يساريون وليبراليون ومثقفون،
مصريون وأردنيون وعرب، هلّلوا للانقلاب العسكري في مصر، واعتبروه فاتحة الطريق لتصحيح مسار الثورات، والتخلص من القوى الدينية بعد التخلص من الأنظمة البوليسية. لكنّ حماس هؤلاء بدأ بالفتور لاحقاً، مع إمعان العسكر أكثر في المضي في خريطة الطريق؛ من قوانين عرفية، وإعلانات دستورية، ومواد دستورية تحصّن الفاسدين والعسكر، ومحاكمات شكلية، وانتهاكات لحقوق الإنسان.
بالرغم من ذلك، لم نجد اعترافاً من هذه النخب "العلمانية" واليسارية بالخطايا التي ارتكبتها في مصر، بتبرير التدخل العسكري؛ أو حتى في العالم العربي بتأييده، إلاّ نخبة قليلة محدودة!
في التقاط تلك المفارقات في أوساط الإعلام والمثقفين والسياسيين، ومراوغتهم في التعامل مع الوقائع السافرة التي تؤكد عودة "الدولة الأمنية"؛ يبدع الكاتب المصري
بلال فضل. وهو خصم للإخوان، لكنّه مثقف ملتزم متسق مع نفسه ومبادئه. ولا عجب أن نصوصه، كما يؤكد سياسيون مصريون، هي أكثر ما يزعج وزير الدفاع عبدالفتاح السيسي هذه الأيام. إلاّ أن مقاله أمس تحديداً "مدني على نفسك"، هو من أجمل ما كتب مؤخراً.
يفتتح فضل مقاله بالقول: "قبل أشهر صفع إخواني متظاهرة أمام مكتب الإرشاد فاشتعلت البلاد كلها غضبا، وكاد مذيعو وضيوف التوك شو أن يصابوا بالفتاق على الهواء من حدة الغضب على كرامة المرأة المصرية. وبالأمس، تعرضت متظاهرات سلميات للصفع والركل وشد الشعر والتحرش والإهانة على أيدى أشاوس الشرطة، قبل أن يتم رميهن في الصحراء، فأدارت البلاد وجهها الناحية الثانية و"عملت نفسها نايمة"، وكاد مذيعو وضيوف التوك شو أن يصابوا بالفتاق على الهواء من فرط التبرير لما قام به الضباط والجنود، ومن شدة الإدانة لما قام به المتظاهرون الأوغاد"!
يتهكّم فضل في الفقرة السابقة على الحكم-الفضيحة الذي أصدرته محكمة في الاسكندرية على 14 فتاة مصرية (ضمن ما يسمى "حركة 7 الصبح") بالسجن مدة 11 عاماً، وعدد منهن من القاصرات، سيذهبن إلى "إصلاحيات"، وأغلبهن من طالبات وخريجات الهندسة والطب والعلوم المبدعات في الجامعات. والجريمة الحقيقية التي ارتكبنها تتمثل في التظاهر سلمياً، احتجاجاً على اعتقال زملائهن الطلاب!
هو القضاء نفسه الذي قام بالحكم على 12 طالباً في جامعة الأزهر، قبل أسابيع، بالسجن لمدة 17 عاماً لكل منهم، فقط لأنّهم تظاهروا أمام مشيخة الأزهر ضد الانقلاب العسكري، وانتصاراً لدماء الطلاب الذين استشهدوا في المسيرات والمظاهرات، أو الذين اعتقلوا وزُجّ بهم في السجون.
هل تتصوّرون حجم الجنون والهستيريا في هذا الحكم، والانزلاق الخطير في مستوى القضاء المصري في هذه الأزمة! وهو القضاء المدني الذي كان يفتخر بقدر كبير من الاستقلالية، وبوجود تقاليد راسخة تحميه، أيّام حسني مبارك، وإذا به اليوم هو نفسه من يعتقل زعيم حركة استقلال القضاء، المستشار محمود الخضيري، الذي عُرف بوقوفه البطولي في وجه نظام مبارك حماية لاستقلال القضاء، وهو رئيس نادي قضاة الاسكندرية؛ فيزج به في السجن بأمر من المدّعي العام، ويُعزل عشرات القضاة فقط لأنّهم لم يؤيدوا الانقلاب!
عندما نخاطب النخبة الليبرالية واليسارية التي أيّدت الانقلاب بوضوح، وانتقدته بخجل أو بصمت، سابقاً، فذلك ليس مرتبطاً بتسجيل مواقف بشأن من كان مصيباً أو مخطئاً، بل لفضح الأجندة الخطيرة التي نجحت في تخويف المواطنين من الثورات والحريات، ومحاولة إعادة بناء وتصميم جدران الخوف، لاستدامة الحكم الدكتاتوري. فلم يعد الآن أمام النخبة الإصلاحية تجاه ما يحدث في مصر من خيار، إلاّ الانحياز إلى الديمقراطية والحرية، أو التخلي تماماً عن دعوى الإيمان بذلك!
عن الغد الأردنية