كتب

العرب من حلم الوحدة إلى كابوس التشذر والتفكك.. قراءة في كتاب

لقد باتت فكرة الوحدة الاندماجية تصورا ساذجا للتكامل بين الدول، فأوروبا نفسها أصبحت تعاني من النزعات الانفصالية.
لقد باتت فكرة الوحدة الاندماجية تصورا ساذجا للتكامل بين الدول، فأوروبا نفسها أصبحت تعاني من النزعات الانفصالية.
الكتاب: مشكلات الحدود السياسية في الوطن العربي: قنبلة موقوتة زرعتها الدول الاستعمارية
الكاتب: صبري فارس الهيتي
الناشر: دار آريثيا للنشر والتوزيع، الخرطوم – السودان، ط1، 2024.
عدد الصفحات: 110 صفحة

ـ 1 ـ

يبلغ عدد البلدان العربية 22 دولة. وليس تضخّم العدد هنا غير مؤشر سلبي يعكس تشرذم العرب وكثرة المشاكل الحدودية بين دولهم. ولعل ذلك ما يفسر المفارقة العربية الكبرى. فلهذه البلدان المشتركة كل مقومات النهضة والرقي والتقدم والرخاء، فهم أصحاب حضارة ضاربة في التاريخ، أفادت من روافد كثيرة كانت تصب جميعا في تغذية المكون العربي. وهم يمتلكون ثروات طبيعية كبرى من نفط وغاز ومعادن، وأراضي صالحة للزراعة تمنحهم المكانة في عالم لا يعترف إلا بالأقوياء، وموقعهم الجغرافي الذي يصل بين قارتي آسيا وأفريقيا وطول سواحلهم البحرية، يمنحانهم بعدا جيو ـ سياسيا مميّزا. ولكن الحاصل مخالف تماما؛ فأغلب هذه البلدان مفقّرة أو منقسمة أو محتلة، فاقدة لسيادة القرار بفعل مؤامرات دولية حيكت ضدّهم، أهمها معاهدةُ سايكس بيكو التي وضعت حدودا مصطنعة بين البلدان العربية، ومهّدت لاقتسام منطقة الهلال الخصيب. ووعدُ بلفور الذي منح فلسطين وطنا قوميا لليهود.

يعود الكتاب "مشكلات الحدود السياسية في الوطن العربي: قنبلة موقوتة زرعتها الدول الاستعمارية" للباحث صبري فارس الهيتي إلى مشكلة الحدود وما يكمن خلفها من المشاكل. فيجد فيها خطرا يزعزع الأمن القومي العربي، وييسر إخضاعه لنهب ثرواته. فـ"قد خلقت تلك الدول التي استعمرت دولنا العربية عندما خطّطت الحدود السياسية بين تلك الدول، إلى زرع مشكلات بينها، هي بمنزلة قنابل موقوتة تنفجر متى أرادت تلك الدول الطامعة، لتزيد الفرقة ولتتمكن من الهيمنة على شؤون الدّول العربية ولتبيعها مزيدا من الأسلحة، وتتركها معتمدة عليها اقتصاديا، وتستنفد مواردها وطاقة أبنائها".

ـ 2 ـ

يفصل الكتاب المشكلات الحدودية بين البلدان العربية، فيبرز مدى تعقد المشاكل الحدودية بينها، رغم أنّ أغلبها عمل على تجاوز خلافاته أو تلافي الصدام بسببها على الأقل. فمن المشاكل بين بلدان عرب آسيا، يمكننا أن نذكر النزاعات الحدودية بين قطر والبحرين حول بعض الجزر والممرات البحرية، وقد تم تجاوزها بعد أن حسمتها محكمة العدل الدولية في لاهاي، بناء على حكمها النهائي. أو النزاع بين قطر والسعودية، الذي حسم بدوره في نيسان/ أفريل 1996، ووُقع اتفاقه في 20 آذار/ مارس 2001 في الدوحة. وللسعودية خلافات حدودية  حول بعض الأبار النفطية وكيفية استغلالها، توتّر علاقاتها بالإمارات العربية المتّحدة أو الكويت. ولكن عامّة تنتهي دول الخليج إلى حلّ مشاكلها ودّيّا.

ومن المشاكل الحدودية بين عرب أفريقيا، مشكلة حلايب التي تؤثر على علاقة مصر بالسودان، أو ادعاء أثيوبيا حقّها في السيطرة على أقليم أوغادين الصومالي، أو بعض الخلافات تم تجاوزها بين تونس وكل من الجزائر شمالا وليبيا جنوبا. ويميل الباحث إلى التبسّط في تفصيلها وفي ردّها إلى أسبابها القريبة أو البعيدة. ولكنّ ورقتنا ستتوقّف عند معضلتين ظلّتا تمنعان قيام علاقات طبيعية بين أطرافها، هما: المشكلة الحدودية بين العراق والكويت في الخليج، ومشكلة الصحراء الغربية من جهة المحيط.

ـ 3 ـ

يمثّل الخلاف الحدودي بين العراق الكويت أعوص المشاكل الحدودية العربية، بالنظر إلى نتائجه الكارثية على البلدين وعلى المنطقة بأسرها وعلى القضية الفلسطينية، وبالنظر إلى تداعياته الدّولية الخطيرة؛ كالاحتلال الأمريكي للعراق، وتطويق إيران القوةِ الإقليمية الأكبر لبلدان الخليج العربي، واصطناعها لوكلاء لها، في ما بات يسمى بالهلال الشيعي يدافع عن مصالحها نيابة عنها، ويقدّم الانتماء المذهبي على الانتماء الوطني.

يبلغ عدد البلدان العربية 22 دولة، وليس تضخّم العدد هنا غير مؤشر سلبي يعكس تشرذم العرب وكثرة المشاكل الحدودية بين دولهم، ولعل ذلك ما يفسر المفارقة العربية الكبرى؛ فلهذه البلدان المشتركة كل مقومات النهضة والرقي والتقدم والرخاء، فهم أصحاب حضارة ضاربة في التاريخ، أفادت من روافد كثيرة كانت تصب جميعا في تغذية المكون العربي، وهم يمتلكون ثروات طبيعية كبرى من نفط وغاز ومعادن وأراضي صالحة للزراعة، تمنحهم المكانة في عالم لا يعترف إلا بالأقوياء.
ولسنا في حاجة إلى عرض تفاصيل الغزو العراقي سنة 1991، لما اشتدت المشاكل بين البلدين في مرحلة ما بعد حرب الخليج الأولى، وقرّر صدام حسين شطب دولة الكويت وضمها إلى العراق؛ بحجة تابعيتها لها تاريخيا. ولكن الباحث يلقي باللائمة على مجلس الأمن ويرصد قائمة في ما اعتبرها إخلالات وتحيزا للطرف الكويتي، والتعسف على القوانين الدولية. فهو "بعبارة أدق فرض وجهة نظر مغايرة تماما لمصلحة العراق، دون أي أساس أو اعتبار قانوني لاعتماد خارطة قام برسمها مدير عام المساحة العسكرية في المملكة المتحدة في عام 1989-1990، وكان الأجدر والأصح قانونيا، اعتماد الخرائط أو المخططات التي رسمت أو شارك برسمها أو وضعها طرفا العلاقة في الترسيم، وهما العراق والكويت".

ويعرض الباحث شيئا من هذا الخلاف قبل الغزو وبعد التحرير. فأول ترسيم للحدود حدث بين الكويت والدولة العثمانية في العام 1913 بموجب المعاهدة الأنجلو- عثمانية، ثم طلب نوري السعدي رئيس الوزراء العراقي من الحاكم البريطاني للكويت في العام 1932 تعديلات تشتمل على تفصيلات كثيرة. وفي عام 1963 أي في مرحلة ما بعد استقلال البلدين وانصرافهما إلى بناء الدولة الوطنية، وقع محضر اتفاق بين أحمد حسن البكر رئيس جمهورية العراق، وصباح السالم الصباح، وتضمن اعتراف الجمهورية العراقية باستقلال دولة الكويت وسيادتها التامة بحدودها المبينة بكتاب رئيس وزراء العراق المؤرخ 21 تموز 1912، الذي وافق عليه حاكم الكويت بكتابه المؤرخ 10 آب 1932. واليوم، يعاد فتح ملف مشكلة الحدود البحرية بين العراق والكويت، بعد التصديق العراقي على الاتفاقية الملاحية مع الكويت في خور عبد الله.

يرى الباحث أنّ الكويت استغلت حالة الهوان التي يعيشها العراق، وأرادت بمشروعها ميناء (مبارك الكبير) عام 2005 في ساحل الفاو على الساحل الشرقي من الجزيرة بوبيان، خنقه وحرمانه من ارتباطاته في مكان حساس يعترض خطوط السفن المتوجهة إلى موانئه. ولهذه الأسباب كلّها، طلبت الحكومة العراقية توثيق احتجاجها الرسمي على ما اعتبرته قيام حكومة الكويت بإحداث تغييرات جغرافية في المنطقة البحرية الواقعة بعد العلامة 162 في خور عبد الله. أضف إلى ذلك أن عمليات الحفر والردم، وإنشاء السواتر الخراسانية في خور عبد الله، تهدد الثروة السمكية في المياه الإقليمية العراقية، وتعصف بمصدر رزق آلاف العراقيين من سكان المناطق الجنوبية. وعليه فـ"يؤكد المراقبون، وفق الباحث، أن الأزمة المستمرة بين العراق والكويت حول الحدود البرية والبحرية، ستبقى مستمرة، بل إن هناك من يؤكد أنها بمنزلة المدينة الموقوتة".

ـ 4 ـ

تمثل قضية الصحراء الغربية وجعا ممضّا، يحول دون بناء المغرب الكبير ويجهض أحلام التعاون بين شعوبه للسير في ركب النموّ والتطوّر، رغم ما بين اقتصاديات دولها من إمكانات تعزّز التكامل وتحدّ من التّبعية إلى الغرب. فقد ولّدت عداوة بين الجارين الكبيرين المغرب والجزائر، وصل حدّ التلاسن بين قادتهما وقطع العلاقات الدبلوماسية وغلق الحدود والأجواء.

حتى نفهم وجوه التعقيد في هذه القضية، لا بدّ من العودة إلى الماضي، وإن بشكل برقي خاطف. فتاريخيا كانت الصحراء التي تفصل بين المغرب وموريتانيا موطنا لأمازيغ صنهاجة، أولئك البدو الذين يعيشون في نظام قبلي فيرتحلون في ربوع صحرائهم؛ بحثا عن الماء والكلإ لمواشيهم. ولكنّ التحوّل الكبير حدث في القرن الخامس الهجري، لما أسسوا دولة المرابطين التي بسطت سيطرتها على المغرب والأندلس، بعد أن استنجدت بها ملوك الطوائف. ولاحقا، في أثناء ما سمي عندنا بعصور الانحطاط وتراجع قوة العرب، تداولت السيطرة عليها كل من هولندا وفرنسا وإسبانيا، وكانت في مطلع القرن العشرين موضوعا لترتيبات فرنسية إسبانية سرية، منحت إسبانيا حرية الهيمنة عليها في إطار تقاسم الغرب الإسلامي بين القوى الاستعمارية.

وفي العصر الحديث وبعد نجاح حركات التحرر في دحر الاستعمار، وفي ظل تزايد نشاط مناهضة الاستعمار الإسباني، طالبت الجمعية العامة للأمم المتحدة باستفتاء تقرير مصير الصحراء الغربية في تشرين الأول/ أكتوبر 1975، ولكن في الشهر نفسه، أصدرت محكمة العدل الدولية قرارا يعترف بوجود علاقات تاريخية بين الصحراء الغربية من جهة والمغرب وموريتانيا من جهة ثانية. وفي الآن نفسه، ينفي أي "روابط للسيادة الترابية بين أراضي الصحراء الغربية من جهة، ومملكة المغرب أو مجموع التراب الموريتاني من جهة أخرى".

في هذه الأثناء، كانت المملكة المغربية قد تخلّت عن المطالبة بضم موريتانيا؛ فقد كان على الملك الحسن الثاني أن يستقبل المختار ولد دادة في الرباط بصفته قائدا للدولة المستقبلة لقمة منظمة المؤتمر الإسلامي، وبصفة الضيف رئيسَ دولة عضو في المنظمة. وعلى هامش هذه الزيارة، فشل العاهل المغربي في إقناع ولد دادة بفيدرالية تضم دولتين مستقلتين، ولم يبق له إلا الاعتراف بسيادة دولة موريتانيا. وأكَّدت الجزائر خلال مؤتمر نواذيبو (1970) دعمها لأيّ جهد مغربي موريتاني لإنهاء الاستعمار الإسباني في الإقليم وحيادها في الملف، ولكنّ تشعبات كثيرة طرأت بداية من اتفاق مدريد 1975، الذي تقاسمت بموجبه المغرب وموريتانيا الإقليم الغني بمنتجاته البحرية واحتياطيات الفوسفات والمخزونات النفطية، فاندلعت مواجهة عسكرية دامية بين البلدين من جهة، وجبهة البوليساريو من جهة ثانية، بدعم من  الجزائر وليبيا. ومن تبعات التحوّل في القرار الجزائري، أن قطع المغرب علاقاته الدبلوماسية مع جارته، وطردت الجزائر المغاربة المقيمين على أراضيها، واستقبلت المتمردين الصحراويين قرب تندوف بالمقابل. ثم إطاحة الجيش الموريتاني برئيسه على خلفية تورطه في النزاع المسلح، وتوقيع خلفه اتفاق سلام مع جبهة البوليساريو  في الجزائر في آب/ أوت من عام 1979. ومنذ ذلك التاريخ، تُرابط القضية مكانها وتخلق الكثير من التشنج بين الدولتين الجارتين أساسا، وكثيرا ما يشمل بقية دول الجوار لتشابك المصالح والصلات بينها.

ـ 6 ـ

إنّ التصادم بين العراق والكويت في شرق الوطن العربي وتصادم الجزائر والمغرب في غربه، نشبهه بطائر مهيض الجناحين مكسور الفؤاد بفعل الاحتلال الإسرائيلي. فكيف له أن يحلّق عاليا؟ لا شكّ في أن أغلب الحدود بين الدول العربية مصطنعة وأنّ وجودها على صيغتها تلك أسهم في خلق توتر بينها. ولكن هذا التذمر المستمر من تفكك البلدان العربية، يخفي رغبة في أن يكون الوطن العربي دولة واحدة مترامية الأطراف، كالصين مثلا، قادرة على ضمان الرخاء لمواطنيها وعلى الدفاع عن مصالحها وصدّ المؤامرات الخارجية. ونحن لم نختر كتاب "مشكلات الحدود السياسية في الوطن العربي: قنبلة موقوتة زرعتها الدول الاستعمارية" في ورقتنا هذه إلا لنناقش أطروحته الرئيسية. ومختزلها أنّ انقسام العرب إلى دويلات عنصر وهن، وأنّ خلاصهم في وحدتهم الاندماجية.

غياب الحدود داخل القطر الواحد اليوم، لم يمنع قيام الحروب الأهلية بسبب الرغبة في الانفراد بالسلطة. والسودان والصومال وليبيا والعراق وسوريا واليمن ولبنان عينات تثبت دعوانا. فكيف سيكون الأمر في حال الوحدة الاندماجية؟
لا نقدّر أبدا بإمكانهم أن يشكلوا وطنا واحدا موحدا وحدة اندماجية من المحيط إلى الخليج في وضعهم والوضع الدّولي الراهنين على الأقل. والقول بأنّ العرب تشتّتوا بعد استعمارهم، لا يخلو من مغالطات تاريخية. والقول بأن غياب هذه الوحدة وحده المسؤول عن تقهقر أوضاعهم، هروب من البحث عن حلول عملية تجمع شكلهم. ويكفي أن نستحضر جملة من الحقائق في شكل إشارات سريعة للبرهنة على ذلك:

ـ لم تكن البلدان العربية يوما إقليما واحدا موحّدا خاضعا لسلطة مركزية واحدة، وإنما كانت تنقسم باستمرار إلى إمارات خاضعة للسلطة المركزية صوريا غالبا، وإلى أقاليم متمردة. وكانت الحدود بينها مائعة يعاد رسمها في كل حين.

ـ غياب الحدود داخل القطر الواحد اليوم، لم يمنع قيام الحروب الأهلية بسبب الرغبة في الانفراد بالسلطة. والسودان والصومال وليبيا والعراق وسوريا واليمن ولبنان عينات تثبت دعوانا. فكيف سيكون الأمر في حال الوحدة الاندماجية؟ فالديمقراطية نفسها ليست قادرة على ضمان استقرارها، طالما أن الانتخابات عندنا تتم على أساس العرق والدين والمذهب والقطر، لا على أساس الأفكار  البانية للدول والضامنة لمناعتها. ووطن عربي واحد في هذه الظروف، سيكون صورة مكبرة من لبنان التي يتناحر فيها المسيحيون والدروز والسنة والشيعة على أساس طائفي.

ـ 7 ـ

لقد باتت فكرة الوحدة الاندماجية تصورا ساذجا للتكامل بين الدول. فأوروبا نفسها أصبحت تعاني من النزعات الانفصالية. وبالمقابل أثبتت تجربة الاتحاد الأوروبي أن هذه الحدود يمكن أن تصبح أشبه بالخطوط الوهمية حينما نتجاوز هذا التقسيم، عبر التكامل والتنسيق وتأسيس سوق مشتركة ومعاهدات للدفاع المشترك. وهنا، لا بدّ أن نستحضر رحلة تأسيس عملة اليورو، التي أصبحت العملة الاحتياطية الثانية في العالم بعد الدولار؛ فقد وحّدت أغلب الدول الأوروبية اقتصاديا وباتت عنوانا لتكاملها. ومن هذا النموذج، يظل صالحا للتطبيق بين البلدان العربية ويمثل غُنما كبيرا لشعوبها.
التعليقات (0)