أثبتت التجارب ووقائع التطورات السياسية منها وحتى العسكرية، وعلى مر التاريخ لعدة عقود خلت، أن العلاقات الدولية تكون دائماً مرهونة باستخدام "
الاقتصاد" من اجل تحقيق اهداف "السياسة"، مهما كان نوعها وتوجهاتها، وما يتطلب ذلك من رصد أموال تكون احياناً بلا حدود، لتمويل عمليات عسكرية، او صفقات اسلحة متنوعة من شأنها أن تساهم في احداث تغييرات "جيوبوليتيكية"، وسواء كان هذا التمويل على شكل دعم مفتوح وبلا مقابل، أو على شكل قروض طويلة الاجل، ويكون نهايتها "الشطب" وفق ما تقرره النوادي الدولية مثل "نادي باريس" و"نادي لندن" وغيرهما، والمتخصصة في ادارة الديون وترجمتها بمواقف سياسية تقتضيها مصالح الدائنين لمساعدة المدينين.
وهذا ما تشهده حالياً العلاقات الدولية التي تتحكم بتطورات منطقة الشرق الاوسط في ضوء تداعيات ثورات
الربيع العربي، بما فيها الثورة السورية ضد نظام بشار الاسد وما نتج عنها من صراع مصالح، اقليمياً ودولياً، وكذلك تطورات الثورة
المصرية بمرحلتيها الاولى والثانية.
وفي هذا المجال، يمكن العودة الى العام 1973 عندما طرد الرئيس انور السادات في حينه الخبراء العسكريين السوفييت وبدا بذلك وكأنه يقدم اوراق اعتماده للإدارة الامريكية، بعد حرب اكتوبر 1973 التي انتصر فيها بسلاح سوفيتي، ولما ابلغ قراره الى هنري كيسينجر وكان وزيراً للخارجية الامريكية آنذاك، اجابه الاخير انه "لو عرض هذا الامر على الامريكيين قبل تنفيذه، لكانوا منحوه شيكاً على بياض لحثه على الفعل"، الامر الذي حمل السادات على ان يطالب بالشيك، لكن كيسينجر عاجله القول "ان الامريكيين لا يدفعون بعد ان تدخل البضائع مخازنهم".
وعلى الرغم من كل التطورات السياسية والامنية في منطقة الشرق الاوسط وكذلك تطورات الحراك الشعبي والعسكري الذي رافق الثورة المصرية بمرحلتيها الاولى والثانية، وموقف واشنطن منها، يبدو ان ادارة اوباما طبقت مؤخراً النظرية الامريكية التي سبق ان ابلغها كيسينجر للسادات منذ حوالي 30 سنة.
فأقدمت واشنطن على وقف
المساعدات العسكرية البالغة نحو 1.3 مليار دولار سنوياً، او جزءاً منها (كما تردد)، على اساس ان المبلغ الذي حصلت عليه مصر طوال السنوات الماضية، وهو لا يقل عن 32 مليار دولار، يكفي لسداد ثمن موقف مصر بتوقيعها معاهدة السلام مع اسرائيل، خصوصاً بعدما استنفدت هذه الاتفاقية اهدافها السياسية والعسكرية في المنطقة في اطار الصراع العربي الاسرائيلي.
وتعرض القرار الأمريكي لانتقادات شديدة، واعتبر بانه يخل بالمعاهدة، حيث كانت مصر تحصل على تلك المساعدات ثمنا لتأمين السلام مع اسرائيل، وقد حظرت المعاهدة عليها ادخال قوات الى المنطقة الحدودية (ج)، ولكن يبدو مع تبدل الوضع الآن قد تطالب القاهرة بتعديل المعاهدة على أنه حق قانوني لها.
وفي إشارة واضحة لأهمية المصالح الامريكية واستخدامها في العلاقات الدولية، سبق لوزيرة الخارجية السابقة كونداليزا رايس أن اعلنت انه "ليس لدى الولايات المتحدة أعداء دائمون او اصدقاء دائمون، ولكن لديها مصالح دائمة". لذلك لم يفاجأ المراقبون بالانفتاح الامريكي الاخير على العلاقات مع ايران، خصوصاً وان بعضهم يرى ان ثورات الربيع العربي وتنامي المد الاسلامي في المنطقة، كان لهما تأثيرهما البالغين في توجه واشنطن تجاه طهران، بمنطق الرهان على الجواد الاسلامي بشقيه السني والشيعي.
وتسعى الولايات المتحدة نحو مشروع شامل لوضع العالمين العربي والاسلامي تحت مظلتها، على ان تحتفظ بمسافة بعيدة منهما حرصاً على أمنها وضماناً لمصالحها، مع الابتعاد من احتمالات التورط في مواجهة مشاكل "التطرف" الديني في غرب آسيا وشمال افريقيا.
بعد 30 حزيران/ يونيو في مصر، اعلنت ثلاث دول خليجية وهي المملكة العربية السعودية والامارات والكويت دعم النظام الجديد وتقديم 15.9 مليار دولار لمساعدة الاقتصاد المصري على النهوض وتجاوز الازمات .
وإثر وقف المساعدة العسكرية الامريكية، دخل الروس بقوة وبشكل متسارع الى مصر وإعلان صفقة سلاح روسي قد يصل حجمها الى نحو 15 مليار دولار، تنفذ على مراحل، وبتمويل خليجي، لا سيما من السعودية والامارات، وباستعداد كامل للتعويض عن كامل المساعدات التي أوقفتها واشنطن عن القاهرة.
وهكذا تجد دول الخليج نفسها امام مفصل مهم في تصورها البعيد لأمنها وديمومة رخائها، وكلام الرئيس اوباما عن التركيز على ما هو خارج المنطقة والتخلي عن الدور المعتاد للولايات المتحدة بالمبادرة في معالجة ملفاتها، مقروناً باقتناع العديد من الاوساط الاميركية بالاقتراب الوشيك من الاستقلالية في الطاقة، بل المقدرة في امد ليس بعيداً على تصدير الطاقة للحلفاء في شرق آسيا، بما ينفي الحاجة الى تولي مسؤولية رئيسية في ضمان امن
الخليج العربي، يجعل من ضرورة تشكيل تصورات جديدة وتحالفات جديدة، تحفظ التوازن الذي قد يتعرض للاختلال، أمراً مطروحاً.
وكذلك يبرز في هذا المجال الدعم الخليجي للأردن والبالغة قيمته 5 مليارات دولار، بمعدل مليار دولار سنوياً، وقد بدأت باستثمار هذه المنحة في العام 2012، حتى ان رئيس الوزراء الاردني الدكتور عبد الله النسور طالب مؤخراً المسؤولين الاردنيين بتسريع انجاز المشاريع الممولة من دول الخليج، واعتبرها فرصة لتحسين الوضع الاقتصادي في البلاد بشكل عام.