كتب

"السياسة والإدارة في الإسلام" بين النظرية والتطبيق.. قراءة في كتاب (2من2)

السياسة العادلة من صميم الشريعة، أما السياسة الظالمة، فلا تمتُّ إليها بصلة، وإن أضيف إليها أي شكل من أشكال التأويل.
السياسة العادلة من صميم الشريعة، أما السياسة الظالمة، فلا تمتُّ إليها بصلة، وإن أضيف إليها أي شكل من أشكال التأويل.
في نهاية حديثه عن السياسة في الإسلام لخص الشيخ العلامة الدكتور عبد الباقي الحقاني الأفغاني نتائج بحثه، والتي من أهمّها:

1 ـ الإسلام ليس مجرد اعتقاد قلبي سلبي، لا دخل له في الحياة الخاصة والعامة للإنسان، بل هو عقيدة تنبثق منها شريعة يبنى عليها سلوك ونظام عام يحكم الشأن الخاص ويدبر الشأن العام.

2 ـ السياسة الشرعية هي كل ما يوافق مقاصد الشريعة، ويحقق مصالح الإنسان في الدنيا والآخرة، وإن لم يرد فيها نص شرعي، ولم يسبق بشأنها اجتهاد عقلي.

3 ـ السياسة العادلة من صميم الشريعة، أما السياسة الظالمة، فلا تمتُّ إليها بصلة، وإن أضيف إليها أي شكل من أشكال التأويل.

4 ـ السياسة فعل من الأفعال الشرعية، تعتريها الأحكام الشرعية الخمسة، قد تكون واجبة، أو محرمة، أو مندوبة، أو مكروهة، أو مباحة، بحسب نوعها، ومرجعيتها، ومقاصدها ونتائجها والحاجة إليها.

5 ـ علاقة السياسة والدولة بالإسلام، علاقة عضوية بحيث لا يتصور أحداهما دون الآخر، فهما أشبه ما يكونان بعلاقة القلب أو الدماغ بالجسم، فلا حياة لجسم بدون قلبه، ولا قيمة له بدون دماغ، كما أنه لا قلب، ولا دماغ بدون جسم، ولذلك فلا يمكن لهما إلا يكونا متلازمين أحدهما مع الآخر، وإلا وقع الخلل فيهما كما هو واقع حال الأمة اليوم.

الإسلام ليس مجرد اعتقاد قلبي سلبي، لا دخل له في الحياة الخاصة والعامة للإنسان، بل هو عقيدة تنبثق منها شريعة يبنى عليها سلوك ونظام عام يحكم الشأن الخاص ويدبر الشأن العام.
6 ـ لا مجال للتمييز في السياسة الشرعية بين السيادة والحكم، فالإمام أو الرئيس في الدولة يسود باختيار الأمة ورضاها، ويحكم بشرع الله، ومشورة أهل العلم والدين، وكل من تولى دون اختيار الأمة، ومبايعتها الرضائية ولم يحكم بشرع الله، ومشورة أهل العلم والدين؛ فلا شرعية له، وعزله واجب، كلما أمكن ذلك، كما قال الإمام ابن عطية المالكي – رحمه الله – الشورى من قواعد الشريعة، وعزائم الأحكام، من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، هذا لا خلاف فيه.

وأما الجزء الثاني من الكتاب: فكان عن الإدارة في الإسلام، وفي مقدمة الجزء الثاني اعتبر الدكتور عبد الباقي الحقاني ـ حفظه الله ـ أن النبي ﷺ معلّم الساسة، ومؤسس الدولة الأولى، ورئيس الإدارة والإداريين وأن الخلفاء الراشدين الأربعة (رضي الله عنهم)؛ هم النموذج الأعلى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاقتداء بهم فهم سادة الساسة وهم الذين شيّدوا ووسعّوا إدارة دولة الإسلام الأولى الفتيّة وساسوا الدنيا سياسة، لم يُرَ لها مثيل في العالمين.

ثم شرع في الباب الأول، فتحدث عن الإدارة، وفي الفصل الأول منه، تحدث عن الإدارة لغة واصطلاحاً، وعن أقسامها وصلة الإدارة بالسياسة. واعتبر أن صلة السياسة بالإدارة صلة وثيقة وقديمة ترجع إلى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وأوضح مثالا على ذلك، وهو حادثة الهجرة النبوية، فهي تدبير سياسي وقرار إداري في نفس الوقت. وأشار إلى الإدارة عبر التاريخ البشري، وأهميّـها في المجتمع الإنساني الإسلامي.

وتحدّث عن الإدارة في تاريخ الأنبياء، وضرب مثلاً بيوسف (عليه السلام)، فقد أدار تموين المملكة المصرية في خطة مدتها خمسة عشر عاماً، بنجاح لا مثيل له.

والنبي سليمان (عليه السلام) فقد ورد ذكره في القرآن الكريم، وأدار حكم بلاده على أساس عقد اتفاقيّات تجارية واضحة المعالم، وأدار مشروعات إنشاء وتعمير، وأبرم معاهدات أمن وسلام في القرن العاشر قبل الميلاد.

ذكر الله تعالى صفات سليمان (عليه السلام) القيادية في القرآن الكريم والتي من أهمها: الإيمان والعلم، والتنظيم، واليقظة، والمتابعة، والتقدم والحزم، والصرامة، وقدرته على بناء العلاقات المميزة، والكرم، وحسن الاستقبال، والتواضع والعدل، وقبول العذر، والهيبة، والوقار، والتثّبت من الأخبار، وسعة الصدر، وحسن الاستماع، والتدرج في تحقيق الأهداف، وتوظيف المهارات والمواهب والإمكانات، والاستماع لكبار مستشاريه، وحب الجهاد والبناء والإبداع، وعلو الهمة، والانفتاح على الآخرين، والقدرات الإدارية الهائلة في التخطيط والتنفيذ.

وتعتبر دولته في القرآن الكريم نموذجاً للحكم الرشيد في المقومات الاجتماعية والإدارية والاقتصادية والتشريعية والسياسية.

ومن ثمرات الحكم الرشيد في عهده:

ـ النهضة العلمية.
ـ والإعلامية.
ـ والعمرانية.
ـ والموصلات، والاتصالات.
ـ والنهضة العسكرية.
ـ والنهضة البحرية.
ـ والنهضة التجارية.
ـ والنهضة الحضارية القائمة على توحيد الله، وإفراده بالعبادة ومحاربة الشرك.

وقد توسعت في بيان حكمه الرشيد في كتابي: "الأنبياء الملوك داود وسليمان وهيكل سليمان المزعوم".

إن قصة سليمان (عليه السلام) تُعدُّ نموذجاً حضارياً ربّانياً تُستخرج منه قواعد في علم السياسة والإدارة.

وفي الفصل الثالث، من الجزء الثاني من كتاب السياسة والإدارة في الإسلام، توسع الشيخ الدكتور عبد الباقي الحقاني في الإدارة والتنظيم الإداري في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، والإدارة في عهد الخلفاء الراشدين، ومصادر استخراج أحكام الإدارة عند المسلمين.

وتحدث عن مقاصد الإدارة الإسلامية من حفظ الدين، والنفس والعقل، والنسل، والعرض، والمال، وعن وظائف الإدارة، كالتخطيط، والتنظيم، والتوجيه، والرقابة.

وميّز بين الإدارة الإسلامية  والإدارة العلمانية، حيث تتقيد الإدارة الإسلامية في كل خططها وتنظيماتها وآلياتها بالشريعة؛ تحافظ عليها وتعمل وفقها، ويكون القرآن والسنة المصادر الأصيلة التي تستمد منها الإدارة الإسلامية خططها، ووسائلها في ظل العمل على تطبيق أحكام الشريعة خلافاً للإدارة التي لا توصف بكونها إسلامية، كالإدارة العلمانية، ونحوها، فهي إدارة يُبتغى منها تحقيق الأهداف المرصودة من غير نظر إلى التقيّد بحلال أو حرام، وهذا لا شك أنّ له تأثيره المباشر على الأهداف والخطط والأساليب والوسائل ومصطلح الإدارة.

علاقة السياسة والدولة بالإسلام، علاقة عضوية بحيث لا يتصور أحداهما دون الآخر، فهما أشبه ما يكونان بعلاقة القلب أو الدماغ بالجسم، فلا حياة لجسم بدون قلبه، ولا قيمة له بدون دماغ، كما أنه لا قلب، ولا دماغ بدون جسم، ولذلك فلا يمكن لهما إلا يكونا متلازمين أحدهما مع الآخر، وإلا وقع الخلل فيهما كما هو واقع حال الأمة اليوم.
وفي الباب الثاني المتعلّق بالإدارة في الإسلام: أفرده لكيفية التوظيف وشروطه وآدابه.

وفي الفصل الأوّل، من الباب الثاني: تحدّث عن التوظيف وضرورته في الإدارة الإسلاميّة ومن له حقّ التوظيف، ومن يفوّض الإمام للتوظيف. واستدلّ بآثار في ذلك عن عمر وعثمان وعليّ (رضي الله عنهم).

وبيّن أنّ الطريقة الانتخابيّة في اختيار العمّال لم تكن غريبة عن نظام الحكم الإسلامي، واستدلّ بقول معاوية (رضي الله عنه) لأهل العراق: واطلبوا والياً ترضونه.

ووضّح شروط التوظيف وآدابها في الإدارة الإسلاميّة، وسنّه رسول الله في تقليد الوظائف ورعايته للكفاءة والخبرة وأنه لا يولّي الضعفاء جلائل الأعمال وعويصها مهما، ولو كانوا تقاة وثقات.

وبيّن منهج الاستشارة في تعيين الولاة وهي سنة ثابتة عن رسول الله والخلفاء الراشدين، وبين أهميّة القوّة والأمانة في التوظيف، وغير ذلك من الشروط، وتكلّم عن طلب الإمارة، وهل هي جائزة أو محرمة. واختار الشيخ عبد الباقي عدم الاستعجال في فتوى الجواز والحظر، وبيّن أقوال العلماء في ذلك، وتحدّث عن أجر الحاكم، واستدلّ بكلام العزّ بن عبد السلام – رحمه الله – عندما قال: أجمع المسلمون على أنّ الولايات من أفضل الطاعات، وأنّ الولاة المقسطين أعظم أجراً وأجلّ قدراً من غيرهم، لكثرة ما يجري على أيديهم من إقامة الحقّ ودرء الباطل، فإنّ أحدهم يقول الكلمة الواحدة فيدفع بها مائة ألف مظلمة فما دونها، أو يجلب بها مائة ألف مصلحة فما دونها، فياله من كلام يسير وأجر كبير.

وأمّا ولاة السوء وقضاة الجور من أعظم الناس وزراً وأحطّهم درجة عند الله لعموم ما يجري على أيديهم من جلب المفاسد العظام ودرء المصالح الجسام.

وتحدّث الشيخ الدكتور عبد الباقي عن تولية المفضول مع وجود الأفضل؛ لأجل المصلحة العامّة. وتوسّع في الاستدلال الإداري بتجارب الخلفاء الراشدين (رضي الله عنهم) في ممارستهم وآثارهم القوليّة والفعليّة في المحاسبة والمراقبة واحترام الموظفين، وتوفير ما يحتاجون إليه، والزيادة والنقصان في مرتباتهم ومنعهم من ظلمهم للرعيّة ومحاسبتهم على التجاوز في ذلك، ومكافأة المحسن ومجازاة المسيء، والتسامح عن الهفوات، ورفع الموظف وترقيته تدريجيّاً.

وفي الباب الثالث: تحدّث عن وظائف الأمير في الإدارة الإسلاميّة، وأهم وظائفه؛ كالتعيين والتوظيف، والعزل، والتخطيط، والتنظيم، والتوجيه والإرشاد والتنسيق، والاتصال بعماله وأعوانه، والرقابة والكشف. واستدلّ بالسيرة النبويّة الشريفة وممارسة الخلفاء الراشدين الراشدة في كلّ ما له علاقة بين الأمير والعمال والأمراء من تعيين وعزل ومحاسبة وإنزال عقوبة، إلى غير ذلك من الصنوف الإداريّة المهمّة في تحقيق أهداف الدولة الإسلاميّة.

وفي الباب الرابع: تكلّم عن السياسة الخارجيّة وعن ضرورة العلاقات الخارجية وتاريخها، وبواعثها وعن العلاقة السياسية بين الدول الإسلاميّة وغيرها، وبداية علاقات الرسول ﷺ الخارجيّة، وعن أهمّ الأهداف السياسيّة الخارجيّة من دعوة الناس إلى دين الله تعالى والحفاظ على منافع الدولة واستقلالها، وأهميّة التمثيل الدبلوماسي في الإسلام، وإرسال السفراء وأهميّة السفير وأهم صفاته الجسمانيّة والخلقيّة، وفوائد إرسال السفراء إلى الدول الخارجية، ووظائف الرسل والسفراء، كالتمثيل الرسمي للدولة والدعوة إلى الإسلام، والتفاوض، وحماية مصالح الدولة الإسلاميّة ورعاياها لدى الدول المعتمد لديها، وتتبع الأوضاع في الجهة التي أوفدوا إليها، والاستعلام عن كافّة أحوالها. وتحدّث عن امتيازات المبعوثين السياسيّين، وموقف الإسلام من هذه الحصانات في الأعراف الدبلوماسيّة ومتى يعطل التمثيل الدبلوماسي. وعن المعاهدات ومشروعيّتها في الإسلام والوفاء بها، ومتى تنقض المعاهدات.

وفي الفصل الرابع تحدّث عن حفظ الوقار المركزي للدولة والإمارة.

وفي الفصل الخامس: تحدّث عن إكرام الضيوف الأجانب الوافدين من خارج الدولة.

وفي الباب الخامس: تحدّث عن الاستقالة والاستعفاء؛ أسبابها وآدابها. ففي الفصل الأوّل من الباب الخامس: تكلّم عن أسباب الاستقالة، كالورع والتقوى، وترجيح العبادة عن المنصب، ووجود مصلحة دينيّة أو اجتماعيّة، أو الضعف الصحيّ، والعجز عن تنفيذ المهام، وقلّة الخبرة في العمل الذي وُكّل إليه، أو شكوى الناس، أو التدخّل المشروع من أصحاب المناصب العليا، وغير ذلك من الأمور الإدارية المهمّة.

إنّ كتاب "السياسة والإدارة في الإسلام" إضافة نوعيّة للمكتبة والثقافة الإسلاميّة والحضارة الإنسانيّة حيث يقدّم رؤية سياسيّة استمدّت أصولها وقواعدها ونظريّتها من المصادر الإسلاميّة الأصيلة، بدون تردّد أو تلعثم أو انهزام نفسي أمام النظريّات السياسيّة الوافدة من غزاة هذه الأمّة.

إنّ الاهتمام بالفقه السياسي في عالمنا اليوم من الأمور العظيمة، في نهضة الأمّة الإسلاميّة، التي بدأت تتلمّس طريقها نحو الشهود الحضاري، وتقديم ما ينفع الناس في كلّ المجالات الحضاريّة.

إنّ ما قام به الدكتور عبد الباقي الحقاني في حديثه عن البعدين السياسي والإداري في الإسلام يخدم المشروع الحضاري الإسلامي السنّي، لكي يتصدّى للمشاريع الغازيّة، المرتبطة بالمنظومة الشيطانيّة في العقائد والقيم والأخلاق والتشريعات والقوانين والنظم... إلخ.

نحن في أمسّ الحاجة إلى مثل هذه الدراسات الرائعة التي تجمع بين العمق التاريخي والأبعاد الحضارية، والتي تساهم في تلبية احتياجات الإنسانية من خلال تقديم دين الإسلام العظيم الذي يوفر حلولاً شاملة ويجيب على جميع الأسئلة في مختلف جوانب الحياة، قال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ ‌تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾. وقال تعالى: ﴿وَلَا ‌يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا﴾.

إنّني أنصح الباحثين وطلّاب العلم والعلماء في علم السياسة والإدارة والعاملين لنهضة الإسلام، قراءة هذا الكتاب والاستفادة منه، وتحويله إلى ثقافة عامّة على مستوى شعوبنا وأمّتنا؛ لما فيه من فوائد جليلة، فقد استطاع الشيخ الدكتور عبد الباقي الحقاني أن يختصر لنا المسافات بما بذله من جهود مضينة متواصلة في البحث والتنقيب في المتون والشروح والمصادر والمراجع التي خطّها العلماء الأفذاذ في أمّهات كتب التفسير والحديث، والسير والفقه وأصوله والعقيدة، والتاريخ والسياسة والإدارة، بالإضافة إلى استخراج الفوائد، والقواعد والفقه السياسي والإداري، وجواهر المسائل الإداريّة، ودرر الفوائد السياسيّة التي تحتاجها الأمّة المسلمة في كلّ عصر وخصوصاً في زماننا هذا.

فهذا الكتاب يُعد مرجعًا قيّمًا للزعماء والملوك والأمراء والرؤساء، والساسة بمختلف مستوياتهم. فقد قدم منهجًا متميزًا للباحثين عن أنظمة الحكم السياسي والإداري في الإسلام، وذلك من خلال تقديمه في إطار راقٍ يعكس جمال الترتيب والتنظيم، في أسلوب رفيع في مخاطبة العقل الإنساني والفطرة السويّة والوجدان الإيماني.

اقرأ أيضا: "السياسة والإدارة في الإسلام" بين النظرية والتطبيق.. قراءة في كتاب (1من2)
التعليقات (0)

خبر عاجل