كنت معهم أذكر أنهم أعطوا أوامر لقتل أحد الخونة (اسمه
قرفي) في بيته، فتدخلت وقلت؛ إنه من الأفضل أن يعدم خارج البيت وبعيدا عن أعين
أبنائه؛ لأن قتله داخل الدوار سيعرض المدنيين إلى شتى أنواع التنكيل، لكنهما رفضا
وأصرا على قتله أمام أعين أبنائه وداخل الدوار، والكارثة أنهما بعثا مع المكلفين
بالمهمة أحد أبناء قرفي، وأمروه بأن يتكفل هو بقتل أبيه، وعندما عاد المكلفون
بالمهمة، أمروا الابن الذي قتل أباه (بالفأس) أن يعود للعمل في تلك القرية، فحاول
أن يقنعهما أنه لا يعقل أن يقتل أباه في القرية ويعود للعمل فيها، ولكنهم أصروا
على ذلك، فغضب المسبل المعني، وعاد إلى القرية ومن شدة التأثر والشعور بالظلم
استسلم للجيش الفرنسي، وبات يعمل لصالح العدو ضد الثورة! وقد قتل لاحقا في إحدى
المعارك ضد جيش التحرير الوطني، وما دمنا في موضوع مؤامرة الزرقاء أذكر أني التقيت
بالعقيد عميروش لآخر مرة في سنة 1958 بعد الانتهاء من عملية الزرقاء، فحضرت
الاجتماع الذي عقد لهذا الغرض في بونعمان، بصفتي مسؤولا على ناحية بني جناد، فخطب
العقيد عميروش في الحاضرين خطابا مؤثرا، وشرح فيها دواعي إعدام كل من كانت تحوم
حوله الشكوك، بعد أن تقام عليه الحجة، واعترف بتأثر كبير أنه قد يكون من بين الذين
نفذ في حقهم حكم الاعدام أو الذين عذبوا أبرياء، ولكنها، كما قال، مقتضيات الحيطة
والحذر، وساق مثالا ما يزال راسخا في ذهني حتى الآن حيث قال؛ "إنه إذا كان
لديك في سلة بطاطا أو طماطم حبة متعفنة، فعليك التخلص منها، وإلا فسدت كل السلة!".
وهو ما يؤكده الضابط رزقي بوهراوة في هذه الشهادة الحية أيضا حيث
يقول: "أتوقف هنا قليلا، لأحكي قصّة مؤلمة وقعتْ في غضون سنة 1958م، لقد كنا ذات
يوم مقيمين في دار بإيفلسَنْ، وجاءنا الخبر بقدوم الضابط اعمر الباص، ولمّا وصل
إليْنا، سارعنا إلى الوقوف استعدادا للتحيّة كالعادة، وبعد أن أمرَنا بالاستراحة،
اقتحم حرّاسه مجلسنا، وأمرونا برفع الأيدي فوق الرّؤوس، مهدّدين إيّانا
بأسلحتهم، فاستغربنا منهم هذا التصرّف المفاجئ. التفت إليهم المجاهد اعمر الباص،
وأمرهم بالاستراحة، ثمّ قال لنا: أيّها الإخوان، لقد جئتُ إليكم، لتنفيذ أمْر من
القيادة، جئتُ للقبْض على أفراد منكم. فنادى على سي محمَّد السعيد (المكلـّف
بالحبوس)، واحسن أومالو، والعزّازي الذي كان جنديّا معي برتبة عريف. وبعد أنْ
قيِّدوا أمام أعيننا، ذهبوا بهم، والذي علمته أنهم قد اقتيدوا إلى مركز التّعذيب
والاستنطاق بأكفادو، وليس لي علمٌ بما حدث للمجاهد سي موحْ السّعيد، أمّا المجاهد
احسن أومالو، فقد أطلقوا سراحه، وكان بعد الاستقلال مسؤول مكتب المجاهدين في باب
الوادي بالعاصمة، بيْنما ظلّ المجاهد العزّازي مقيّدا ومعلَّـقا من يديه، يتجرّع
مرارة التعذيب!
إنّ العدوّ اكتشف هياكل نظام جبهة التّحرير الوطنيّ، فغلغل بريده مستعملا الأختام الرّسميّة لجبهة التّحرير الوطنيّ، وذلك للقضاء على المسؤولين بواسطة رفاقه.
ومن حسن حظه، أن العقيد عميروش تفقد المركز في تلك الأيام للاطّلاع
على حالات الموقوفين كعادته، ومرّ بالقرب من العزّازي، ونظر إليْه نظراتٍ مركّزة،
كمن يُحاول أنْ يتذكّر شخصا يعرفه، ولكنّ العزّازي لم يستطع أنْ يكلمه منْ
شدّة الآلام، وعمق الجراح، والمجاهد العزّازي كان من قبلُ في العاصمة من
المتردّدين على السّجون، ومن عصابة الخارجين عن القانون (كما كان ينعتهم نظام
الاحتلال)، ولعله كان مع علي لابوانتْ، ثم هداه الله، فالتحق بالجهاد، فبقيتْ صورة
العزّازي تُشغل ذاكرة عميروش، وفجأة توقّف عن السيْر، ورجع إلى الوراء، ولمّا دنا
منّي (كما قصّ عليْنا العزّازي ذلك بنفسه) قال لي: ألست العزّازي؟، وحرّكتُ
بالإيجاب رأسي، لتعذُّر الكلام عليّ. فالتفتَ إلى مَنْ حوله، وقال غاضبا بلهجة
مُنكِرة: مَنْ جاء بهذا إلى هنا؟ فقيل له: اعمر الباص.
وأضاف قائلا: أريد أنْ تعالجوه في الحال. سأجده قد شُفيَ تماما مِمّا
به عندما أعود لاحقا. ألا تعرفون هذا الرّجل؟ لقد كان يطلق قذائف الهاون في فيْلق
عبد القادر الباريكي. أزعيمٌ مثل هذا تتّهمونه بالتّورّط في المكيدة الزرقاء،
وتصنِّفونه مع الخونة؟ عجيبٌ هذا الأمر! ثم يضيف العزازي راويا محنته العجيبة بكل
مرارة وأسى، مفصلا ما حدث له بقوله: "مكثتُ في المعالجة أيّاما، وحينما عاد
عميروش إلى المركز، ناداني واطمأنّ على حالتي ووجدني أتماثل للشفاء إلّا مِنْ
يديَّ اللتيْن عانتا كثيرا من القيود والتّعليق. فسألني مِنْ جديد: هلْ اعمر الباص
هو الذي جاء بكَ إلى هنا؟ قلتُ له: أيّها العقيد، إنّ اعمر الباص مجرّد منفذ
لأمر. إنّ خصومي الحقيقيّين هم المكلفون بالتّعذيب في هذا المركز والمسؤولون
فيه. إنّهم من العاصمة، أعرفهم. إنّهم عُملاء للعدوّ. اسْتطاعوا أنْ يتسللوا إلى
صفوفنا، ليُدمِّروا الثورة من الداخل".
وعن هذه التجاوزات والأخطاء التي ذهب ضحيتها العديد من المجاهدين
المخلصين (كما هو وارد في شهادة المجاهد رزقي بوهراوة)، يقول المجاهد صالح مكاشر
الذي كان أمينا عاما لمركز القيادة في الولاية الثّالثة؛ "إنّ العدوّ اكتشف
هياكل نظام جبهة التّحرير الوطنيّ، فغلغل بريده مستعملا الأختام الرّسميّة لجبهة
التّحرير الوطنيّ، وذلك للقضاء على المسؤولين بواسطة رفاقهم؛ ويروي حديثا أجراه مع
العقيد سي عميروش شخصيا، فسأله عمّا إذا لم يكن هناك أخطاء قد وقعت في حق أبرياء؟
فأجابه العقيد عميروش بقوله: "هناك أخطاء وستكون أخطاء أخرى؛ نحن بَشَرٌ؛ أنت
ترى صعوبة الحياة في الجبال وظروف الكفاح ضدّ العدوّ. هل لنا قاعدة خلفيّة
للتّحقيق بكلّ الرّزانة الّتي تتطلّبها هذه القضايا؟ لا نملك هذه القواعد، والوقت
محسوب علينا بدقة للتحرك، بسرعة لأنّ مصلحة الثّورة تقتضي ذلك؛ ستُرتَكب أخطاء
لكنّها لا تتجاوز 10٪؛ الّذين سَيُقتَلون هم شهداء مثل الآخرين، فعلينا أن نصل
إلى اللّحم الصّحيح لعلاج الغَنغرينة".
والشهادة الثالثة نوردها للمجاهد صف الضابط شعبان محرز، الذي يقول في
كتابه (شهادة مجاهد من أكفادو): "قصدت مقر القيادة بغابة أكفادو قرب
"أغلميم أبركان" وجدت العقيد عميروش، وهناك سمعت لأول مرة أن جيش التحرير
الوطني قد اكتشف مندسين في صفوفه، كنا نسميهم الخبثاء و"الزرق" أو
"ليبلو".
ناداني سي عميروش وأمرني بالذهاب إلى قرية "لوضا ثمقرات"
كلفني أن أطلب من الضابط عبد الله الحضور إلى مقر القيادة. وكان سي عميروش يحبه
حبا جما. وعندما عزمت على الذهاب لتنفيذ الأمر جاءني ضابط صف (برتبة مرشح) وقال لي
بالحرف الواحد: قل لعبد الله ألا يأتي!!
كان ذلك بتاريخ 18 أو 19 يونيو (حزيران 1958) استغربت ذلك حقا، وغضبت
من قوله، إذ كيف يأمرني بعكس ما أمرني به قائد الولاية!! فكرت كثيرا في الأمر
وقلبته على عدة وجوه، وهممت بأن أخبر سي عميروش بما بدر من ذلك المرشح، ولكنّني قررت
أخيرا الاكتفاء بتنفيذ أمر سي عميروش.
فذهبت إلى قرية سي عبد الله لأخبره بالأمر، ولكنني لم أجده فأخبرت سي
عميروش بذلك بعد رجوعي من المهمة.
لقد بدأت عملية استجواب وتعذيب بعض الخونة المندسين في صفوف جيش
التحرير بالولاية الثالثة؛ مما دفع بعضهم إلى الإقرار بالخيانة والعمالة وإلى كشف
بعض أسماء الخونة الآخرين المتواطئين معهم ضد الثورة.
وقد حدث في أثناء إقامتنا بغابة أكفادو قرب مقر القيادة، أن جمعنا قائد
الولاية العقيد سي عميروش في مكان يسمى (لوضا ثمقرات)، وقام العقيد سي عميروش بإلقاء خطاب
علينا وطلب منا مؤكدا كلامه ثلاث مرات: "أن نعاهده بالله ألا نضع أسلحتنا حتى
ولو قيل لنا بأن الجزائر قد استقلت، وحتى لو كان الذي يقول لنا هذا الكلام هو سي
عميروش ذاته".
لقد كان سي عميروش بقوله ذاك، يؤكد خوفه الشديد على الثورة ويؤكد مدى حرصه على قطع الطريق على المندسين في صفوف الثورة، الذين تمثل دورهم أساسا في
القيام بحرب نفسية في صفوف المجاهدين؛ بهدف تثبيطهم وإحباط معنوياتهم.
وكان مما قاله سي عميروش في خطابه: "قد أكون اليوم عميروش
المعروف عندكم، ولكني قد أتغير وأتبدل"، كما قال؛ "إن الخبثاء الكبار
بيننا" كرر ذلك ثلاث مرات!
لقد بدأت عملية استجواب وتعذيب بعض الخونة المندسين في صفوف جيش التحرير بالولاية الثالثة؛ مما دفع بعضهم إلى الإقرار بالخيانة والعمالة، وإلى كشف بعض أسماء الخونة الآخرين المتواطئين معهم ضد الثورة.
وبعد الانتهاء من خطبته، قام سي عبد الحفيظ أمقران (الذي كان آنذاك
محافظا سياسيا بالولاية) بإلقاء خطبة أيضا (وهو ما يزال على قيد الحياة).
وسمعت شخصيا العقيد سي عميروش يحلف عدة مرات، ويقسم بأغلظ الإيمان أنه
لو شهد مجاهد ما بخيانة عبد الله قبل سماعه باستسلامه للقوات الفرنسية، لذبح ذلك
المجاهد بيده!
ولكن الأمر رغم فظاعته وبشاعته، لم يخل من موقف طريف وقع لأحد
المجاهدين الذين أعرفهم جيدا؛ لأنه كان قائد فرقتي.
فعندما تم استنطاق مجموعة (الزرق) التي اكتشفت في (أغبال) المشار
إليها أعلاه، ذكروا اسمه فقبض عليه، وأذكر أنه قال لنا بعد تقييد يديه: إذا كنت
أنا (أزرق)، فاعتبروا أنفسكم كلكم زرقاء!! وما عليكم إلا أن تستسلموا للعدو!
ونظرا لعدم ثبوت أي تهمة ضده، فقد أطلق سراحه، وهو ما يزال على قيد
الحياة إلى الآن، وقد رقي إلى رتبة ملازم عند الاستقلال!".
والشهادة الرابعة نوردها للنقيب محمد صايكي (رئيس المنقطة الأولى
بالولاية الرابعة) الذي يقول: "حدث في شهر رمضان وأن استدعاني السيدان: نصر الدين (مخابر الناحية)، وأحسن
(سياسي الناحية)، فطلبا مني استفسارا حول ملابسات موت بعض المجاهدين بالمنطقة، حيث
لاحظا وجود أمر غير طبيعي، وشعرنا بأن هناك من يقوم بتسريب معلومات عنهم للعدو،
ليقوم بقتلهم بكل سهولة، من أجل ذلك كلّفت بعض المناضلين بمراقبة بعض الأشخاص
المشتبه فيهم، وانطلقوا بعد ذلك لأداء مهمتهم، إلى أن جاء اليوم الذي تمكن فيه أحد
المناضلين من متابعة أحد أولئك المشتبه فيهم، حيث رصده يذهب إلى أحد الكولون
الفرنسيين في مكان يدعى "الراوراوة" (قرب سور الغزلان)، وكان يدعى هذا
الكولوني (روبار)، فانتقلا بعدها إلى "عين بسام"، حيث يوجد مركز "لا
صاص"، ورآهما ذلك المناضل يشتريان "جهاز راديو" بعين بسام، وكنت قد
أوصيت بعض الجنود أن يقتنوا لي "جهاز راديو"، على أن يكون صغيرا كي
أتمكن من وضعه داخل جيبي، ولقد رجع المشتبه فيه بعد ذلك مع روبار، وبحوزتهما جهاز
راديو من النوع الكبير، ولقد طلبت مقابلة
ذلك الخائن فور تيقني من خيانته، واشترطت عليه أن يكون مكان اللقاء بعيدا عن
دشرته، فاستجاب لاقتراحي، والتقينا بواد التشينة، وقدّم لي الجهاز، وكان كبيرا
جدا، حيلة منه كي لا أتمكن من وضعه في جيبي، وظن حينها أني سأكافئه على ذلك، وأني
لست على دراية بخيانته، ولكن سرعان ما تفطن لي عندما سارعت إلى ربط يديه، وسلّمته
للحراس ريثما آخذه إلى مركز الناحية، إلا أنه لم يلبث أن لاذ بالفرار بعدما تمكن
من فك وثاقه، وما هي إلا لحظات حتى سمعت مناديا يدعو لإيقاف الهارب، فنهضت مهرولا،
وأخذت أركض نحو ضفة الوادي؛ لأنني كنت متيقنا بأنه سيذهب من طريق بئر غبالو، لذلك
سلكت طريقا مختصرا، لاستدراك الوقت الذي فاتني، وبعدما قطعت قرابة ألف متر، وصلت
إلى الوادي، منهوك القوى، وقد انتقع وجهي فاستلقيت على الأرض، وتمددت جاعلا خدي على
الصعيد حتى يتسنى لي سماع خطاه إذا ما هو قدم إلى تلك الناحية، وفجأة، سمعت وكأن
أحدا يشق خرير الماء، فعلمت أنه هو، فتركته يدنو مني أكثر فأكثر، إلى أن وثبت عليه،
مستعينا بسكيني، فجرحته جرحا صغيرا، واسترجعت سلاحي الذي سرقه من الحراس، ثم سقته
مكبلا إلى مركز ناحية بوڤعودن، فقام المسؤولون باستنطاقه، وأدلى بخبايا خيانتهم،
وأخبرنا أنه على اتصال بابن أخيه الملقب "بالعتروس"، الذي كان يقوم
بمهمة الاتصال في القسم، وكان عتروس يقوم بتمرير المجاهدين من بوڤعودن إلى
"المرة" تارة وإلى "بلكط" (ناحية برج خريص بسور الغزلان) تارة
أخرى، فيقوم بإبلاغ القوات الفرنسية عن طريق عمه والكولوني روبار، فيعطيهم كل
التفاصيل الخاصة بالمجاهدين، الذين سيتم تمريرهم، وهل بحوزتهم سلاح أم لا وإلى أيّ
مكان سيتم نقلهم، وهلم جرى، وبهذه الطريقة كانوا يعلمون العدو بكل شيء عنا، ولذلك
كنا نتساءل دوما عن وقوع دوريتنا في أيديهم بكل سهولة، وكان الحكم الذي اتخذ في
شأن عتروس وعمه هو الإعدام، وعليه استطعنا استئناف عملنا الثوري بالمنطقة، وتمكنا
من استئصال شأفة هؤلاء الخونة".
وكل ما قاله النقيب محمد صايكي في هذه الشهادة، يؤكده النقيب مراد
كريمي (رئيس المنطقة الثانية في الولاية الرابعة) حيث يقول: "لم يمض عليّ في
شرشال كثير من الأيام الصعبة كهذه، حتى كنت موعودا فيها مع اليوم الأصعب...
تصوروا أن في يوم من الأيام، رأينا بأم العين الجنود الفرنسيين يحومون مكشوفين حول
أماكن يعلمون علم اليقين بوجودنا فيها، ولا يبدو عليهم أية خشية من أن ينالهم
مكروه من طرفنا، فأي أمر غريب هذا؟
أسلحتهم على أكتافهم! هل هم في نزهة؟
وما هذه الحبال التي يحملها كلّ منهم؟ هل هم في رحلة صيد؟
وبدأت تلافيف المخّ تشتغل؛ أحقيقة ما نرى، أم نحن نيام وهذه أضغاث أحلام؟ وتأكدت بأننا في
يقظة، وأننا بالفعل نحيا أحد أيام شهر آذار/مارس لعام 1959، هو الثالث عشر منه، وتبدأ
الذاكرة في الاشتغال بدورها.. وتذكرت في لمح البصر وجودي في القسم الأوّل للناحية الثانية من
المنطقة الرابعة، بل تذكرت مسؤولي فيه، وهو الحاج الشرشالي.
كان هذا المسؤول، صاحب دعابة وميال للتنكيب، وكان له لزمة، لا يكاد
ينسى مرّة أن يختم بها أيّ حديث له معنا، وكان الواحد منا لا يملك منع نفسه عن
الانفجار بالضحك وهو يسمعها منه.
كان كلّ مرّة يختم الحاج الشرشالي كلامه، بالقول: "رحنا فيها لـ
طريز مارس...". كنّا نضحك وحسب، ولم نفكّر مرّة فيما
يعني هذا الرواح، وفي هذا التاريخ الذي نروح فيه وإلى أين!!
لم نفكر حتّى جاء الموعد، موعد الرواح، وكان المقصود رواح جيش
التحرير بالكامل، وإلى أين؟