كتب

أفريقيا بلاد الموز والعاج والانقلابات العسكرية.. قراءة في كتاب

إنّ الانقلابات العسكرية في القارة الإفريقية، هي أداة لخدمة مصالح ونخب سياسية واقتصادية داخلية معينة، أو مصالح وإستراتيجيات لقوى دولية خارجية..
إنّ الانقلابات العسكرية في القارة الإفريقية، هي أداة لخدمة مصالح ونخب سياسية واقتصادية داخلية معينة، أو مصالح وإستراتيجيات لقوى دولية خارجية..
الكتاب: "الانقلابات في القارة الإفريقية"
الكاتب: كتاب جماعي، الإشراف العام والتنسيق د. شيماء سمير محمد حسين
الناشر: المركز الديمقراطي العربي للدراسات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ط 1، برلين ـ ألمانيا، 2024.
عدد الصفحات: 2017 .

ـ 1 ـ


بعض الأرقام حول الانقلابات في القارة السمراء تصيبنا بالدهشة فعلا. فمنذ عام 1950م شهدت إفريقيا 214 محاولة انقلاب عسكري، بما يمثّل نسبة 44 في المائة من مجموع الانقلابات على مستوى العالم. ونجحت منها 106 محاولة في إيصال مدبّريها إلى سدّة الحكم. أما على مستوى الدّول فقد شهدت 45 دولة إفريقية من بين 54 دولة بالقارة محاولة انقلاب عسكري مرة واحدة على الأقل. بما يعادل 6/5 منها. ويحتكر السودان "الرقم القياسي" عالميا بعلامة "مميّزة يحبط كل دولة تفكّر في اللحاق بها".  فقد بلغت محاولات الوصول إلى السلطة فيها عبر ظهور الدبّابات 17 محاولة. ولكن لم ينجح منها سوى أربع.

 وتشهد "هذه الظاهرة" توهّجها من جديد هذه الأيام. فعلى مدار السنوات الثلاثة الماضية (من أغسطس 2020 إلى أغسطس2023) شهدت إفريقيا 18 محاولة انقلاب عسكري، نجح منها 4. ولا بدّ أنّ المقاربات الجيو ـ سياسية تفسر ذلك.

إفريقيا تظل أرضا بكرا رغم كل ما تعرّضت له من النهب. وثرواتها وموادها الأولية التي يمكن أن تجعل شعوبها تعيش الرخاء، تحوّلت إلى لعنة بسبب السياسية الاستعمارية التقليدية المباشرة أو الحديثة التي تتم عبر وكلاء من أهل البلاد.
الموضوع حارق إذن. والمفارقة هنا أنه غير المدروس كفاية حتى كأنه بات من المسلمات. فإفريقيا تنتج الانقلابات كما تنتج الموز والعاج. ومن هنا مأتى أهمية الكتاب الجماعي "الانقلابات في القارة الإفريقية" الذي نشره المركز الديمقراطي العربي للدراسات الإستراتيجية والسياسية والاقتصادية ببرلين وأشرفت عليه الباحثة شيماء سمير محمد حسين ونسقت مواده. فهو يسلط حزمة من الضوء على منطقة معتّمة في التفكير السياسي.

ـ 2 ـ

بناء على ما تقدم كان هذا المؤلف مأخوذا بجملة من القضايا ذات الصلة. فعمل على دراسة حالات بعينها لدول من القارة شهدت انقلابات في أزمنة مختلفة. واتخذها نماذج للوقوف على أسبابها وتداعياتها على الشعوب. وتناول مواضيع متعدّدة. من ذلك مبحث "العسكريون والسلطة في غينيا كوناكري"  للباحثة نهاد محمود أحمد أو "دوافع وتداعيات الانقلاب العسكري في بوركينا فاسو سبتمبر 2022"  للباحثة جمانة الصياد أو "أثر الصراع السياسي على التنمية الاقتصادية في إثيوبيا خلال الفترة 1930 ـ  2019" للباحثة أمينة خالد إلياس مرسي أو "الانقلابات والتحولات الدولية والإقليمية وآثارها السلبية على ليبيا" للباحثة هناء عمر محمد كازوز.

وحاول أن يتجاوز البحوث الجزئية إلى دراسات تأليفية تبحث في الظاهرة في شمولها وعمومها. فدرس الظروف المختلفة التي تولّد ظاهرة الانقلابات، سواء على نحو مباشر أو غير مباشر  واستشرف مستقبلها. فعمل على التنبؤ بالبؤر المرشّحة لهذه العدى في راهننا وتساءل عم مدى إسهام التنافس الدولي بين القوى الكبرى في تأجيج حمى الانقلابات العسكرية في القارة الإفريقية. ومن هذا الباب يطرح طبيعة التنافس بين القوى الكبرى ووجوه استخدامها للانقلابات لضمان تحقيق مصالحها الخاصة في دول القارة الإفريقية أو يبحث في العلاقة بين الانقلابات الفاشلة في دول القارة وتنامي ظاهرة التنظيمات الإرهابية والجماعات المسلحة. وهذا العامّ الشّامل ما حاولنا التركيز عليه في ورقتنا.

ـ 3 ـ

بديهي أن الانقلابات في القارة الإفريقية على صلة عميقة بالمستوى السياسي، من جهة الأسباب والمظاهر والنتائج. فتتعلّق الأسباب غالبا بتأمين الموارد والمعادن. فقد كانت إفريقيا تخضع لمستعمريْها القديمين فرنسا وبريطانيا قبل أن تتخلى الولايات المتحدة الأمريكية عن سياسة الانعزال بعد الحرب العالمية الثانية وتسعى إلى "تدارك زمنها الضائع". ولكن ما إن بدأ الأمر يستقر لها حتى ظهرت  قوى دولية صاعدة أخرى من قبل الصين وروسيا وإيران لها استراتيجياتها ورهاناتها لتنافسها بدورها. وعليه مثّل تعارض مصالح الفاعلين الدوليين العامل الحاسم في دعم طرف على حساب طرف آخر من أجل الوصول إلى الحكم بغية تأمين مصالحهم.

ويتخذ الكتاب من بوركينا فاسو الغنية بالذهب أنموذجا لشرح المسألة. فتقليديا تخضع البلاد للهيمنة الفرنسية. ولكنّ  دولا أخرى كانت تطمح دائما لوضع موطئ قدم في البلاد لنيل "حصتها من معادن البلاد". ولا بدّ لها من أطراف داخلية تساعدها في مسعاها. وهذا ما يفسّر عدد الانقلابات المهول. فقد بلغ عدد المحاولات التي أوصلت عسكريين إلى الحكم بالفعل ثمانية. وكان ذلك في الأعوام 1966 و 1980 و1987 و2003 و 2014 و2015و 2022 (جانفي) و 2022 (سبتمبر) فيما فشلت أربع محاولات أخرى في الأعوام 1983 و 1989 و 2003 و 2016. وكان آخر الانقلابات موجها ضدّ الهيمنة الفرنسية على نحو معلن ولكن تم تعويض وجودها بالوجود الروسي ممثلة في ذراعها العسكرية فاغنر.

وكان مبرّر من يدبّرون الانقلابات دائما هو "مقاومة الفساد السياسي" و"التصدي للدكتاتورية وغياب الديمقراطية" و"العمل على الإصلاح السياسي والاقتصادي". ولكن الواقع يؤكد أنها غالبا ما تكون انقلابات مدبرة لخدمة أجندات القوى الدولية الكبرى وإستراتيجياتها. ويمكن أن نتبيّن الأطراف المستفيدة من هذا الانقلاب أو ذاك والاطراف الخاسرة منها بالنظر إلى بيانات الدّول المساندة لمثل هذه الأعمال العسكرية أو المعارضة لها. وتكون قيم "الديمقراطية وحقوق الإنسان وضمان الحريات الفردية والجماعية" أو "التداول السلمي على السلطة" غطاءً أخلاقيا لهذه المواقف.

يقول الباحث نافع علي وهو يشرح هذه الأبعاد: "ومن خلال ما سبق، يمكن القول إنّ الانقلابات العسكرية في القارة الإفريقية، هي أداة لخدمة مصالح ونخب وسياسية واقتصادية داخلية معينة، أو مصالح وإستراتيجيات لقوى دولية خارجية".

ولهذه الانقلابات أسباب أخرى محرّكة. منها ضعف قوى المعارضة والمجتمع المدني التي تفرض أصحاب النفوذ من استغلال نفوذهم للانحراف بالسلطة. فيتراجع دور المؤسسات لصالح الممارسات الدكتاتورية، ويتّجه الحكّام إلى توريث السلطة إلى ذويهم. ومنها الصراعات والانقسامات العرقية، ومنها تفشي ظاهرة المحسوبية وغياب مفهوم المواطنة والولاء إلى انتماء أضيق من الوطن كالقبيلة أو العشيرة.

وبديهي أن المواطن الإفريقي من يدفع فاتورة التكالب على مقدرات بلاده. ففضلا عن ترسيخ ممارسة الديمقراطية الزائفة وتحويل قيمها وإجراءاتها إلى عملية شكلية وغرس الخناجر في خصرها تحت عنوان حمايتها ودعمها، تخلف هذه الانقلابات الآثار الجسيمة على الاقتصاد والتنمية وعلى الاستقرار الاجتماعي.

ـ 4 ـ

لا يمكن الفصل بين السياسي والاقتصادي. فإفريقيا تظل أرضا بكرا رغم كل ما تعرّضت له من النهب. وثرواتها وموادها الأولية التي يمكن أن تجعل شعوبها تعيش الرخاء، تحوّلت إلى لعنة بسبب السياسية الاستعمارية التقليدية المباشرة أو الحديثة التي تتم عبر وكلاء من أهل البلاد. ورغم أن أرضها تضم ما مقداره   12 في المائة من احتياطي النفط في العالم و 10 في المائة من احتياطي الغاز و 90 في المائة من البلاتن و40 في المائة من الألماس و 30 في المائة من الأورانيوم، ورغم أنّ هذه المعادن والمواد الأولية  تستخدم في العقاقير والتكنولوجيا وفي الصناعات العسكرية المتطورة فإننا لا نجد أثرا لكل هذا الثراء في حياة شعوبها. وعلى العكس تماما جعلت منها مقدّراتها ميدانا للتنافس بين القوى الدولية الكبرى شأن الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وألمانيا وروسيا والصين.

يجد الكتاب في هذا التنافس وتصاعد وتيرة الانقلابات العسكرية صلة مباشرة. فهذه القوى دأبت على استغلال الضعف المؤسساتي في الدّول الإفريقية لفرض شروطها وكسب الحق في النّفاذ إلى هذه المقدّرات. بالمقابل، وحين لا تنال ما تريد لموقف وطني من الحكّام أو لتعملهم مع طرف آخر كان الأسبق في استمالتهم، تلجأ إلى القوّة ناعمة كانت أو صلبة. فيذكر الأثر ما حدث في بورندي 2015 على سبيل المثال. فقد منحت السلطات عقود الامتياز إلى الصين وروسيا على حساب القوى الغربية التقليدية التي تهيمن على إفريقيا. وكانت النتيجة أن اندلعت أزمة داخلية تدعمها هذه الأطراف الخارجية.

ـ 5 ـ

يقارن بين الصين والولايات المتّحدة لاعتمادهما لسياسات متباينة. فسلاح الصين  هو القوة الناعمة. فلا تتدخّل في الشؤون الداخلية للدول وتعمل على عقد الاتفاقيات التي تستديم الاستفادة من الموارد الإفريقية بصرف النّظر عن الأنظمة القائمة. أما الولايات المتحدة الأمريكية التي لا ترى في إفريقيا غير خزان للموارد وتستغل عدم وعي المسؤولين بمقدرات بلدانهم أو هشاشة مواقفهم السياسية، فتدعم الدّول التي تحمي مصالحها الاقتصادية والجيو ـ سياسية بشكل استعراضي وتنشئ القواعد عسكرية لحماية مصالحها، وتخلق بؤرا للتوتر لبيع الأسلحة. أما فرنسا تعتمد على إرثها التاريخي وعلى ولاء النخب السياسية الفرونكفونية وارتباط مصالحهم بالثقافة الفرنسية.

يلاحظ محررو هذا الكتاب صلة وثيقة بين الانقلابات العسكرية في القارة الإفريقية وتزايد نشاط التنظيمات الإرهابية. فيجعلون من العلاقة بينهما موضوع دراسة تنتهي إلى أن هذه التنظيمات قد استطاعت التكيّف مع البيئة الإفريقية لاستغلال واقعها السياسي والأمني والاجتماعي وتوفير حواضن اجتماعية أو ملاذات آمنة.
ـ 6 ـ

ويلاحظ محررو هذا الكتاب صلة وثيقة بين الانقلابات العسكرية في القارة الإفريقية وتزايد نشاط التنظيمات الإرهابية. فيجعلون من العلاقة بينهما موضوع دراسة تنتهي إلى أن هذه التنظيمات قد استطاعت التكيّف مع البيئة الإفريقية لاستغلال واقعها السياسي والأمني والاجتماعي وتوفير حواضن اجتماعية أو ملاذات آمنة. فأفادت من ضعف تأمين الحدود بسبب الانقلابات العسكرية وما يرافقها من صدامات أهلية وفراغ أمني. أو استغلت القدرات المحدودة لبعض الثكنات لمهاجمتها والحصول منها على العتاد (حدث ذلك في معسكرات إينتاتيس في النيجر وأنديلماني في مالي وكوتوغو في بوركينا فاسو) وكانت هذه التنظيمات تعرض فيديوهات توثق ذلك في إطار الدعاية والحرب النفسية، وأفادت من فساد النخب السياسية والقادة العسكريين. فقدمت الرشى لتسهيل تهريب السلاح وتمكين جهادييها من عبور الحدود بحرية.

وقد ثبت التورط المباشر لعناصر من الجيوش الإفريقية في التعاون مع التنظيمات الإرهابية. وبهذه الشبهة فصل الجيش البوركيني عام 2011 على سبيل المثال 566 فردا من عناصره. وكثيرا ما عقدت تحالفات مع بعض القبائل ووثقت علاقتها بها عبر المصاهرة. وووفرت لمجتمعاتها المحليةبعض المتطلبات وساعدتهم بطرق شتى مقابل توفير هذه الحاضنة.

ـ 7 ـ

ينتهي الكتاب إلى تقديم جملة من التوصيات في كل محور يطرقه. فيدعو إلى تعميم الثقافة السياسية التي تؤمن بالاختلاف السياسي وتعمل من أجل تنمية شاملة إفريقية ومستدامة. ويلح على تحييد المؤسسات العسكرية من العمل السياسي وعلى تأسيس العلاقات الإفريقية مع مختلف القوى الدولية على أساس الشراكات المتوازنة القائمة على منطق ربح كافة الأطراف، وليس علاقات أفرو دولية قائمة على الاستغلال غير المشروع الموارد القارة. لتكون القارة الإفريقية جزءا من النظام الدولي. ويوصي بتنشئة الإنسان الإفريقي ثقافيا وسياسيا على التداول السلمي الديمقراطي على السلطة والحكم، وليس عبر الانقلابات العسكرية.

ولكن، رغم جديّة البحوث لا يسعنا إلا أن نبدي جملة من الملاحظات حول الكتاب برمّته.

فالسؤال الذي يطرح هنا هو إلى من يتم توجيه هذه القائمة من التوصيات والأمر يتعلّق بعسكريين يغامرون بحمل السلاح في وجه السلطات التي يتلقون منها الأوامر في الأصل فيقامرون بحياتهم في سبيل الحكم؟ 

يذكر الكتاب 7 دول شهدت 9 انقلابات في السنوات القليلة الماضية، هي مالي والسودان وغينيا وبوركينا فاسو وتشاد والنيجر والغابون. ويشير إلى أنّ ستة منها هي مستعمرات فرنسية. هذا يعني أن الكتاب لا يصنف ما حدث في 25 جويلية 2021 في تونس بالانقلاب. ولا يشرح الباحث أ. أشرف عبد العزيز المدير العام السابق للشؤون السياسية بإذاعة صوت العرب، وصاحب هذا التصنيف إن كان السكوت عن الحالة التونسية عائدا إلى أنّ الأمر لا يتعلّق بوصل عسكريين إلى الحكم. من هذه الناحية يكون التبرير وجيها. ولكن الباحث لا يشرح وجهة نظره.
التعليقات (0)