طالت أزمة أكثر من 60 ألف معتقل
مصري في
سجون رئيس النظام عبدالفتاح السيسي، منذ الانقلاب العسكري الذي قاده على الرئيس الراحل
محمد مرسي 3 تموز/ يوليو 2013، ولم يعد لهم أي أمل في إخلاء سبيلهم، بل إنه لم يترك
لهم سوى خيار واحد وهو "قتل أنفسهم".
وهو ما كشفت عنه السيدة المصرية أمل سليم
العوضي، والدة المعتقل عمر محمد علي (31 عاما)، وأحدث أصداء واسعة بين المصريين، حيث
كتبت عبر صفحتها بموقع "فيسبوك"، السبت، أن ابنها في آخر زيارة له في سجن
"بدر" عقب عيد الفطر (10 نيسان/ أبريل الجاري)، طالبها بالسماح له بالتخلص
من حياته.
عمر، الشهير بين النشطاء باسم "عمر
سيد أحمد"، وأحد المشاركين في ثورة يناير 2011، جرى اعتقاله قبل 10 سنوات من مطعم
بأحد أحياء العاصمة المصرية القاهرة، وحكم عليه بالسجن 25 عاما، ويعيش في زنزانة انفرادية
وسط وضع صحي وإنساني قاس.
اظهار أخبار متعلقة
وخلال الزيارة، وبحسب ما نشرته والدته،
فقد أكد لها أنه نسي شكل الناس، ولم يبق له أي مستقبل، ووضعه الصحي مزر، ويريد أن يموت
ويدفن بجوار والده، وأن هذا هو الأفضل له ولها ولثلاثة شقيقات.
وقالت الأم نقلا عنه: "وجودي جنب بابا
أرحم لي ولك، أنا عايش في قبر عند حاكم ظالم، وبابا في قبر عند حاكم عادل، تفتكري من
فينا أحسن من الثاني؟ اقتنعي إن وجودي عنده أفضل، وتبقى زيارة واحدة منك لينا إحنا
الاثنين، وتوفري جهد وتعب ومواصلات".
وأضافت: "انتي بتمشي، برجع زنزانتي
أقعد على الفرشة بتاعتي في الأرض، آكل الأكل اللي جيباه (أحضرتيه) معك، أخلص وأصلي
وأنام وأصحى في نفس المكان على الأرض، لا أعمل حاجة غير أني استناكي الزيارة الجاية
عشان أخرج من زنزانتي، وألاقي أحد أكلمه، بدأت أنسى الكلام، بقيت أتوتر لو شوفت حد
وأنا خارج، بدأت أنسي أشكال ناس كتير من العيلة وأصحابي".
وتابعت في تدوينتها: "صدقيني ياماما
أنا عايش ميت، وهذا إحساس لا أقدر أوصفه ولا أحد يقدر يتخيله، اقتنعي أني أروح لبابا
عشان أرتاح، أنا إللي منعني أنت، لو عاوزة (تريدي) تريحيني إرضي وسيبيني أعمل كدة،
عشان أرتاح، وصدقيني انتي كمان هترتاحي وإخوتي يعيشوا حياتهم بدل ما هم محبوسون معي".
ولفتت إلى أنه قال: "ياماما أنا خلاص
انتهيت، ومفصول من الجامعة، والشغل، وشبابي راح، وليس معي أي حاجة أقدر أبدأ بها حياتي
من جديد، هذا في حال لو خرجت، وهذا غير الأمراض الكثيرة عندي، محتاج وقت أتعالج يصل
10 سنوات".
وواصلت: "ياماما فكري في كلامي بعقل،
والمرة الجاية تعالي وانتي مقتنعة، مش عايز أعمل حاجة وانتي مش راضية عنها"، في
طلب صريح منه للحصول على موافقتها بالتخلص من حياته.
"حالة مؤلمة"
وفي عمر 22 عاما، اعتُقل طالب نهائي كلية
الهندسة، عمر، واثنين من أصدقائه من مقهى بحي المعادي جنوب القاهرة في 2 حزيران/ يونيو
2015، ليتم إخفاؤه قسريا مدة أسبوعين، ثم عرضه على النيابة العسكرية وليس النيابة العامة،
حيث تم إدراجه على لائحة الاتهام بالقضية (175 لسنة 2015) جنايات عسكرية.
تهمة عمر، الذي كان يعمل بأحد المصانع
الحربية، كانت "إفشاء سر من أسرار الدفاع"، بدعوى إمداد أحد المتهمين بمعلومات
بشأن أحد ضباط أمن المصنع الحربي، ورغم ما ثبت أمام المحكمة من خطأ في التحريات والمعلومات
إلا أن المحكمة العسكرية قضت بسجنه بالمؤبد 25 عاما.
وفي 27 تموز/ يوليو 2016، وبعد نحو عام
من اعتقال عمر، أكدت منظمة العفو الدولية أنه تعرض للتعذيب بمبنى المخابرات العسكرية
حتى تصوير فيديو يدلي فيه بـ"اعتراف" مكتوب من قبل المحققين.
اظهار أخبار متعلقة
وتوالت
الانتهاكات بحق المعتقل الشاب، حتى
أنه وفي 2 تشرين الأول/ أكتوبر 2022، تعرض للتحرش الجنسي على يد أفراد الأمن بسجن بدر،
(7 دقائق من العاصمة الإدارية الجديدة)، وذلك بعد ترحيله من سجن "مزرعة طرة".
نالت قضية عمر اهتماما دوليا، ففي 19 كانون
الأول/ ديسمبر 2016، طالبت السفيرة الأمريكية في الأمم المتحدة، سامنتا باور، بالإفراج
عنه.
وفي 24 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، شملت
عمر دعوة البرلمان الأوروبي للإفراج عن نحو 30 شخصية مصرية معتقلة على ذمة قضايا سياسية.
لكن لم يتم إخلاء سبيله، وبسبب ما يواجهه
من انتهاكات، أوصى عمر في وصية أودعها محبسه لتوثيقها بالتبرع بجميع أعضائه بعد وفاته،
وفق ما كشفته شقيقته الصحفية سارة، في 13 آب/ أغسطس الماضي، والتي أكدت أنه لم يعد
يتحمل، وبدأ يخطط لموعد وطريقة إنهاء حياته.
وتفاعل عدد كبير من النشطاء مع أزمة عمر
محمد علي، وتساءل البعض: هل يمكن لدولة أن تنهض أو تخرج من كبوتها وهي تقتل شبابها
بهذه القسوة والجبروت؟
"يوما تجدي جثتي"
وفي واقعة مشابهة لواقعة عمر، أكدت أسرة
معتقلة مصرية من منطقة شعبية بالقاهرة، أن نجلتها المعتقلة في سجن القناطر للنساء سيء
السمعة، طلبت من أمها ذات الطلب، قائلة لها: "سامحيني لو جيتي ولم تجدي إلا جثتي".
وتوضح الأسرة المنكوبة باعتقال الأب العائل،
وأزواج البنات، أنها "تذهب كل زيارة وتدعو الله ألا يكون قد أصاب نجلتها أي مصاب
أليم"، ملمحة إلى أن "معاناة نجلتها تفاقمت بعد خروج بعض الناشطات المعروفات
من محبسهن، حيث كن يوفرن لها بعض الحماية والرعاية ويمنعن عنهن الانتهاكات".
وتشير إلى أن "نجلتهم عليها توصية
خاصة من أحد ضباط الأمن الوطني، الذي حاول تجنيدها قبل الاعتقال، وحاصرها في كل مكان
في بيتها وعملها وحتى بالشارع وظل يراقب تحركاتها ويتصل بها مهددا باختطافها واغتصابها
لو لم تتعاون معه وتبلغه عن تحركات أسر المعتقلين وطرق تقديم الدعم المالي لهم".
وتؤكد الأسرة أنه تم اعتقال نجلتهم
"خلال زيارة لزوجها في السجن، بعدما تم خداعها من المشرفات على الزيارة بأنها
ستدخل لزيارته، ليتم احتجازها وإيداعها السجن، ليتم الاعتداء عليها وتعذيبها للحصول
على اعتراف، وأنها من شدة التعذيب قررت تأليف قصة وهمية وكتابتها كاعتراف منها حتى
يتم وقف التعذيب".
ولفتت إلى أنه "تمت إحالتها للمحاكمة
والحكم عليها، وتعيش وسط معاناة دفعتها للتفكير في الخلاص من حياتها، لولا محاولاتنا
معها".
اظهار أخبار متعلقة
"استوى الموت والحياة"
في نهاية شباط/ فبراير الماضي ظهرت رسالة
مهربة من "سجن بدر 3" تكشف عن
انتحار السجين حسام "أبوشروق" بشنق
نفسه، وفشل محاولة محمد ترك "أبويارا"، وعوض نعمان، الانتحار بقطع شرايين
معصميهما.
ما دفع منظمة "الديمقراطية الآن للعالم
العربي" (DAWN) لدعوة مجلس حقوق
الإنسان التابع للأمم المتحدة إلى التحقيق في الانتهاكات الجسيمة التي أدت لانتحار
السجناء.
وحاول المعتقل الشاعر جلال البحيري، الانتحار
في 9 أيلول/ سبتمبر الماضي، مع استمرار حبسه احتياطيا مدة عامين، رغم إنهاء حكم سابق
بحبسه 3 سنوات، وفق ما نشر الناشط أحمد دومة، عبر صفحته بـ"فيسبوك".
وفي نيسان/ أبريل 2023، خرجت رسالة مسربة
من سجن "بدر3"، تشير لمحاولات انتحار 5 معتقلين، بقطع شرايين معصمهم، ذاكرة
أسماء: نجل الرئيس الراحل محمد مرسي المحامي المعتقل أسامة مرسي، -نفت أسرته لاحقا
الأمر- وعبد الله شحاته، وعمرو العقيد، وأحمد شريف الليثي، وداود خيرت.
وفي الشهر ذاته، تحدثت "التنسيقية
المصرية للحقوق والحريات"، و"مركز الشهاب لحقوق الإنسان"، عن محاولات
انتحار لمعتقلين جرى إنقاذهم بسجن برج العرب بمحافظة الإسكندرية.
وفي 10 آذار/ مارس 2023، نقل المحامي الحقوقي
نبيه الجنيدي عن الصحفي المعتقل أحمد سبيع قوله للقاضي خلال جلسة محاكمته أن هناك
200 محاولة انتحار في سجن "بدر 3"، في شباط/ فبراير 2023، وحده.
"عربي21"، تحدثت إلى حقوقيين
مصريين مطلعين على الملف لأكثر من 10 سنوات، حول كيفية إنقاذ المعتقلين، واستعادة الاهتمام
بملفهم بعد تراجع الاهتمام المحلي والعالمي به.
"الانتقام من الأحرار"
السياسي المصري والبرلماني السابق والمحامي
والحقوقي ممدوح إسماعيل قال لـ"عربي21": "قصة عمر، محزنة، مبكية، ثبته
الله وفك أسره، ولكنها مثال لمشكلة كبيرة".
وأضاف: "أولا: مشكلة المعتقلين السياسيين؛
ليست قانونية، وليسوا متهمين يقضون عقوبة بعد حكم قضائي سليم، إنما النظام الحاكم يعاملهم
بالانتقام، لأنهم فكروا في أن يكونوا أحرارا، ويستخدم الانتقام منهم كأداة ترهيب لمن
يفكر في الحرية مثلهم، وأداة لابتزاز المعارضة، والتأكيد على أنه كلما زاد سقف المعارضة
زاد الانتقام".
ثانيا: وبحسب إسماعيل، فإن "النظام
رغم بطشه الشديد وسيطرته على البلاد أمنيا، إلا أنه خائف من خروج أي صاحب فكر حر، وأن
يحرك الغضب الشعبي المكبوت ضد ظلم وفشل النظام".
ولفت ثالثا، إلى أن "النظام يستخدم
المعتقلين الإسلاميين خاصة، كرسالة طمأنة للغرب المنافق بأنه مسيطر على الحالة الإسلامية
التي يخشونها ويقبض مقابل ذلك من الغرب".
رابع النقاط التي تحدث فيها عضو مجلس الشعب
سابقا هي أن "المعتقلين يعانون أشد المعاناة، وملفهم الأهم لدى المعارضة؛ لكن
للأسف رغم أن جماعة الإخوان المسلمين لديها عدد كبير من المعتقلين، إلا أنها فشلت في
تفعيله وتحقيق انفراجة فيه لإشكاليات كثيرة".
وختم بالقول: "لكن يبقى أن تحريك هذا
الملف الإنساني يتطلب توحيد الجهود كلها في خطة عمل واحدة حقوقية وإعلامية تعمل على
تحريك المجتمع الدولي الحقوقي للضغط على النظام".
ومع الأعداد الهائلة للمعتقلين لنحو 11
عاما تتزايد الشكاوى من أوضاعهم السيئة بالسجون، وسط تجاهل النظام للملف الحقوقي، وتراجع
الاهتمام الدولي بملف السيسي في حقوق الإنسان.
"كثيرون لم يستأذنوا"
من جانبها، قالت الحقوقية المصرية والمديرة
التنفيذية للتنسيقية المصرية للحقوق والحريات هبة حسن، في حديثها لـ"عربي21":
"خلال عملنا الحقوقي طيلة السنوات الماضية رصدنا حالات مشابهة كثيرة لحالة عمر".
وأوضحت أنهم "ربما لم يستأذنوا في
التخلص من حياتهم مثل عمر، لأنهم ببساطة نفذوا أو حاولوا التنفيذ بالفعل، فضلا عن أن
كثيرين تراودهم الفكرة يوميا سواء تحدثوا بها أو احتفظوا بأفكارهم لأنفسهم".
وعن كيفية إعادة الاهتمام لملف المعتقلين
عالميا، قالت: "للأسف لا نعرف، لأنه مرتبط دوما بالحسابات السياسية ومصالح الدول
والأنظمة لا الشعوب".
وخلصت للقول إن "أوضاع المعتقلين تزداد
سوءا، والأعوام تمر على كثير منهم دون أي انفراجة أو وجود أمل في تغيير مع طول الوقت،
وانشغال العالم بقضايا ومشكلات أخرى تهم وترتب بناء عليها الدول خريطة انحيازاتها وانشغالاتها
والتي لا علاقة لها غالبا بحقوق الإنسان وشعاراتها".
أما فيما يخص استعادة اهتمام المصريين بهذا
الملف، فتعتقد حسن، أنه "ربما هناك الكثير من الأمل لأن المصريين جميعا يدخلون
مع الوقت بشكل أو آخر داخل الدائرة بوقوع الجميع تحت ظلم النظام، وتشارك الجميع مصائر
متشابهة يخسرون بسببها حياتهم وأعمارهم وأعمار أحبابهم".
وختمت: "ما زال الجميع يحتاج لمن يحشد
هذا الغضب وطاقة رفض المظالم ليحولها إلى تحرك يستعيد للوطن حريته، وللشعب كرامته،
كما كانت ثورة يناير 2011، ولعله يكون قريبا".
"الموت بالبطيئ"
وتواصل السلطات المصرية منذ منتصف العام
2013، عمليات الانتهاك لكل القوانين والأعراف بحق المعتقلين، وترفض إخلاء سبيل الآلاف
رغم انتهاء فترة محكوميتهم، وتزايد أعداد الوفيات جراء الإهمال الطبي داخل السجون،
وفق ما رصدته تقارير سابقة لـ"عربي21".
وحول أدق الإحصائيات عن عدد وفيات المعتقلين
منذ العام 2013، أكد رئيس المركز المصري لدراسات الإعلام والرأي العام "تكامل
مصر"، الباحث مصطفى خضري، لـ"عربي21"، في 28 أيار/ مايو الماضي، أنهم
"نحو 1024 معتقلا منذ حتى نهاية 2022"، هذا غير وفيات مقرات الاحتجاز والمراكز
والأقسام الشرطية.
اظهار أخبار متعلقة
وقدرت منظمة العفو الدولية في كانون الثاني/
يناير 2021، عدد المعتقلين في مصر بنحو 114 ألف سجين، فيما أكدت أن مسؤولي السجون بمصر
يعرِّضون سجناء الرأي وغيرهم من المحتجزين بدواع سياسية للتعذيب ولظروف احتجاز قاسية
وغير إنسانية، ويحرمونهم عمدا من الرعاية الصحية عقابا على معارضتهم.
وأكدت المنظمة في تقريرها الصادر 25 كانون
الثاني/ يناير 2021، أن قسوة السلطات تسببت أو أسهمت في وقوع وفيات أثناء الاحتجاز،
كما أنها ألحقت أضرارا لا يمكن علاجها بصحة السجناء.