كتب

خمسون عاما في فلسطين.. شهادة مؤرخة بريطانية عن تاريخ الاحتلال

بين ثنايا سطور يوميات فرنسس تظهر كيف كانت فلسطين في مرمى استهداف المبشرين إذ إن أختها وصديقتها أرمسترنغ ممن عملوا في مجال التبشير، فهن عضوات بجمعية الكنيسة التبشيرية..
بين ثنايا سطور يوميات فرنسس تظهر كيف كانت فلسطين في مرمى استهداف المبشرين إذ إن أختها وصديقتها أرمسترنغ ممن عملوا في مجال التبشير، فهن عضوات بجمعية الكنيسة التبشيرية..
الكتاب: خمسون عاما في فلسطين، مذكرات صديقة العرب.
الكاتب: فرنسس إملي نيوتن.
ترجمة: وديع البستاني.
الناشر: دار الكتب والوثائق المصرية بيروت، عام 2014.


صدر هذا الكتاب في بيروت عام 1947م، مترجما إلى العربية، ثم أعيد نشره عام 2014م، عن دار الكتب المصرية، للتضامن مع الشعب الفلسطيني وقضيته، كتبت فرنسس كتابها في فصول قصيرة عددها 32 فصلا، مقسمة كل فصل لعناوين جانبية، تداخلت فيها الأفكار، وتكاملت لتعطي صورة واضحة المعالم للقضايا التي أرادت أن توردها، وتورد رأيها فيها، ووضعت يدها في كتابها على عدة قضايا رئيسية فيه، منها ظروف تركها لوطنها إنجلترا، وإقامتها في فلسطين التي اعتبرتها وطنها الثاني، كما كتبت عن مشاهداتها وانطباعاتها عن فلسطين وأهلها وأرضها.

من وطن إلى وطن

ولدت فرنسس نيوتن في مملكة مكلور الإنجليزية، عام 1872م، درست الأدب الإنجليزي، وأتقنت الألمانية والفرنسية، كان لديها شغف بعلم التاريخ، والموسيقى، سافرت مع أختها إيدث، وصديقتها أر مسترنغ إلى فلسطين، بين ثنايا سطور يوميات فرنسس، تظهر كيف كانت فلسطين في مرمى استهداف المبشرين؛ إذ إن أختها وصديقتها أرمسترنغ ممن عملوا في مجال التبشير، فهن عضوات بجمعية الكنيسة التبشيرية، وكثيرا ما تطرقت إلى حالة التبشير للمسيحية في المدن الفلسطينية؛ سواء برحلات أفراد أو جمعيات مسيحية عبر إقامة المدراس، وعبر تقديم الرعاية الصحية لهم في مستشفيات وعيادات افتتحت لهذا الغرض؛ بحجة مساعدة فقراء فلسطين تحت شعار تقديم خدمات إنسانية؛ إلا أن كتابها لم يأت على أي محاولة لاختراق الحالة الفلسطينية، حتى مع كل ما بذلته وقدمته تلك الجمعيات.

تحدثت نيوتن عن إقامتها في الناصرة، وكيف تحولت لمرمى الاستهداف الاستيطاني، فتقول: يومذاك كانت الناصرة مدينة زاهرة؛ بها بندر، وسوق، وفيها الحدادون والصاغة والعطارون... انقلب عليها الزمان بعد الحرب العظمى الأولى، بقيام طائفة من المستعمرات اليهودية في سهول مرج ابن عامر، مكان قراه العربية، وأهالي تلك المستعمرات يتدبرون حاجاتهم فيما بينهم، فما يشتري يهودي من عربي". ص22.

عندما انتقلت فرنسس عام 1908م، من الناصرة إلى حيفا وجدت نفسها بين نقيضين على حد وصفها: "من أراد النقيضين وجدهما في فلسطين، ففي الطرف الواحد عيشة الريف الزراعي الرعوية برحابتها ومباهجها، وفي الآخر سكنى المدينة بضيقها الخانق، وتعاريجها المرهقة، في الأولى جمال الفطرة والقدم، وفي الثانية تفرنج واختلاط حابل بنابل وغث بسمين"، ووصفت حيفا بقولها: "كان سكان حيفا عناصر وأقواما، فالسواد عربي، وإلى جانب هذه الأكثرية أقليات عديدة أوروبية أو أوروبية مهجنة، ومستعمرة مسيحية ألمانية استقلت بغرب المدينة، ففي الشارع الواحد تزاحمت القبعة مع الحطة، والطربوش مع العقال، وفي البيوتات العربية كثر المثقفون، بين تاجر، وطبيب، ومحام، ولكن المسحة الغالبة على هذه المدينة، كانت ضربا من التباعد والانحجاز، بخلاف ما عهد في قدام المدائن، كيافا ونابلس، وغزة" ص48.

أما عن الشعب الفلسطيني فتشير: "عشت بينهم طويلا، فتعلمت الاحترام والتقدير لسجاياهم الفطرية من إباء وعزة ووفاء وحب الأوطان، وما أردت بهذا الكتاب إلا أن أقدمهم للعالم كما عرفتهم، ولقد حان لنا أن نطلق الوهم الذي مازال يصور لنا أن العربي قد يرخص وطنه وتراث أجداده... لقد حان لنا أن نقلع عن إغفال العرب بمجرد التودد إليهم، والتمويه على سماحة نفوسهم، فهم اليوم أبناء أمسهم العظيم الذي شهد عزتهم وأمجادهم، وآثار كبار لما فطروا عليه من مواهب، إن تراثهم لعزيز على قلوبهم، فما يرضون عنه بديلا، وإنه لتراث جدير بحرصهم عليه، وما من أحد يعرف عرب فلسطين يرضى أن يفرض عليهم تمدنا غريبا عن نزعاتهم وملكاتهم، وكما بين القطبين البعد بين الثقافتين اليهودية والعربية".

القارئ لثنايا فصول الدراسة، يدرك تماما أنه وثيقة للرد على المزاعم الصهيونية بأن أرض فلسطين كانت قاحلة جرداء، كيف لا ومرج بن عامر عرف بأنه سلة فلسطين الغذائية.
أوردت فرنسس تصريحات في غاية الأهمية عن الصهيونية: "هذه الصهيونية المعتدة بذاتها، حتى فلسطين كلها لا تكاد ترضيها أو تكفيها، فمن مشاريعها مشروع لتحويل نهر الأردن إلى ترع وأقنية الري، في واديه بكامله شرقا وغربا، وفي صحراء النقب جنوبا، ولحفر قناة في البحر المتوسط إلى البحر الميت، تعوض هذا الأخير عن ماء الأردن شلالا يولد من الكهرباء ما يكفي عديد الملايين".

تحت عنوان البساط السحري، كتبت فرنسس: "تراءى الحلم الصهيوني بساطا سحريا يمثل دولة يهودية؛ فاعتزموا أن يحيكوه، فقامت المنظمة الصهيونية بمنزلة النول، والمجتمعات اليهودية بمنزلة السدى، كانت اللحمة أرض العرب في فلسطين، وأعوزهم المكوك، فكان صك الانتداب المصنوع من تصريح بلفور وطلبوا المادة، فيسرها الصندوق القومي اليهودي، وصندوق التأسيس فلسطين" كيرين هايسود"، ودار النول، فإذا وقف المكوك لمعارضة أو اشتباك؛ تداخلت الحكومة بلجان التحقيق وتقاريرها، ووصلت الخيوط واستؤنف النسج على هذا المنوال"، كانت مهمة الحكومة البريطانية في نسج البساط" تأليف اللجنة بعد اللجنة، للتحقيق والتقرير، كلما قامت في البلاد فتنة، طلبا للحق وتقرير المصير، ولم يكن من حدوث الفتن بد، فإن العرب تنبهوا لما كان يحاك لليهود من دولة خلال ديارهم، فهبوا للذود عن ديارهم، أولا في مدينة القدس عام 1920م، ثم ثورة يافا 1921م" ص 135

القارئ لثنايا فصول الدراسة، يدرك تماما أنه وثيقة للرد على المزاعم الصهيونية بأن أرض فلسطين كانت قاحلة جرداء، كيف لا ومرج بن عامر عرف بأنه سلة فلسطين الغذائية". قد يدهش القراء أن يعلموا أن كل فدان من ازدرلون يزرع خير زراعة، وأن الأمن يسود نواحيه كلها، حيثما توجه المتوجه، وأنا بذلك كله الشهيد، وها هو اليوم أمامي، بحيرة خضراء يتماوج قمحها، حول قرى ودساكر، ناهضة كالجزائر، فوق هضب مستقرة آمنة، صورة للخصب والبحبوحة باهرة" ص69.

وجهت دعوة لفرنسس 25 آذار/مارس 1925م؛ للكتابة في صحيفة فلسطين العربية، ومخاطبة الرأي العام العالمي، حين أصدرت عددا خاصا بالإنجليزية بمناسبة زيارة بلفور لفلسطين، فتقول: "من هو السياسي الذي عرفه باسمه ذلك التصريح، الذي قضى على ما للعرب من آمال تعللوا بها، عندما دخلت البلاد الجيوش البريطاني في سنة 1918م، فإنها لبت النداء، حيث شاء رئيس التحرير أن يسمع صوت بريطاني. لقد كتبت تشكو الحكومة البريطانية، جامعة الأمم، حكومة فلسطين البريطانية، كما طلبت من البرلمان البريطاني ومن شعب الإمبراطورية، ومن جامعة الأمم المتحدة أن يفرض على حكومة فلسطين احترام البيان الملكي والتصريح الإنجليزي الفرنسي"،  ص85.

قبل الحرب العالمية الأولى1914م، لم يكن في خلد العربي ما يحمله على التخوف من اليهودي، ولكن الكراهية الكامنة، اتقدت نارها لما راحت السياسية الصهيونية تلوح بالوطن القومي اليهودي تلويحا، كان لتلك النار ترويح، فاضطرم وقودها، وبرز ذلك نداءات صحيفة الكرمل المحذرة من المخططات الصهيونية"، وما كانت صيحات الكرمل العاليات تلقى آذان مرهفة؛ لأن السيل لم يكن عرما، وكانت الحكومة قد قطبت لهم الجبين، فما يدخلون إلا خلسة، وكانت النظرة الوطنية إلى أولئك الدخلاء، نظرة ازدراء لا نظرة شحناء أو بغضاء.

كما عدت فرنسس أن تحول العرب عن إنجلترا في الحرب العالمية الثانية 1939 ـ 1944م؛ إنما كان أمرا مقضيا ومفهوما، حيث برزت الولايات المتحدة لحمل الثقل الصهيوني في تجسيد الدولة على أرض الواقع، فما جاءت سنة 1942م، إلا وقد استحكم شعور العداء ضد بريطانيا، التي وضعت سلسلة من الإجراءات لوقف سيل الهجرة اليهودية، وتسرب الأراضي بإصدار قانون عام 1939م، وبدا التودد البريطاني لمعاشر العرب كافة، لا لعلة، سوى سياسة الحكومة البريطانية تجاه المآرب الصهيونية".

أخت هارون

كان لليهودي هارون "آرون آرونسون" أخ اسمه ألكسندر، وأخت اسمها سارة، الثلاثة معا أدوا دورا في سلك المخابرات البريطانية في أثناء الحرب العالمية الأولى، فأرون آرونسون أسس محطة التجارب الزراعية في عتليت، اتخذها كمركز للتجسس على القوات العثمانية في فلسطين ومصر، عبر مراقبة السفن البحرية، أما سارة فقد ألفت منظمة سرية اسمها نيلي، ضمت عشرين عضوا، قدمت خدمتهم للقوات البريطانية، كانت تسافر سارة من مناطق تابعة للعثمانيين خارج فلسطين، وتنقل وفريقها المعلومات إلى البريطانيين في مصر، اكتشف الأتراك أمر سارة بعد أن أمسكوا بإحدى الحمام الزاجل، وفي رجلها رسالة إلى البريطانيين، ونجحوا في فك شفرة نيلي، وألقوا القبض على عدد كبير من الشبكة، ومنهم سارة التي أطلقت النار على نفسها بيدها، لتنجو من يدهم، وعاشت ثلاثة أيام، ذاقت فيها الموت ألوانا؛ علها تبوح بما ينفعهم، فما فاهت بكلمة، وفي عام 1942م، احتفل الصهاينة بمرور ربع قرن على انتحار سارة آرنسون في فلسطين. ص72.

لو تورعت الصهيونية، لما تنكرت للحل الذي عرضته حكومة الانتداب البريطاني في الكتاب الأبيض عام 1939م، كما اعتبرت فرنسس ذلك حلا وسطا ديمقراطيا، ولكنها رفضته في حين كاد العرب يقبلون به؛ لأنها أرادات تجاهل الديمقراطية، بل إنكارها، إلى أن يصبح اليهود هم الأكثرية السائدة.
كما عرضت فتنة عيد الفصح /فتنة النبي موسى عام 1920م، التي اعتبرتها الثورة الأولى لبركان متأجج محتدم، حكمت بوجوده لجنة ملكية، وعندها أن الشرارة المباشرة للثورة تسبب فيها قيام يهودي ببادرة اشمئزاز وازدراء تجاه الموكب الفلسطيني، بعدها قام جابوتنسكي قائد جيش الهاغناة بدور خطير، من خلال قوة يهودية نظمها وسلحها بأسلحة نارية، وهنا استغربت فرنسس كيف تم هذا والحكم كان عسكريا بريطانيا، ويحرم العرب وغيرهم من اقتناء الأسلحة والاكتفاء بالسكاكين والخناجر؟! بل كيف حصل اليهود على الأسلحة رغم القيود المفروضة على البلاد؟؟ كان من الطبيعي أن يؤدي ذلك لزيادة غضب العرب.

هذا الكتاب على أهميته، كان بحاجة إلى مراجعة، وتدقيق للمصطلحات المستخدمة من قبل الكاتبة فرنسس، كقولها بأن مسجد قبة الصخرة "قائم على موقع هيكل سليمان"، ومنها قولها عن حائط البراق: "ولا خفاء أن العرب المسلمين، طيلة عصور حكمهم، كانوا يحترمون تعبد اليهود لدى الجدار"، وهذا لا يخدم السردية الفلسطينية ص 171.

ختمت فرنسس كتابها: "لو تورعت الصهيونية، لما تنكرت للحل الذي عرضته حكومة الانتداب البريطاني في الكتاب الأبيض عام 1939م، كما اعتبرت فرنسس ذلك حلا وسطا ديمقراطيا، ولكنها رفضته في حين كاد العرب يقبلون به؛ لأنها أرادات تجاهل الديمقراطية، بل إنكارها، إلى أن يصبح اليهود هم الأكثرية السائدة. آن لحكومتنا أن توجه القول الواحد إلى الصهيونيين؛ إنما كفلنا لكم وطنا قوميا على حد تفسيره لكم في عام 1922م، تفسيرا رضيتم به في حينه، ولقد منحناكم ذلك الوطن، فبرئت ذمتنا، وليس في مقدرونا أن نرغم العرب على أن يفهموا دولة يهودية من ذلك الوطن  القومي الروحي الذي أردناه لكم".

لقد طال الظلم لفلسطين وشعبها، وقد يطول، ولكن المهم ألا تختفي مثل هذه الكتابات عن الباحثين في تاريخ القضية الفلسطينية، ومن الأهمية جمع ما كتب الكتاب الغربيون المدافعون عن القضية الفلسطينية، وإعادة نشره وترجمته لتصبح متاحة لجميع الباحثين والسياسيين.
التعليقات (0)