يمر النظام الإقليمي العربي بأسوأ حقبة في تاريخه منذ بداية عصر مقاومة الاستعمار وبناء مقومات الاستقلال الوطني، وفقد القدرة على مواجهة التهديدات المصيرية، أو مقاومتها، ما جعل الشعوب العربية مكشوفة للعدوان الغاشم من أعدائها، وجعل الأرض والأجواء العربية مستباحة لكل الطامعين، وأولهم إسرائيل. ومع أن إسرائيل ليست التهديد الوحيد الذي تواجهه الشعوب العربية، فإنها أشد وأكثر التهديدات قسوة.
إسرائيل تعود الآن إلى احتلال أراض كانت قد انسحبت منها في
سوريا بعد حرب 1973، وأراض كانت قد انسحبت منها في لبنان عام 2000، كما إنها تحتل الآن قطاع غزة الذي كانت قد انسحبت منه عام 2005، كما تمارس فعليا مهام سلطة
الاحتلال في الضفة الغربية والقدس الشرقية رغم اتفاقيات أوسلو، التي تضمنت خطوات لإقامة سلطة وطنية فلسطينية في الضفة والقطاع والقدس الشرقية.
فوق ذلك فإن إسرائيل بمساعدة
الولايات المتحدة عسكريا ودبلوماسيا، تفعل كل ما تريد تقريبا، وتشهر سيف التهديد ضد أي قوة عربية تحاول امتلاك القدرة على مقاومة هيمنتها.
وتسعى إسرائيل صراحة إلى بناء ما تسميه «سلام القوة» في المنطقة، وهو ما نراه يتشكل بمعدلات متسارعة منذ عام 2020 عندما تم توقيع ما يعرف بـ»اتفاقيات إبراهيم» في واشنطن تحت رعاية دونالد ترامب، الذي يعود مجددا إلى البيت الأبيض رسميا ليتولى مسؤوليات الحكم في 20 من الشهر المقبل.
سلام القوة
ولا يلوح في الأفق ما يشير إلى وجود مقاومة حقيقية لمشروع السلام الإسرائيلي في المنطقة العربية. على العكس من ذلك يوجد قدر كبير من الترحيب بعودة ترامب إلى البيت الأبيض، واستعدادا أكبر لعقد صفقة مع نتنياهو، ليس فقط من باب اتقاء شر إسرائيل، ولكن، وهذا هو الأهم بالنسبة للحكام، من باب توفير قدر من الهدوء الذي يحمي حكومات دول المنطقة من تداعيات الحروب المشتعلة منذ أكتوبر 2023 حتى الآن، خصوصا بعد هروب الأسد من سوريا.
الوضع الحالي في سوريا يزيد احتمالات اتساع رقعة الحروب الداخلية الصغيرة، الجارية في سياق تعزيز أوضاع التنظيمات والجماعات المسلحة على الأرض، ما يهدد الاستقرار الداخلي في بلدان مثل المملكة الأردنية ولبنان والعراق والسلطة الوطنية الفلسطينية، إضافة إلى صب الوقود على الوضع الملتهب في الضفة الغربية، والكارثة الإنسانية التي يعيشها فلسطينيو غزة للعام الثاني على التوالي. ولا يبدو الطريق إلى إقامة نظام جديد في سوريا سهلا، كما أن الأمور يمكن أن تسوء أكثر في المنطقة ككل، في حال حصلت إسرائيل على ضوء أخضر من الولايات المتحدة لشن هجوم على
إيران. تداعيات مثل هذا الهجوم قد تشعل حربا أكبر في المنطقة، تكون دول الخليج ضحية لها.
ورغم أن إسرائيل تعتقد أنه يمكن إقامة محور عربي سني تحت قيادتها، فإن هذا الاعتقاد ينطوي على مبالغة شديدة في التفاؤل، لأن الدول والقوى العربية التي تدين بالمذهب السني بينها من الخلافات ما يهدد بنسف أي محور تنضم إليه.
ويتوزع الولاء السياسي للمسلمين السنة على أربعة تيارات رئيسية. الأول هو تيار أغنياء العرب السنة في دول الخليج وحلفاؤهم، وهو تيار يعيش في أحضان الولايات المتحدة، ويرى أن مصالحه أقرب إليها. وفي داخل هذا التيار يوجد تنافس حاد بين الإمارات والسعودية.
الثاني هو تيار الإسلام السياسي السني تحت قيادة
تركيا، ويضم حركات سياسية وعسكرية تمتد في بلدان شرق البحر المتوسط وشمال افريقيا والقرن الافريقي.
أما التيار الثالث فإنه يتمثل في «السلفية الجهادية»، ويضم جماعات «القاعدة» و»داعش» بمسمياتها وفروعها المختلفة، وهي تعمل في نهاية الأمر على أرضية المرجعية السلفية السنية.
أما التيار الرابع، وهو أضعفهم جميعا في الوقت الحالي فهو تيار القوى السياسية المدنية. وتمثل سوريا حاليا ساحة للتنافس بين تلك التيارات الأربعة، إضافة إلى تيارات أخرى قومية أو مذهبية. ويمكن أن يؤدي اختلاف مصالحها لإطالة أمد الصراع، وربما امتداد نيران الحرب إلى بلدان أخرى، في حال عدم التوصل إلى صيغة شاملة ومستدامة لتحقيق الاستقرار.
السبب في ذلك يعود أولا إلى هشاشة الدولة في العالم العربي، وعدم نضج مفهومها لدى الحكومات إلى أبعد من حدود البقاء في الحكم، ما يقلل قدرتها على الفعل. كما يعود ثانيا إلى حالة اللانظام الإقليمي، حيث تغيب مبادئ وقواعد تنظيم سلوك اللاعبين، ما يؤدي إلى محاولة تفصيل حلول مختلفة للأزمات الإقليمية، من دون مبادئ ومعايير متفق عليها مسبقا.
هذا الوضع يفتح الباب لتعاظم أحلام النفوذ من دول الجوار في المنطقة، ومن خارجها، مدفوعة بمحركات مختلفة تاريخية أو أيديولوجية أو مذهبية أو سياسية، منها مبدأ الولاية الدينية، مثل ولاية إسرائيل السياسية على كل يهود العالم، أو ولاية السعودية على كل مسلمي العالم. ومنها مبدأ الولاية المذهبية، مثل ولاية إيران على كل المسلمين الشيعة. أو مبدأ الولاية التاريخية، مثل النزعة التركية للتمدد والنفوذ داخل العراق وسوريا.
ويعتبر هنري كيسنجر في كتابه «النظام العالمي» أن مفهوم سيادة الدولة في المنطقة العربية مفهوم هش، ويشكل معضلة في إدارة العلاقات الإقليمية، بسبب الاعتقاد في مبدأ امتداد ولاية الدولة إلى مواطنين يعيشون خارج حدودها في دولة أخرى، وهو ما يمنحها، من وجهة النظر هذه، الحق في التدخل في الشؤون الداخلية لغيرها من الدول، وذلك على العكس مما تقضي به قواعد «السلام الوستفالي»، التي تم إقرارها في أوروبا عام 1648، وتتضمن احترام سيادة الدول الأخرى، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، والالتزام باحترام سلامة حدودها ووحدة أراضيها، وحل ما قد ينشأ من منازعات بالطرق السلمية.
قوة الدبلوماسية
وإذا أخذنا سلوك اللاعبين السنة في سوريا مثالا، فسوف نجد أن تركيا التي تقود تيار الإسلام السياسي البراغماتي، تعتبر أن لها ولاية سياسية على المجتمع التركماني، وهي تدعم هذا المجتمع سياسيا وعسكريا، بواسطة مساعدات مؤسسية إلى كل من «الجيش الوطني السوري» و»الحكومة السورية المؤقتة» في إدلب.
ويتم حاليا تعزيز قوة الجيش الوطني السوري للسيطرة على المنطقة الكردية الفاصلة بين مدينتي «منبج» و»كوباني» على الحدود السورية التركية.
ومن المعروف أن الإمارات العربية المتحدة، وهي ضمن التيار السني كانت تدعم إعادة بشار الأسد إلى أحضان الشرعية السياسية العربية، وهي تعمل كذلك ضد توسع نفوذ جماعات الإسلام السياسي، ليس في سوريا فقط، ولكن في كل أنحاء العالم العربي وأوروبا الغربية. ومع أن الدول العربية السنية ترى في نفوذ الجماعات السلفية الجهادية تهديدا لها، ومن مصلحتها اجتثاثها تماما، لأنها تمثل تهديدا داخليا لها، فإن كلا من إسرائيل والولايات المتحدة من مصلحتهما الإبقاء على وجود محدود تحت السيطرة لهذه الجماعات، كأداة من أدوات السياسة الخارجية.
وتستخدم الدولتان طرفا آخر هو أكراد سوريا من أجل التأثير في تفاعلات الحرب والسياسة. ويعتبر وجود «قوات سوريا الديمقراطية» سلاحا رئيسيا من أسلحة التقسيم المحتمل لسوريا، وتجزئتها إلى دويلات صغيرة.
الدول العربية لا تملك غير دبلوماسية الشجب أو التأييد، وهي دبلوماسية كسيحة
تملك الولايات المتحدة وإسرائيل وتركيا وإيران وروسيا قوات على الأرض في سوريا، لكن الدول العربية لا تملك غير دبلوماسية الشجب أو التأييد، وهي دبلوماسية كسيحة في الحالة الراهنة، لن تنال في سورية حظا أكبر من ذلك الذي نالته في فلسطين ولبنان. ويتردد خلال المفاوضات الجارية المتعلقة بالوضع في لبنان أو سوريا أو فلسطين، أن كل شعب من شعوب تلك البلدان هو من يقرر مصيره واختياراته السياسية. هذا كلام يتردد في المجالس المعلنة والتصريحات الإعلامية فقط.
الحقيقة أن الشعب السوري في الوضع الراهن ليس حرا في تقرير اختياراته، لأنه يخضع لاعتبارات تخص مصالح الولايات المتحدة (الأكراد)، ومصالح تركيا (التركمان) ولكل منهما قوات على الأرض.
كما يجب أن يأخذ في الاعتبار مصالح السعودية، لأن إرضاء الرياض يشجعها على المشاركة في تمويل إعادة البناء. وهناك أيضا مصالح إسرائيل، لأنه من دون موافقة إسرائيل فإنها ستهدم بالقوة الغاشمة أي إعمار. وينطبق الشيء نفسه على المفاوضات المتعلقة بتبادل الأسرى والمحتجزين في غزة، فلا قرار من دون موافقة مصر، لأن جزءا من القرار يتعلق بسيادتها على حدودها، ولا قرار من دون موافقة السعودية والإمارات وقطر وتركيا، لأنها جميعا تشارك في مسؤولية إعادة البناء وإدارة غزة بالتعاون مع السلطة الفلسطينية في الأجل المنظور.
إن اللانظام الإقليمي وهشاشة الدولة في العالم العربي وعدم نضج مفهوم الدولة لدى الحكومات إلى أبعد من حدود البقاء والاستمرار في الحكم، سيجعل كل الحلول ناقصة، وكل توازنات القوى في الحاضر قابلة للانقلاب في المستقبل مهما فعلت إسرائيل.
القدس العربي