تفرض طبيعة الكتابة عن الشخصيات الكبيرة ذات
الثراء المعرفي من جهة أو المرتبطة وجدانياً بكاتبها من جهة أخرى حالة خاصة تفيض
بالمشاعر حيناً وتلقي بالصعوبة البالغة حيناً آخر في الإيفاء التام أو الإيجاز غير
المخل، فكأن الأمر محاولة جمع بحر لجيّ في قارورة صغيرة!
وتلك كانت حالتي وأنا أهمّ بقراءة مذكرات أستاذي
وحبيبي الدكتور عماد الدين خليل رعاه الله، ومن ثم ما وجدته في نفسي من حافز
لتدوين هذا المقال تعميماً للفائدة، ذلك ان الارتباط الشعوري بصاحب المذكرات قديم
وشديد، فهو المعلم الأول في ميدان الكتابة والتأريخ، ناهيك عن انه الأنموذج الأسمى
الذي ما زلت اقتفي أثره في هذا الميدان المعرفي الذي كان ولوجه إياه تأثراً مبكراً
به ومحبة، وتعلق ممتد لعقود وسنوات!
ومع أني اصطدمت بما كنت أتوقعه من ثراء
المادة والتي هي انعكاس لثراء المسيرة ذاتها، وصعوبة اختصار قرابة 1000 صفحة في
بضعة أسطر، ولكن المحبة الجارفة هي التي كانت تدفعني، وثقتي بأن الحرف النابض ـ
كما تعلمنا من أستاذنا ـ كفيل بأن ينساب ويحقق مبتغاه.
أولاً ـ أساسيات
فرضت المذكرات هويتها ـ والتي هي هوية
صاحبها ـ من العنوان الملفت في براعة صياغته (أشهد أن لا إله إلا أنت) والذي
استفاض لاحقاً في بيان تجلياته ببراعة مؤكداً على الالتزام برسالة التوحيد والعيش
في ظلالها ولأجلها.
أما هيكليتها فقد جاءت متضمنة محاور ثلاث
دارت حولها مدونة الدكتور، وهي:
ـ سرد زمني ذاتي.
ـ عالم الكلمة وتجلياته.
ـ يوميات ورحلات مكثفة .
ثم الختام بتعداد لمؤلفات الدكتور خليل
موزعة على محاورها مما سنقف عند فائدتها لاحقاً.
والحقيقة ان تلك المحاور الأساسية منحت كل
جزءٍ من حياة الدكتور عماد الدين حقه وباستفاضة كبيرة، مع وجود تداخل وتكرار يظهر
انه كان لازماً لمنح كل مرحلة حقها، او بسبب الارتباط الوثيق بين الحدث والرجل
والانعكاسات، مثلما ان ذلك الأمر ـ لمن يعرف الدكتور عماد الدين ـ جزء من منهجه
المعروف بتوظيف العبارات والأحداث في أكثر من موضع حيناً بالتفصيل وحيناً بايجاز،
وكأني هنا أجده متأثراً للغاية بالمنهج القراني في
عرض القصص التأريخي المتكرر
والمتنوع في الصياغات، ولا سيما وان الرجل مرتبط بذلك المنهج ارتباط وثيق.
تكشف المذكرات أن صاحبها وجد في بيئة ثرية مجتمعياً وتاريخياً ومعرفياً، فكان النشوء مفعم بالاحداث والصور والتي كانت المغذي الأساسي للذاكرة المتقدة الواسعة التي امتلكها الرجل ومنحته قاموسه العريض الذي امتاز به وخياله الواسع وأدبيته المرهفة.
وعلى الرغم من غلبة السرد التفصيلي أو
المكثف في المحورين الأول والثالث، فان ذلك لم يمنع لمن يدقق القراءة من اقتناص
العبارة والعبرة والموقف والرؤية تجاه هذا الموضوع او ذاك، مما يقتضي من القارىء
الحصيف ان يقرأ كل كلمة بتمعن ودقة، ولا بأس أن يفعل ـ كما فعلت انا ـ بتدوين كل
خاطرة او فكرة يجدها مفيدة، فذلك مما يتمم النفع من تلك السياحة التاريخية
والفكرية والمعرفية المتميزة.
ثانياً ـ وقفات
ربما يمكن القول إن أولى الوقفات الواجب
ذكرها في هذا المجال هو تميز مذكرات د. عماد الدين خليل بالصدق البالغ وتفردها
ودون مبالغة في خلوها من عمليات التجميل والتزويق المتعمد والذي قد يخفي بعض
الأحداث لأغراض معينة أو يقدمها بصورة مؤدلجة ذات غايات واحكام مسبقة، بل على
العكس تلمس ان الكلمات والعبارات تتدفق بسيل لا يتوقف من الابداع والصراحة
المتناهية.
إن هذه النقطة بالغة الأهمية، فالقليل من
يعترف بأخطائه أو يكشف خصوصياته، وذلك المنحى الذي قدمت به هذه
السيرة الذاتية
مفيد لأنه كشف عن جوانب كثيرة في تكوين استاذنا الكبير ربما لم يكن الكثير يتوقعها
وبدت غريبة في بعض الأحيان، ومنحت القارىء التصور الكامل والذي يمكن ان يشكل
أساساً للكتابة عنه لاحقاً.
وإذا كانت المذكرات الشخصية في ميدان
الكتابة التأريخية يشوبها الكثير من الشك والتردد في اعتمادها وموثوقيتها لغلبة
الجوانب الشخصية فيها على الموضوعية عادة، فإننا هنا نقرر وبشيء كبير من الاطمئنان
بان مذكرات الدكتور عماد الدين خليل جديرة بان تكون مصدراً أصيلاً يتعمده الباحث
بكل اطمئنان، وحتى الانطباعات والرؤى الخاصة المتعلقة بالأحداث التي عرضها مما لا
ينفك المرء من الوقوع تحت تأثيرها وهو يكتب عن نفسه، كانت من الأهمية بمكان
لتمنحنا تصوراً عن الجو الفكري والسياسي الذي كان يحيط به حينذاك.
ولو أردنا إيجاز ما سجلنا من وقفات لمضامين
المذكرات يمكن ذكر الآتي:
بدءاً كانت مقدمة المذكرات جميلة ورائعة
وكشفت الكثير من جوانب شخصية الدكتور عماد الدين خليل، فكأنك هنا تراه عياناً،
وتجالسه وجهاً لوجه، بل وتقف عند تشريح متقن لدواخله، ما يرى وما يؤمن به وما يحب
وما يكره، والخلاصة أن هذا هو عماد الدين خليل لمن اراد معرفته!
ثم كان العجب في اسلوب السرد الذي اعتمده،
إذ يصحبك معه حتى يصل بك إلى ادق التفاصيل، وأصغرها وأقلها أهمية، ثم في لحظة ـ لا
تشعر بها ـ يسمو بك ويرتقي نحو ميادين الفكر والدعوة والكتابة وهموم القلم الحرّ
المؤمن وسط طوفان التشكيك والتجهيل والاقصاء، بل وكأنك تشعر بانفاسه معك، حيناً
وهو يعاني وأخرى وهو يركض مسرعاً لانجاز ما، وثالثها وهو يفيض شعوراً بالحب او
الحزن أو الغضب!
ويبدو من المهم القول ان من يقرأ تلك
الصفحات ولا سيما في محورها الأول يلمس وبجلاء تأثير الوضع السياسي
العراقي
المتشابك المعقد حينذاك وما زال على المجتمع ككل منذ خمسينيات القرن الماضي وإلى
اليوم، وتكتشف أن القامة الفكرية الكبيرة كان متماشياً مع ما يطرح من هنا وهنا
ومتفاعلاً بشكل حماسي وايجابي مع أحداث وثورات مختلفة ومشاركته الجماهير فيها،
وعلى الرغم من تقلب الأفكار وغلبة التوجهات المتقاطعة على ما كان يجري وقتها ولكن
المحرك الأساسي لذلك الاندفاع هو ضغط البيئة من جهة والطابع الثوري الذي كان يمتلك
عماد الدين خليل الشاب وقتها من جهة ثانية، حتى تملكه حب الاعتقال في سبيل القضية
التي يؤمن بها، وانتظار مشاركة رفاقه بل وحتى من المختلفين معه فكرياً لحظة اثبات
صدق النوايا، ومتأثراً كذلك بالقراءات المختلفة والتي كانت متنوعة دون شك وتنتمي
إلى مدارس فكرية متعددة.
وتكشف المذكرات أن صاحبها وجد في بيئة ثرية
مجتمعياً وتاريخياً ومعرفياً، فكان النشوء مفعم بالاحداث والصور والتي كانت المغذي
الأساسي للذاكرة المتقدة الواسعة التي امتلكها الرجل ومنحته قاموسه العريض الذي
امتاز به وخياله الواسع وأدبيته المرهفة.
ولعل من الملفت ما كشف عنه من تعثرات أولية
ضمن طفولة مشاكسة عجيبة قد لا تتوقعها منه، وليس المقصود هنا اغفال طبيعة المرحلة
العمرية التي كان يمر بها، ولكن لا تتوقع أن يكون الرجل ـ وما تراه عليه اليوم من
هدوء وسكون ـ هو ذلك الطفل نفسه!!.
كما ظهر جلياً أن قوله المشهور عنه بأنه خلق
ليكون كاتباً كان دقيقاً وللغاية، فعلاقته بعالم الكتاب كانت وثيقة منذ نعومة
أظفاره، وهو الخيار البديل أن يتقن الرسم بالكلمات والذي كان على ما يبدو رداً
وعلاجاً على إخفاقه بأن يكون رساماً، والحال ينطبق على خطه الذي يصفه بأنه غير
جميل ولكنه كان وما زال وسيبقى قوي المضمون ورصين المعنى والعبارة.
ويلمس القارىء كيف طغى على شخصيته الإحساس
المرهف وبشكل فيه مبالغة ربما ومعه تشنج وقلق غريب تحول إلى وسواس قهري لاحق، وهو
ما الحق به التعب المستمر جراء كل فكرة أو خطوة يريد الدخول إليها أو قضية يروم
معالجتها، وهو لا يخفي وقوعه المستمر تحت وطأة الكآبة والتفكير المسبق، ناهيك عن
عدم القدرة على تولي المهام الرسمية والتي كانت موضع رفض مستمر بسبب من مبدأيته
الصارمة التي بقيت ملازمته حتى هذه اللحظة دون تراجع او تهاون أو تردد.
ويكاد المرء يحزن بشدة لوقوعه المرّ تحت
حصار السلطة الخانق، فكم فوت عليه من فرص للمشاركة في مؤتمرات ودعوات او مساهمات
كان خيرها كبير لو تحققت، واتذكر الآن كيف اني طلبت من استاذنا يوماً في عقد
التسعينات من القرن الماضي بعضاً من مؤلفاته فأجاب ـ وكدت ألمس حزن عباراته حينها ـ
أن بعضها لم يرها هو نفسه ولا يملك منها نسخاً، وذلك نتاج العيش تحت وطأة
الاستبداد دون شك!.
ولمست أنه وعلى الرغم من نهمه للقراءة ولكن
شخصيته البحثية بشكلها التي نراها اليوم لم تتشكل أو تتخذ طريقها إلا بعد انتهاء
مراحل دراسته العليا، فاختياره طريق الكتابة والتأليف مع التدريس كان يمثل إجابة
محددة لسؤال: وماذا بعد؟! والذي تملكه بعد حصوله على شهادة الدكتوراة، وهو سؤال
منطقي سألناه كلنا، ولكن شتان بين الاجابات!!
وأظهرت المذكرات كذلك أن مسألة التخصص
والبراعة في الكتابة لديه كانت نتاج موهبة وجهد فردي ونداءٌ استجاب له كما ينبغي
وليس وفق تخطيط كبير ومسبق، بل من الملفت أن اختياره لقسم التاريخ لم يكن نتاج خطة
أولية وإنما لأن قسم اللغة العربية الذي كان يرغب فيه حينها كان ضعيفاً! فهل يمكن
القول هنا إن شخصية الأديب كانت الغالبة في نفسه على ما سواها؟ ربما، ولكن في
النهاية كان الرجل قد جمع بين صفات (الأديب والمؤرخ والمفكر) وبتميز ونجاح لافت.
ولا انفكاك بين الدكتور عماد الدين خليل
والطابع الإسلامي الذي ميز توجهه ومنحه هويته، فعلاقته بالحركة الإسلامية كان
متداخلاً مع كل الأحداث التي مرت به، ولذا لم يكن غريباً أن ينجذب إلى حركة الإخوان
المسلمين، وهو انجذاب تكرر بين الميل والانتماء التنظيمي، فضلاً عن التأثر الفكري
بأدبياتها، وانسحابه منها لأكثر من مرتين لأسباب مختلفة منها ما يخص الحركة ذاتها
ومنها كما لمسناه من غلبة شخصية المفكر التي لا تتقيد بالتنظيم أياً كان عليه وهو
ما كان لها الأثر الأكبر، مع طبيعة مستوى التفكير في كل مرحلة تعلقت بها عملية
الانتماء والانسحاب.
ومع ذلك الموقف التنظيمي المحدد، فان هذا لم
يقدح لديه في اصل الفكرة أو رموزها الذين ظل مرتبطاً بهم سواءً في داخل العراق او
خارجه وحتى هذه اللحظة، وخصوصاً مع اقراره بان بعض القناعات التي تكونت عنده
سابقاً ظهر عدم صوابيتها وانها كانت معبرة عن تفكير مرحلي او انعكاس لطبيعة عمره
آنذاك.
وارتباطاً مع هذا الموضوع من المهم القول أن
المذكرات لم تكن منقطعة عما حصل بعد 2003 في العراق بل على العكس غدت أكثر توهجاً
ووضوحاً وتحرراً من قيود السلطة السابقة، فقد ظهرت هويته بصورة أكثر جلاءً، ثم بين
مواقفه من الأحداث ومن الشخصيات بشكل واضح، ونعى تدهور حال الوطن وغلبة مشاريع
المحتل وخفوت محاولات التصحيح وقسوة سنوات العنف التي مرت على البلد الجريح وما
زال، وتداعيات كل ذلك من تخلخل البنية المجتمعية ووهن الدولة وغلبة الأمية
المعاصرة التي ألمت بنّا في الأزمان المتأخرة والذي دق من خلاله ناقوس الخطر لما
هو آتٍ.. وقد جاء!.
أكد أن الكتابة الأدبية ـ ما عدا الشعر ـ صنعة لها
أدواتها وقواعدها التي يجب الإلمام بها لتطوير الملكة وتقوية قلم الكاتب..
ومن الموضوعات التي لا بد من الاهتمام بها
وعرضها الدكتور عماد الدين خليل بشكل بارز هو موضوع الارتقاء بالأدب الإسلامي
المعاصر نحو العالمية، وكنت قد طرحت في مقال قديم وحين توفي الأديب البارع الأستاذ
محمد الحسناوي رحمه الله ما لمسته من عزلة الأدب الإسلامي وعدم معرفة الآخر به
وبرموزه، وهو أمر استشعره الرجل وعالجه بذكاء، فقد أكد على ضرورة اتحاد المضمون
بالشكل الفني المتميز، وبين أن الكتابة الأدبية ـ ما عدا الشعر ـ صنعة لها أدواتها
وقواعدها التي يجب الإلمام بها لتطوير الملكة وتقوية قلم
الكاتب، وحدد سبعة عناصر
لتحقيق ذلك الهدف وهي: قوة الخيال، وقوة اللغة كأداة للتعبير، والتوتر الذاتي،
والخبرة الذاتية، والخبرة المعرفية، والخبرة الحرفية، والالتزام في التعامل مع
الزمن قراءة وكتابة وبما لا يقل عن 4 ساعات لكل منها يومياً، ولمن يجد في ذلك
مبالغة يذكرنا الرجل أنه وفي عام واحد قرأ 70 كتاباً!!!
ثالثاً ـ قصاصات
ثمة وقفات مهمة أسردها هنا في تركيز كبير
ولمن شاء العودة إلى التفصيل في ثنايا المذكرات التي لا غنى عنها بشكل أكيد، وهي
تثير الانتباه وتمنح مفاتيح الفهم للشخصية مدار الحديث، ومن ذلك: حبه للرياضة
وانخراطه بالنشاطات والبطولات ومتابعة المباريات وبشكل متفاعل للغاية، واندماجه
المجتمعي مع جميع الفئات، وحب الزحام مع الناس، وتلذذه بالاكل والذي بدا واضحاً في
تدوين يوميات رحلاته، وعدم التردد في اللهو البريء والنظيف كما يسميه فهو يشاهد
المسلسلات ويحضر عروض المسرحيات، ثم الحرج من المشاركة في المناسبات الرسمية ورفض
الجوائز لا سيما في بعض البلدان الا ما ندر ثم الكشف عن وضع الاموال الخاصة بها في
الصدقات!
ومن ذلك عرضه للمتاعب الصحية التي زاد منها
كثرة الاعمال والاسفار والقلق المتزايد، فكم مرة أغمي عليه أعانه الله، وكم عانى
من الازمات القلبية المتكررة، والجهد في التقاط الأنفاس، والتي تصيب القارىء
بالحزن لمعاناته المستمرة دون انتهاء!
ومن ذلك ما تبوح به كلماته وتصرفاته من
امتلاكه حرص الأولين وبراعتهم، وهو أمر وعلى الرغم من كونه ميزة لكنه اتعبه كثيراً
في ظل محاولة التوازن بين شخصية المفكر والكاتب وبين متطلبات الحياة، ثم إظهار
جمال العلاقة مع العائلة، وتصوير لحظات الفقد المؤلمة كأشد ما تكون عليه الكلمات
من انكسار ولا سيما أخاه نبيل رحمه الله والذي يبدو أن جرح فقده ما زال ندياً
للارتباط الوثيق بينهما.
ومن ذلك الإيجاز الماتع والمميز الذي قدمه
لمؤلفاته ودواعي كتابتها ومضامينها بدقة وبما يشكل خارطة طريق للفهم والتوظيف من
قبل الدارسين والباحثين والمثقفين على حد سواء.
وأيضاً لا ننسى القناعات الخاصة التي ختم
بها الجزء الثالث وابتدأ بها الجزء الرابع والتي جاءت رائعة وثرية بمادتها ونقاء
رؤيتها، واخيراً تدوينه المركز للرحلات التي قام بها، وفيها تكثيف بالغ للنشاطات
والأحاسيس المتقاطعة والمسارعة المنهكة نحو اتقان الانجاز ومغالبة المعوقات.
رابعاً ـ ملاحظات
مع الأهمية التاريخية والمعرفية لتوثيق
الكبار لسير حياتهم، ولكن بعض ما يكشف يجعل المرء يفضل لو بقيت هذه الصفحات مخزونة
في ذاكرة أصحابها كي لا تلثم أو تخدش بعض الصور المتكونة عنهم وهذا رأي شخصي قد
يكون مصيباً او مخطئأ.
ذلك أني وجدت العديد من الملاحظات وبعض الإشارات
غريبة جداً عن شخصية الدكتور عماد الدين، ولكنها بالنهاية نتاج مهم لصراحة الكاتب
التي التزم بها وأشرنا لها في بداية هذا المقال، سواءً بعض الالفاظ والتصرفات التي
جاء على ذكرها، أو الجوانب التي عدها طرائف ساقها للترويح عن النفس، وغيرها مما لا
أحب أن أدل عليها كي لا أعمم رأياً شخصياً على شكل قناعة عامة.
كذلك بدا أن القلق الشديد والحرص البالغ على
الإتقان كان مؤثراً عليه ومحدداً للكثير من القناعات والتوجهات، في ظل الصرامة
المعبرة عن الالتزام كما أورده، والذي أجد أنه كان يحتاج إلى بعض المرونة، ففي
الشق الأول مثلاً كان إيراده لموضوع الإعارة متعباً للقارىء فكيف بمن خاضه؟!!، وكم
كرر كلمة الجملة العصبية التي كانت تضغط عليه واقعاً وتفكيراً، ولا سيما حين يبدي
موافقته الأولية على موضوع ما ثم يغرق في دوامات القلق والتفكير، وفي الشق الثاني
كان رفض الجوائز وبعض المساهمات في المنظمات والمؤسسات العلمية خير مثال.
ومن الملاحظات كذلك إبداء عدم الارتياح من
التعامل مع الآثار لبعدها الوثني، ولكننا تعلمنا أن التاريخ القديم إذا دون وقدم
على يد المؤرخ المؤمن سيكون أعظم بوابات الالتزام برسالة التوحيد، فمن بين تلك
التماثيل الصامتة يخرج الدارس وهو يردد شعار هذه المذكرات (أشهد أن لا إله إلا
أنت)!
وهذه الملاحظات إنما هي كتبت بقلب محب لا أكثر،
وهذه المحبة هي الدافع للإشفاق حيناً أو الحسرة حيناً آخر على فوات فرصة او تعب
متزايد لم يتوقف صاحبه ولو للحظة عن العطاء!.
خامساً ـ المستفاد من المذكرات
ختاماً قد يتبادر السؤال: من يمكنه
الاستفادة من هذه المذكرات وكيف؟
أظن ابتداءً أن محبي الدكتور عماد الدين
خليل هم أول المستفيدين، إذ سيقضون وقتاً ماتعاً مع حبيبهم وقدوتهم، فضلاً عن
الفائدة المتحققة من جميع المحاور التي جاء على تدوينها وتبيانها.
ثم ودون شك سيكون طلبة العلم المستفيدين
الأساسين منها، سواءً من يريد مرشداً له أو ممن يروم الكتابة عن الدكتور وفكره
ونتاجاته، فهم سيمتلكون مفاتيح أساسية لكل ذلك، وخصوصاً حديثه المفصل عن كل كتبه
ظروف تأليفها أو هيكلتها المعرفية وخلاصاتها، ثم ترتيب قائمة المؤلفات موضوعياً..
وهو شي مهم للغاية في ميدان البحث الأكاديمي.
وللمؤرخين لتاريخ العراق الحديث والمعاصر،
ولمن يترجم لقامات الوطن ورموز الحركة الإسلامية، سيجدون في هذا الكتاب الموسوعة
بغيتهم ومادة غنية ستمدهم بالكثير الكثير من المعلومات والرؤى والتصورات، ولا سيما
وان هذا الميدان يخفت فيه الصوت الملتزم والذي سيبقى هو الأكثر أمانة وصدقاً مهما
اختلفنا بخصوص تقييماته او أفكاره.
وللجميع... يستفاد من خلاصة تلك المسارات
البديعة والتي قدمها الدكتور عماد الدين خليل في نصيحة ذهبية كررها على طلبته
وقرائه ومحبيه دوماً والتي هي مدار الاستفادة والاهتمام، أن المعادلة المطلوبة
للإبداع ترتكز دوماً على القراءة والقراءة والقراءة ولا غير وفي شتى جوانب
المعرفة، ومن مختلف مدارس الفكر، ودون توقف أو انتهاء!.
*كاتب وأكاديمي