كتاب عربي 21

حال الأمة ومستويات الحرب النفسية.. قاموس المقاومة (46)

سيف الدين عبد الفتاح
- جيتي
- جيتي
إن ما تمر به الأمة في هذه الآونة إنما يعبر بحق عن حال الوهن الذي يشكل بيئة قابلة للافتراس المعنوي للأمة، فتوهن عزمها وتستقيل في عالم الإرادة والفعل، وتفقد كل مسالك الفاعلية. يذكرنا الصحفي النابه عبد الله الطحاوي برؤية أستاذنا الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمة الله عليه، أن "الانكسار الداخلي يحول كل التضحيات إلى مؤشرات هزيمة، وأن الانتصار الداخلي والصمود المعنوي يحول نفس الشواهد المؤلمة إلى رمزيات عزة".

شتان بين التحيز للذل والمهانة، والانحياز للشرف والكرامة واستحضار معاني العزة والشهادة والجهاد والصمود والمقاومة. قد يُفقد رأس كيان مقاوم هنا أو هناك حياته؛ فقد استشهد إسماعيل هنية، قائد حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، وتم استهدافه في طهران، وكذلك حسن نصر الله، قائد المقاومة في لبنان، إلا أن هذا وذاك يجب ألا يفت في عضد المقاومة ومسيرتها ويجب ألا يحبط أهل المقاومة في الأمة بكل أشكالها؛ ذلك أن عمليات التسميم والهدف الكامن خلفها ترتبط ارتباطا وثيقا بالغزو المعنوي والدعاية المضادة والحرب الإعلامية، كما تقع في قلب مستويات الحرب النفسية.

إن تطبيق الحرب النفسية يتم في أوضاع عديدة ومتنوعة ومستويات مختلفة، بدءا من المستوى التكتيكي المحدد كإخضاع جماعة ما ومحاصرة للعدو أو الخصم، وانتهاء بالمستوى الشامل، كتقويض معنويات الخصم إلى حد انهيار جيشه وكل أنواع القوى فيه. ولكن على العموم هناك مستويات لا بد من التوقف عندها في عملية تطبيق الحرب النفسية وهي:

تطبيق الحرب النفسية يتم في أوضاع عديدة ومتنوعة ومستويات مختلفة، بدءا من المستوى التكتيكي المحدد كإخضاع جماعة ما ومحاصرة للعدو أو الخصم، وانتهاء بالمستوى الشامل، كتقويض معنويات الخصم إلى حد انهيار جيشه وكل أنواع القوى فيه

1- الحرب النفسية وصناعة الاستراتيجية: وتأتي في مقدمة مستويات الحرب النفسية، من خلال معالجتها للتأثير الشامل للاستراتيجية بأوسع معانيها، في الوضع النفسي للخصم واستعداده للمقاومة. وقد أشار العديد من كبار المنظرين الاستراتيجيين في العالم إلى الأهمية البالغة والحاسمة للتأثير النفسي للاستراتيجية على الرغم من أنهم لم يستخدموا اصطلاح الحرب النفسية.

وتتجلى أهمية التأثير السيكولوجي للاستراتيجية في كونها عنصرا حاسما في خلق الانطباع في ذهن قادة العدو وجنوده، أو عند معظم السكان المدنيين بل وعند الأطراف جميعا بشكل عام، وإيهامهم بأن الحرب خاسرة وبأن المقاومة المنظمة هي عمل بلا جدوى. وفي مثل هذه الحالة فإن الدافع المسيطر على معظم الأفراد هو أن يهتم كل بنفسه فتكون النتيجة الاستسلام المنظم أو انهيار الأطر الناظمة.

لذا، فإن جوهر الحرب النفسية كاستراتيجية، هو بلوغ هذا الوضع، لانعدام الأمل في القتال، أي قبل أن يستفيد الخصم بشكل عملي من قدرته على المقاومة. وفي الحالات الأكثر تأثيرا ووقعا لا تستخدم الاستراتيجية السيكولوجية، فالشعور بعدم الجدوى من المقاومة لا يعكس علاقات القوى الحقيقية، ولولا الوهن النفسي الذي أصابه، لكان من شأن الخصم أن يمنع الهزيمة. يقول موراي في ذلك: "إن الشخص القتيل هو فقط شخص ناقص، أما الشخص الذي انهارت أعصابه فهو محور الخوف الذي يستشري كالمرض المعدي بسهولة والقادر على نشر وباء الهلع".

جوهر الحرب النفسية كاستراتيجية، هو بلوغ هذا الوضع، لانعدام الأمل في القتال، أي قبل أن يستفيد الخصم بشكل عملي من قدرته على المقاومة. وفي الحالات الأكثر تأثيرا ووقعا لا تستخدم الاستراتيجية السيكولوجية، فالشعور بعدم الجدوى من المقاومة لا يعكس علاقات القوى الحقيقية، ولولا الوهن النفسي الذي أصابه، لكان من شأن الخصم أن يمنع الهزيمة

2- الحرب النفسية الاستراتيجية: وتوصف بأنها الحرب التي تتميز بالشمول والامتداد لأنها توجه إلى جمهور كبير، وعلى مساحة شاسعة، وغير محددة بزمان أو مكان، وتوجه عادة إلى شعب الخصم وقواته والمناطق الموجودة تحت سيطرته لإضعاف معنوياته. فهي في الوقت الذي تشمل منطقة محيطة بالهدف فإنها تشمل أيضا الجسد الوطني المعادي بأكمله، وهدفها الأساس هو التأثير في الآراء ووجهات النظر، والسلوك لمساعدة السياسة الخارجية على تحقيق أهدافها، لذا فهي تسعى لاستغلال النكسات العسكرية والانحطاط السياسي والاجتماعي والتدهور الاقتصادي والعجز في المواد الغذائية والاستهلاكية، لعدّها مرتكزات لعملها.. وعلى أساس ذلك فإن أهدافها أكثر تواضعا مما تسعى إليه الحرب النفسية بالاستراتيجية، وتكاد تقترب بشكل تام من الحرب النفسية التكتيكية، إذ لا تستهدف تحقيق انتصار شامل، وإنما خلخلة وتقويض مقاومة العدو.

3- الحرب النفسية التكتيكية: وهي حرب الصدام المباشر مع الخصم، وتوجه عادة ضد جيوش الخصم في ميدان القتال أو في قواعده أو ضد رعاياه المتواجدين في منطقة القتال، وتكون العمليات النفسية في هذه الحالة عمليات تستهدف أضعاف مقاومة قوات الخصم أو مطالبة الشعب بالتعاون مع القوات المسلحة المتقدمة، بوضعه في حالة نفسية هي حالة الهزيمة والاستسلام، ولكنها أحيانا تخرج عن هذا الإطار، حينما تكون موجهة إلى فئة معينة (أقليات عرقية ودينية) أو مجموعات معينة في مراكز السلطة داخل قيادة ومراكزه السلطوية لتحقيق أهداف معينة محددة، ومن ثم تخرج من منطقة القتال الفعلي، وتختلط بالحرب النفسية الاستراتيجية بشكل واضح.

ولكن الفارق بين الحرب النفسية الاستراتيجية والحرب التكتيكية، يظل محصورا في مسألة الحجم، فالحرب النفسية الاستراتيجية تهدف إلى التأثير في قطاعات أوسع من السكان وفي منطقة جغرافية أوسع ولمدة زمنية أطول بشكل عام، بينما يعد القصف المدفعي لغرض الإزعاج وإقلاق الراحة المصحوبة ببعض (تكتيكات الفزع) من قبيل الحرب النفسية التكتيكية، ولما كان التميز كما وليس نوعا، فإنه لا يبدو واضحا على الدوام.

4- الحرب النفسية الوقائية والمضادة: إن عملية مواجهة الحرب النفسية عموما تتحدد في إطارين واضحين هما:

أ- الحرب النفسية الوقائية: يعني أن أي كيان معين يتوقع حربا نفسية تستهدفه من كيان عدو آخر، ويقوم بعملية إعداد مسبقة لمواجهة تلك الحرب. وبعبارة أخرى إنها تمثل البعد النفسي لسياسة الأمن الشامل في أوسع مفاهيمه، وتقوم على التثقيف السياسي المكثف أولا، وتعميق الكراهية للعدو/ الخصم المحتل ثانيا. وفي هذا النوع من الحرب النفسية يعد التثقيف السياسي هو أداتها الأساسية، انطلاقا من مبدأ "الوقاية خير من العلاج"، فهي تعني عملية التحصين الذاتي للمواطن وكل من يعنيه شأن المقاومة في مواجهة الحرب النفسية المعادية.

ب- الحرب النفسية المضادة: إن كل هجوم لا بد أن نتوقع له رد فعل، وكما أن الهجوم لا بد أن يخضع لتخطيط محكم لو أريد له النجاح ـ فكذلك الهجوم العكسي يجب أن يخضع للمبادئ نفسها لو أريد له أن يضع حدا للهجوم الذي يخضع له، وبقدر الضربة يجب أن يكون رد الفعل. وكذلك في الحرب النفسية، فإن ما يسمى بالحرب النفسية المضادة تنطلق من المبادئ نفسها التي يجب أن تسود عملية التخطيط للحرب النفسية، وهي:

* إنها تسير في حركتها الدفاعية في إطار حركة الكيان المعادي بحيث تنبع من مراحل الحرب النفسية التي تخضع لها.

* الهدف الأساسي الذي يجب أن يسيطر على من يخطط للحرب النفسية العكسية هو إيقاف الفيضان قبل الانتقال من الدفاع إلى الهجوم.

* الحرب النفسية المضادة لا يجوز أن تكتفي بإيقاف الهجوم العكسي المعادي، بل يجب أن تحطم الخصم من موقعه وأن تستأصل جميع عناصر المساندة في صعيدها الداخلي.

وتستند عملية شن الحرب النفسية المضادة إلى مجموعة من المبادئ الأساسية:

- مرحلة الإعداد: وتتضمن عملية القيام بالتحصين الذاتي والذي يعني العملية التي من الممكن أن تتسع فتشمل كل ما يمكن أن ينطوي تحت مفهوم السياسة الوقائية أو الاحترازية، ومن الممكن أن تضيق كذلك فإذا بها مجرد القيام بدراسات عملية تسمح بمواجهة الحقيقة من منطلق المعرفة وليس التحرك الأهوج أو العشوائي.

- مرحلة التعامل الأولى: وهي من أخطر مراحل التصدي للحرب النفسية المعادية لأنها وحدها تسمح بأن يقف المجتمع موضوع الهجوم صفا متراصا لا يتضمن أي ثغرة تسمح بالاختراق، وفي هذه المرحلة يصل التخطيط للإعلام الداخلي وللتثقيف السياسي أقصى مرحلة من حيث القوة والفاعلية.

- مرحلة الهجوم المباشر: ففي المرحلة الثالثة يصبح الهجوم سافرا والحرب علنية. ويجب أن تسير الجهود في مسارين؛ أولهما التدعيم المستمر لمفهوم التماسك القومي إذ يرفع شعار الأمة المحاربة إلى أقصى درجاته، وثانيهما التحليل العلمي لاكتشاف عناصر التناقض في منطق الغزو النفسي.

يجب أن تستغل القيادة في المجتمع الذي خضع للحرب النفسية، هذه المرحلة من أجل القيام بالاستئصال ولو نفسيا لجميع المصادر المساندة للغزو النفسي

- مرحلة متابعة الهجوم: فالحرب النفسية كأي قتال في حاجة إلى مبدأ (أخذ النفس) لذلك لا يمكن أن تظل على اندفاعها في خطوات متتالية من حين لآخر، ولا بد أن تخفف من وطأة هجومها. إن من يخضع للحرب النفسية لا بد وأن يدخل هذا في الحسبان؛ وفي هذه العملية يتحكم عنصران هما: الأول اكتشاف عناصر التناقص في المنطق المعادي، أما الثاني فهو رد الإعلام المعادي على المجتمع الذي صدرت منه الحرب النفسية ذاتها.

5- مرحلة تصفية الموقف: وهنا يجب أن تستغل القيادة في المجتمع الذي خضع للحرب النفسية، هذه المرحلة من أجل القيام بالاستئصال ولو نفسيا لجميع المصادر المساندة للغزو النفسي، والتي أثبتت خلال المدد السابقة عمالتها أو عدم قدرتها على التماسك أو الضعف في صلابتها.

إن فهم الأمة المقاومة لدروس الحرب النفسية آنفة الذكر التي توفر عليها متخصصون مثل أستاذنا حامد ربيع وعبد الوهاب المسيري وأكاديميون مثل الدكتور حميدة سميسم والتي نقلناها عنهم جميعا؛ هو أول درجات الوعي اللازم للتماسك الإرادي والمعنوي للأمة، فلا تجعل أهداف العدو والعدوان تتحقق؛ وتجعل أمانيه تتبدد؛ ونشاط الأمة في المقاومة يتمدد ويتجدد.

x.com/Saif_abdelfatah
التعليقات (0)