قامت
إسرائيل الأسبوع المنصرم باغتيال فؤاد
شكر، المسؤول العسكري البارز وأحد كبار مستشاري حسن نصرالله للشؤون العسكرية، في
قلب الضاحية الجنوبية في داخل شقّة بمبنى في المنطقة الأكثر تحصيناً لدى حزب الله،
وأكّدت مقتله قبل أن ينتظر حزب الله ساعات من الزمن لتأكيد اغتياله. ثمّ أعقبت
إسرائيل هذه العملية بعملية أخرى اغتالت فيها إسماعيل هنيّة، رئيس المكتب السياسي
لحركة حماس، وذلك خلال تواجده بمقر استضافته المؤمّن من قبل الحرس الثوري، بُعَيدَ
مشاركته مباشرة في حفل تنصيب الرئيس
الإيراني الجديد.
مع ضرورة عدم الجمع بين العمليّتين في سلّة
واحدة لاختلاف المستهدف، دور كل منهما، دوافع الاستهداف، ونتائجه، طُرحت الكثير من
علامات الاستفهام حول البيئة الأمنيّة لدى حزب الله وإيران، فصالح العرعوري وهنيّة
لم يُقتلا في تركيا أو قطر حيث يقيمان، وإنما في الضاحية وطهران. وإذا تركنا
موضوع لبنان جانباً وركّزنا على إيران، يصبح الأمر أكثر غرابةً. فمن الناحية
النظريّة على الأقل، من المفترض أنّ هنيّة كان متواجداً في أكثر الأماكن أمناً على
الإطلاق، مكاناً وزماناً، إذ عادة ما تكون الاستعدادات الأمنيّة والإجراءات الاحترازيّة
في مراسم تنصيب الرؤساء في أعلى درجة، وهو ما يطرح تساؤلات عن حجم الاختراق الأمني
للحرس الثوري والأجهزة الامنيّة المسؤولة عن هذه المراسم.
في أعقاب الاغتيال، اعتبرت إيران أنّ
استهداف "ضيفها" يستلزم الرد، وعدنا مجدداً الى نفس السيناريو الذي كان
قائماً في شهر أبريل الماضي، وعاد الحديث كذلك حول ضرورة الرد وشكل الرد وكيفية
الرد وما قد يترتب على الرد..الخ. ثم تبع ذلك تصريحات إسرائيلية تقول بأنّ أي
"ردّ كبير" من قبل إيران وأذرعها سيستلزم ردّاً إسرائيلياً عبر حرب
شاملة على جميع الجبهات، وأنّ إسرائيل مستعدة لذلك.
كل ما هو بين عدم الرد والرد الحقيقي مقبول على ما يبدو من جميع الأطراف وضمن قواعد اللعبة الجديدة. الوقوع في خطأ في الحسابات يبقى قائماً طبعاً في ظل التصعيد المستمر، وفي مثل هذا الجو المشحون والمتوتر، لكنّ الأصل أنّ حسابات الأطراف الإستراتيجيّة تقول أنّ ذلك لن يحصل.
وبين هذا التصريح وذاك، جاء
بيان البيت الأبيض ليؤكّد انّ الولايات المتّحدة ستقف في السرّاء والضرّاء مع
إسرائيل بغض النظر عمّا يفعله نتنياهو، وأنّها ستدافع عنها بكل الوسائل. وبموازاة
ذلك، أعلنّ البنتاغون تمركز مدمرات أميركية في منطقة الخليج وشرق البحر المتوسط،
بما في ذلك حاملة الطائرات "يو إس إس ثيودور روزفلت"، وفرق الهجوم
البرمائي، وأكثر من 4 آلاف جندي من مشاة البحرية والبحارة.
وإذا ما أخذنا خطوة إلى الوراء ونظرنا الى
الوضع ليس من زاوية الضربة والرد المضاد لحفظ ماء الوجه، وإنما من الزاوية الأوسع،
ومن المنظور الإستراتيجي، فانّ السؤال الأساسي الذي يطرح نفسه في مثل هذا الوضع
هو: "اذا كانت إسرائيل مستعدة لحرب شاملة، فهل إيران ووكلاؤها في لبنان
مستعدون هم كذلك لحرب شاملة"؟ الجواب باختصار هو "لا". لكن لماذا؟
بالنسبة إلى إسرائيل، ليس هناك مصلحة شخصية لرئيس الوزراء نتنياهو في التوصل إلى
صفقة لإطلاق سراح المعتقلين، أو إيقاف حرب الإبادة ضد الفلسطينيين، أو تحقيق الاستقرار
في المنطقة. إيقاف الحرب بالتحديد يعني أنّ مستقبله السياسي سينتهي، وأنّه سيتم
محاسبته وربما زجّه في السجن أيضاً. ما يفيد نتنياهو هو الاستمرار في الحرب،
وتوسيع نطاقها لتشمل أطرافاً أخرى لا سيما إيران على أمل أن يخلّصه ذلك من الأزمة
الداخلية، وأن يجّر الولايات المتّحدة الى معركة مع طهران يستفيد هو منها.
في المقابل، فإنّ أولويّة النظام الإيراني
منذ الثورة الإيرانية وحتى اليوم هي حماية نفسه في وجه حملة تغيير الأنظمة التي
تقودها واشنطن بين الحين والآخر، وهذا يقتضي بالضرورة عدم خوض حرب مباشرة او شاملة
مع أمريكا أو إسرائيل. ولهذا السبب بالتحديد – من بين أسباب آخرى-، عكفت إيران على
صناعة أذرعها في المنطقة كخط دفاعي متقدّم وكعامل إسناد وإشغال أملا في أن يتيح
لها ذلك توفير الوقت اللازم لإمتلاك القنبلة النووية أو التوصل الى إتفاق مع
واشنطن يضمن لها ما تريد. لهذا السبب بالتحديد، فان الكلام عن حرب شاملة أو مواجهة
مباشرة تقودها إيران هو كلام أقرب الى الهراء.
إيران تعلم أنّ حرباً من هذا النوع ستكون مكلفة
للغاية وربما ستنتهي بدمارها وتغيير نظامها. عدا عن ذلك، لا مصلحة إيرانية في
التدخل في وقت يغرق فيه نتنياهو في غزّة، كما لا مصلحة لها في الدخول بمواجهة مع
أمريكا في الوقت الذي يتم فيه ترتيب الطاولة مجدداً للتفاوض على الملف النووي
وترتيب أوراقها في المنطقة، وأخيراً فهي تحضّر لسيناريو عودة ترامب إلى البيت
الأبيض مجدداً، وهذا يقتضي منها عدم الزج بحزب الله في محرقة الآن تؤدي إلى تدميره
ولبنان معاً في هذه المرحلة وفي توقيت لا يخدم أجندتها، لأنّها تحتاج إليه في
السيناريو المذكور أعلاه اذا ما عاد ترامب مجدّداً.
لذلك، حسابات إيران لا ترتبط بفلسطين أو
غزّة أو حماس، وإنما هو موضوع ثانوي يتم توظيفه كما غيره من الأوراق لمحاولة تعزيز
مكانتها الإقليمية، وموقعها التفاوضي، وشعبيتها بعد عقد من المجازر المستمرة في حق
الشعب السوري وغيره من الشعوب العربية. لا شك أنّ لمثل هذا الأمر تكاليف أيضاً،
ولكنها قليلة ومقبولة بالنظر الى النتائج التي تحصدها طهران. ولذلك، فعندما أرادت
الأخيرة حفظ ماء وجهها في شهر أبريل الماضي، قامت بإبلاغ كل المعنيين بما في ذلك
الأمريكيين بحجم ونوع ومكان وزمان الهجمات المفترضة ضد إسرائيل.
نتنياهو تمادى في إحراج إيران من خلال
عمليات استخباراتية تستهدف قلبها، ولذلك ترى الأخيرة بأنّ عليها أن ترد ولكن ذلك
يشكّل معضلة لها. عدم الرد يشجّع نتنياهو على غيّه واغتيالاته وضرباته للداخل
الإيراني في محاولة لإستدراجها إلى معركة لا قبل لها بها. وفي المقابل، فإنّ الرد
الحقيقي يعني استدراجها إلى المعركة التي يريدها نتنياهو وجر الولايات المتّحدة
إليها وهو ما سينتهي على الأرجح بدمار إيران وتغيير نظامها. كل ما هو بين عدم الرد
والرد الحقيقي مقبول على ما يبدو من جميع الأطراف وضمن قواعد اللعبة الجديدة.
الوقوع في خطأ في الحسابات يبقى قائماً طبعاً في ظل التصعيد المستمر، وفي مثل هذا
الجو المشحون والمتوتر، لكنّ الأصل أنّ حسابات الأطراف الإستراتيجيّة تقول أنّ ذلك
لن يحصل.