مصطلح "البلوكاج الحكومي" دخل إلى التداول السياسي
المغربي
بعد عرقلة تشكيل الحكومة الثانية لحزب العدالة والتنمية بقيادة عبد الإله بنكيران
الذي قاد حزبه لفوز تاريخي يوم 7 أكتوبر سنة 2016 متحديا بذلك مجموعة من القواعد
الضمنية التي حكمت
التجربة السياسية المغربية منذ أول انتخابات تشريعية عاشها
المغرب المستقل سنة 1963، وليفسح المجال أمام حزب العدالة والتنمية لترؤس الحكومة
مرتين متتاليتين، وهو ما يعتبر استثناء في التجربة السياسية المغربية.
فبعد انتخابات السابع من أكتوبر، حصل حزب العدالة والتنمية على 125
مقعدا برلمانيا، متصدرا بذلك نتائج ثاني انتخابات لأعضاء مجلس النواب بعد الدستور
الجديد، وعلى أساس هذه النتائج، وطبقا لمقتضيات الفصل 47 من الدستور، عين الملك
محمد السادس يوم 10 أكتوبر، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية رئيسا للحكومة،
وفي انتظار تعيين باقي أعضاء الحكومة باقتراح من رئيس الحكومة، فإن هذا الأخير كان
مطالبا بتشكيل أغلبية حكومية لا تقل عن 198 مقعدا، ذلك أن الفقرة الثالثة من الفصل
88 من الدستور المغربي "تعتبر الحكومة منصبة بعد حصولها على ثقة مجلس النواب،
المعبر عنها بتصويت الأغلبية المطلقة للأعضاء الذين يتألف منهم، لصالح البرنامج
الحكومي"، ولهذا الغرض كان عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة المكلف، مطالبا
بإجراء سلسلة من المشاورات مع الأحزاب السياسية قصد تشكيل أغلبية حكومية.
غير أن هذه المشاورات اصطدمت بعرقلة ممنهجة من طرف باقي الأحزاب
المرشحة لتشكيل الأغلبية البرلمانية.
لفهم خلفيات "البلوكاج" وتحليل أسبابه وتداعياته السياسية
والاجتماعية، لابد من تركيب الصورة انطلاقا من المعطيات التي كانت سابقة على
انتخابات 7 أكتوبر، وهو ما يقتضي التوقف عند نتائج الانتخابات البلدية والجهوية
التي أجريت يوم 4 شتنبر 2015 والتي بوأت حزب العدالة والتنمية موقع الصدارة في
المشهد السياسي والحزبي ومكنته من تسيير كبريات المدن المغربية وهو ما يعتبر أيضا
تحولا كبيرا في التاريخ السياسي والانتخابي المغربي.
النتائج المفاجئة لانتخابات البلدية والجهوية ليوم 4 أيلول/ سبتمبر 2015..
من الصعب إجراء تقييم موضوعي على انتخابات تجرى في ظل ديمقراطية
ناشئة، تتفاعل عناصرها تحت مراقبة سلطوية هجينة أو ناعمة، لازالت تحاول التخلص من
أدوات الضبط القبلي التي تحكمت في معظم الانتخابات السابقة، ومع ذلك يمكن المجازفة
بالقول بأن انتخابات الرابع من أيلول / سبتمبر جرت في ظروف عادية على العموم، وسجل
المراقبون منسوبا معتبرا من النزاهة والحريّة والهدوء الذي طبع يوم الاقتراع، مع
تسجيل بعض الخروقات التي لم تؤثر في سلامة العملية الانتخابية ونزاهتها.
نجح الحزب إلى جانب حلفائه من أحزاب الأغلبية في العقلنة النسبية للتحالفات الحزبية المتعلقة بتشكيل مجالس الجماعات والجهات والعمالات والأقاليم، ببيانات سياسية صادرة عن أحزاب التحالف الحكومي، غير أن ذلك لم يمنع من وقوع استثناءات تم تفسيرها من طرف الفاعلين بـ"الخيانة" في بعض الأحيان أو بـ"عدم الانضباط الحزبي" أو بـ "عودة بوادر التحكم والفساد" أو بـ"تصرفات فردية"..
كما أن نسبة المشاركة بلغت 53،67٪ وهي نسبة تعكس ارتفاعا ملحوظا
بالمقارنة مع الانتخابات البلدية لسنة 2009، مع تسجيل زيادة معتبرة في الهيئة
الناخبة تقدر ب: مليونان و138 ألف و439 ناخب، بحيث وصلت إلى 15 مليون و498 ألف
و658 ناخب، شارك منهم 8 ملايين و318 ألف و129 ناخب وناخبة، وهو ما يعكس تزايد
الاهتمام بالشأن العام والانخراط الإيجابي للمواطنين في الحياة السياسية، و يؤكد
النجاح الملحوظ لعملية التسجيل في اللوائح الانتخابية التي بادرت إليها الحكومة
وساهمت فيها الهيئات السياسية والعديد من الفعاليات المدنية والشبابية والإعلامية،
ولاسيما الدور الكبير الذي قامت به شبيبة العدالة والتنمية آنذاك.
غير أن المعايير النموذجية لتنظيم انتخابات حرة ونزيهة تنسجم مع
المبادئ الفضلى كما هي متعارف عليها عالميا، تصطدم بظاهرة الاستخدام المفرط للمال وبعض أساليب
التحكم الانتخابي التي شابت بعض مراحل العملية الانتخابية التي تهم الناخبين
الكبار، خاصة فيما يتعلق بانتخاب بعض مجالس الجهات ورؤسائهم وانتخاب أعضاء مجالس
العمالات والأقاليم ورؤسائهم، وانتخاب أعضاء مجلس المستشارين، وهو ما جعل من ضرورة
تطوير النظام الانتخابي أولوية من أولويات الإصلاح السياسي في البلاد مع ضرورة العمل على تأهيل الأحزاب السياسية لكي
تساهم في ترسيخ المسار الديموقراطي وتحصينه ضد مختلف أنواع التهديدات.
حزب العدالة والتنمية الفائز الأكبر في انتخابات الرابع من أيلول/
سبتمبر 2015..
يمكن القول بأن حزب العدالة والتنمية كان هو الفائز الأكبر في هذه
الانتخابات، فقد حصل على الرتبة الأولى في عدد الأصوات بأزيد من مليون ونصف صوت،
أي بزيادة 900 ألف صوت عن انتخابات 2009، كما ضاعف عدد منتخبيه بثلاث مرات ونصف
مقارنة بالانتخابات البلدية السابقة، أي
من حوالي 1500 مستشار إلى حوالي 5600 مستشار ، وقفز من الرتبة السادسة إلى الرتبة
الثالثة من حيث عدد المقاعد.
ورغم الإشكالات الموجودة في التقطيع الانتخابي (18٪ من المستشارين في
الجماعات المتواجدة في العالم الحضري، و82٪في الجماعات المتواجدة في العالم
القروي)، فقد بوأه الناخبون المرتبة الأولى في معظم الجهات وفاز بـ 174 مقعدا من
أصل 425 من أعضاء مجالس الجهات أي بنسبة بلغت 25.66 بالمائة، وهو ما أهله لرئاسة
مجلس جهة الرباط سلا القنيطرة (العاصمة) ومجلس جهة درعة تافيلالت(المغرب العميق).
كما فاز الحزب بالمرتبة الأولى في الدوائر التي اعتمدت نمط الاقتراع
باللائحة، مما يجعله يحتل موقع الصدارة في معظم المدن المغربية وحاز فيها على
الأغلبية المطلقة، وهو ما أهله لرئاسة 170 جماعة، من بينها مجالس جماعات المدن
الكبرى كالدار البيضاء والرباط وسلا وفاس ومكناس وطنجة ومراكش وأكادير والقنيطرة
والراشيدية وتمارة والشاون وغيرها، كما توج الحزب نتائجه الإيجابية بتحقيق فريق في
مجلس المستشارين لأول مرة في تاريخه السياسي (وهو الغرفة الثانية للبرلمان المغربي
يضم في عضويته ممثلي الجماعات الترابية والغرف المهنية والنقابات المهنية وممثلي
أرباب العمل).
كما نجح الحزب إلى جانب حلفائه من أحزاب الأغلبية في العقلنة النسبية
للتحالفات الحزبية المتعلقة بتشكيل مجالس الجماعات والجهات والعمالات والأقاليم،
ببيانات سياسية صادرة عن أحزاب التحالف الحكومي، غير أن ذلك لم يمنع من وقوع
استثناءات تم تفسيرها من طرف الفاعلين بـ"الخيانة" في بعض الأحيان أو
بـ"عدم الانضباط الحزبي" أو بـ "عودة بوادر التحكم والفساد" أو
بـ"تصرفات فردية"..
كل هذه المعطيات تؤكد حقيقة واحدة، وهي وجود ثقافة ترفض التطبيع مع
هذه الاستثناءات التي اعتبرت من طرف القيادات الحزبية بمثابة تجاوزات شاردة عن
القاعدة، وتابعها الرأي العام بالكثير من الاستهجان والسخط..
الدلالات السياسية لنتائج انتخابات 4 أيلول/ سبتمبر 2015
لقد عبرت هذه النتائج على أن الناخبين المغاربة اختاروا دعم المسار
الإصلاحي الذي اعتمده الحزب في تدبير الشأن العام سواء على المستوى الحكومي أو على
المستوى المحلي، وقرروا دعم خطواته لمواصلة الإصلاح في ظل الاستقرار في ظل
المؤسسات القائمة، كما أكدت صوابية منهجه القائم على التعاون والتشارك والتدرج،
والجرأة في مباشرة الإصلاحات الضرورية للنهوض بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية
للمواطنين، وهو ما أسهم في تعزيز صورة المغرب في الخارج وجعله يبدو في مصاف الدول التي تسير بثبات لترسيخ
دعائم المسار الديموقراطي، ويتموقع ضمن الدول المستقرة وسط نظام إقليمي مضطرب، مما
فتح النقاش أمام أهلية المغرب للانخراط في
مصاف الدول الصاعدة.
ويمكن تسجيل مجموعة من الخلاصات الدالة من الناحية السياسية
والانتخابية التي تؤشر على تحول مهم في المزاج الشعبي:
أولا ـ التجاوب التلقائي الكبير للمواطنين والمواطنات مع الخطاب
السياسي لحزب العدالة والتنمية ومرشحيه في المدن والجماعات التي يتجاوز عدد سكانها
100ألف ناخب وناخبة، مما يدل على حجم الثقة الذي بدأ يترسخ تدريجيا بين المواطن
والسياسة، وهو ما يرمز أيضا إلى حجم الإسهام الذي قدمه حزب العدالة والتنمية
لمصالحة المواطن مع
السياسة ومع الشأن العام.، غير أن هذه الملاحظة لا تنفي وجود
قطاعات واسعة لا تبالي بالعملية الانتخابية ولا تعيرها الأهمية اللازمة.
ثانيا ـ الإقبال الجماهيري المكثف على اللقاءات المباشرة التي أطرها
الأمين العام لحزب العدالة والتنمية آنذاك عبد الإله بنكيران بمناسبة الحملة
الانتخابية، ربما بشكل غير مسبوق في تاريخ الانتخابات المغربية، وهو ما يعتبر في
حد ذاته استفتاء شعبيا على مكانة الحزب في قلوب المواطنين، وتأكيدا للرضا الشعبي
على أدائه، وتعبيرا عن التقييم الإيجابي لقطاعات واسعة من الشعب المغربي لحصيلة
الحكومة وأدائها، وتأكيدا لاستطلاعات الرأي التي كانت تؤكد حجم الثقة التي يحظى
بها رئيس الحكومة من قبل الشعب المغربي، وتكذيبا للتوقعات التي تنبأت بالتصويت
العقابي على الحكومة والحزب الذي يقودها.
ثالثا ـ تواضع النتائج التي حققها الحزب في الأرياف وفي الجماعات
القروية، لا ينفي حجم تطور الوعي السياسي في البوادي وتعطش ساكنة العالم القروي
لمنتخبين تتوفر فيهم شروط النزاهة والجدية، وهو ما كان يؤشر على تحولات دالة في
المشهد السياسي على المدى المنظور.
تفوق الحزب في التأسيس لثقافة سياسية و أخلاقية جديدة من خلال التزامه بمعظم التحالفات لتشكيل مكاتب الجهات و الجماعات التي حصل فيها على أغلبية مريحة في عدد من مدنها، وهو ما وضع باقي الأحزاب السياسية أمام تحدي الالتزام الأخلاقي وامتلاك استقلالية القرار الحزبي..
رابعا ـ استمرار نفس الأساليب المعتمدة من قبل العديد من مرشحي
الأحزاب السياسية، والمتمثلة في الاعتماد على المال بصفة أساسية لخوض الحملة
الانتخابية، بالإضافة إلى العنف والترهيب ودعم بعض رجال السلطة، وهو ما ثبتت
محدوديته خلال تلك الانتخابات.
خامسا ـ إن تفسير المفارقة الحاصلة بين حصول حزب العدالة والتنمية
على الرتبة الأولى في عدد الأصوات بأكثر من مليون ونصف صوت مع الاكتفاء بالرتبة
الثالثة في عدد المقاعد المحصل عليها، يجد جذوره في طبيعة الاقتراع المعتمد في
العالم القروي وهو نمط الاقتراع الفردي في دوائر صغيرة، كما أن نمط الاقتراع
باللائحة وفق أكبر البقايا لا يساعد أي حزب في الحصول على الأغلبية المطلقة التي
تتيح له إمكانية الفوز بالرئاسة من أجل احترام إرادة الناخب، إلا في حالة
الاكتساح، وهو أمر مستبعد في الحالة المغربية.
انطلاقا من هذه الملاحظات السريعة، يمكن القول بأن حزب العدالة
والتنمية، ورغم الظروف الصعبة التي تحمل فيها مسؤولية قيادة العمل الحكومي، فقد
نجح في تأكيد مصداقيته السياسية لدى المواطنين والمواطنات، ورغم جميع عوامل
التشويش والتضليل والخداع المعتمدة من طرف بعض خصومه السياسيين، فإن ذلك لم يؤثر
في شعبيته المتزايدة، بل أكد ـ عن جدارة واستحقاق ـ مكانته الأساسية في الحقل
السياسي من خلال النتائج المحصل عليها خاصة في المدن الكبرى والجماعات الحضرية.
كما تفوق الحزب في التأسيس لثقافة سياسية و أخلاقية جديدة من خلال
التزامه بمعظم التحالفات لتشكيل مكاتب الجهات والجماعات التي حصل فيها على أغلبية
مريحة في عدد من مدنها، وهو ما وضع باقي الأحزاب السياسية أمام تحدي الالتزام
الأخلاقي وامتلاك استقلالية القرار الحزبي..
كل هذه المعطيات جعلت خصوم الحزب يتوجسون من هذا الصعود الانتخابي
المتواصل ويلجؤون إلى أساليب غير مسبوقة لوقف هذا المسار، وهنا لابد أن نتوقف عند
واقعة ملفتة للانتباه، وهي لجوء جهات مجهولة لتنظيم مسيرة احتجاجية ضد حزب العدالة
والتنمية تتهمه بالسعي ل"أسلمة الدولة وأخونة المجتمع" وهي شعارات غريبة
عن الثقافة المغربية، ونظرا لعدم إعلان أي جهة مسؤوليتها عن هذه المسيرة فقد أطلقت
عليها الصحافة المغربية " مسيرة ولد زروال"...
في الحلقة القادمة نقف عند خلفيات هذا الحدث بالدراسة والتحليل..