يُقرأ الكتاب من عنوانه، ويُقرأ الدستور من ديباجته، وإذا كانت تسمية دستور عام 2012، أنه دستور الإخوان، أو دستور مرسي، على الرغم من عرضه على الشعب، وموافقته عليه فى استفتاء سري ومباشر، فإنه يجوز لنا أن نطلق على دستورهم، "دستور
السيسي"، صاحب الانقلاب، والحاكم الحقيقي لمصر بعد 3 يوليو.
قرأت "دستور السيسي" في أجواء فرح، شبية بفرح العمدة، إذ سمعنا تهليلاً لهذه اللحظة التاريخية الفارقة، في تاريخ المنطقة، تلك التي انتهت فيها لجنة الخمسين المعينة من قبل الرئيس المعين، من إعداد مشروع الدستور، وأقامت برامج "التوك شو" لهذه المناسبة التاريخية الأفراح والليالي الملاح، وخرجت صحف اليوم التالي، وهي في حالة من الطرب، عبرت عنه عناوينها الرئيسية، ولسان حال القوم، هو الأغنية الشهيرة، لخالد الذكر سعد الصغير: "النهاردة فرحي يا جدعان"!
في هذه الأجواء قرأت دستورهم، وهالني أن المقدمة، جاءت مرتبكة، وتكاد تقع "من طولها" من هول الارتباك، وكأن من كتبها تلميذ في المرحلة الإعدادية فجاءت كموضوع إنشاء، أو مقطوعة إملاء، وأذكر أنه في الصف السادس الابتدائي، وفي امتحانات آخر العام الدراسي، أن أملي علينا "الأستاذ المراقب"، موضوع إملاء، والذي كان عنوانه "
مصر والسودان"، ولا يزال صوت الأجش المتميز للمعلم يرن في أذني إلى الآن، وهو يقول: "مصر والسودان بلد واحد.. فالنيل الذي يربطهما واحد".. وهكذا، وقد ذكرتني الدبياجة، بهذا الموضوع!
منذ البداية، كانت هناك أزمة، لأن اللجنة عهدت لشاعر غنائي كبير كتابة ديباجة الدستور، لكن الأزمة كانت بالتطرق إلى الموضوع، دون التعرض للشكل، ومع أن الشكل لا يليق ومن حيث تقييم الصياغة، بموضوع عن جغرافية مصر يقرر على تلاميذ المرحلة الابتدائية!
بالرغم من أن شاعراً غنائياً بحجم سيد حجاب هو من صاغ هذه الديباجة، إلا أنها جاءت ركيكة على نحو فاضح، وإنشائية بشكل لا يليق بدستور، تعده لجنة في أجواء "زفة" نصبت لها، باعتبار أن ما قامت به هو فتح في عالم "الاختراعات الدستورية".
بعد عبارة "هذا دستورنا" بما تحتويه، من شموخ عارض، تأتي عبارة مرتكبة ومهزوزة هي التي تمثل البداية: "مصر هبة النيل للمصريين، وهبة المصريين للإنسانية" وما جاء بعد ذلك استلهم روح الفنانة ليلى علوي، التي طالبت بالنص على أن مصر تقع على البحر المتوسط، وعلى البحر الأحمر، وضج الفيس بوك بما قالت، وسخر الشباب حينذاك، مما ذكرت، ومنهم من قال إنه ينبغي أن ينص الدستور أيضاً على أنه مصر بها ترعتي: "الزمر"، و"المريوطية"!
بيد أن كاتب الديباجة تعامل مع ما قالته "ليلى" بجدية متطرفة، وبدا كما لو كان يكتب مقدمة لمنهج "الجغرافيا" المقرر على تلاميذ المدارس، وموضوع الفصل: "الموقع الاستراتيجي للمحروسة"، وإن كان ما يعنيني هنا هو هذه الصياغة المرتبكة، فجاء فيها ما يلي:
" مصر العربية".. اكتشاف هذا ولا شك!
" مصر العربية – بعبقرية موقعها وتاريخها – قلب العالم كله، فهي ملتقى حضارته وثقافاته، ومفترق طريق مواصلاته البحرية واتصالاته، وهي رأس أفريقيا المطل على المتوسط، ومصب أعظم أنهارها: النيل"..
"هذه هي مصر وطن خالد للمصريين، ورسالة سلام ومحبة لكل الشعوب".
بدا لي للوهلة الأولى، أننا أمام مستشرق، تعلم العربية "على كبر"، وإذ فجأة اكتشف مصر، فجاء ليعبر عنها بعربيته المرتبكة، التي تعلمها "على كبر"، والتعليم في الكبر كالنقش على الحجر!
"نهر النيل" ذُكر في المائة كلمة الأولى من الديباجة ثلاث مرات، ولا ضير في هذا، وإنما بدا ذلك مفتعلاً، بشكل كبير، وفي صياغة ركيكة، سعى من كتبها ليكتبها بروح الشاعر الغنائي، فجاء شعراً "حلمنتيشياً"، يفتقد للجاذبية، وتفتقد كلماته للرشاقة، وجمله للنغم الموسيقي.. كلمات ميتة بلا روح!
انظر إلى هذه العبارة التي جاءت لتمثل فاصلاً بين مجموعة من الجمل!
" مصر مهد الدين، وراية مجد الأديان السماوية"..
وعلى هذا المنوال جاءت الديباجة مفتعلة، ومرتبكة، وقلقة.
وعلى الرغم من أن الأصل في الديباجة أنها تعبير عن ما جاء في الدستور، إلا أن السطور طالت، حتى نسي كاتبها عمن تعبر الديباجة، وربما كتبها على أكثر من مرحلة، وفي كل مرحلة لا ينتبه إلى ضرورة إعادة قرأت ما كتب، فنسي سياق كلامه، فجاء في النهاية ليكون لسان حالة اللجنة التي وضعت الدستور، وبعبارة تكررت وهي: "نحن الآن نكتب دستوراً"، ثم تختلط الأمور في ذهن الكاتب بعد عدة فقرات، فينتقل من التخصيص إلى التعميم، ومن الحديث عن الذين كتبوا الدستور إلى الشعب المصري كله: "نحن المواطنات والمواطنين.. نحن الشعب المصري"، ربما إذا استدعينا الثقافة الصوفية، لقلنا إن المستهدف أن روح الشعب المصري كله حلت في لجنة الخمسين، لكن لا أظن أن القوم يعرفون ابن الفارض، ونظرية الحلول والاتحاد!
عندما قرأت هذه الديباجة ظننت أنه جرى استبعاد سيد حجاب، واستدعاء ليلى علوي لكتابتها لترضية كافة الأطراف، لكن هالني ما علمته بأن الكاتب هو حجاب بشحمه ولحمه، فأيقنت ساعتها، وأنا الذي في بقايا تصوف أكاد أخفيها، إن ربك هو من أعمى البصائر، حتى تكون ديباجة دستورهم على هذا القدر من الارتباك، لتكون بمثابة العاهة المستديمة، التي تلازمه للأبد!
لا يعني هذا أن الانقلاب سيحكم مصر للأبد، فأكاد أرى سقوطه، لكن الدساتير حتى التي لا يعمل بها، لا تلقى في اليم، وإنما توضع في متاحف كليات القانون، ليتذكرها الناس، فنحن إلى الآن نذكر ما أطلق على اللجنة التي أعدت دستور سنة 1936 بأنها "لجنة الأشقياء"، ونحن إلى الآن لا نزال نتحدث ونقرأ الدساتير التي وضعت في تاريخ مصر، وقد فاز "دستور السيسي" عليها كلها في الركاكة، والاختراعات السيئة.
وعلى ذكر كلمة "الآن" فقد جاء في الديباجة، عبارة تكررت: "نحن الآن نكتب"، ولا أعرف كيف يستساغ وضع كلمة "الآن" لدستور وضع ليطبق الآن وغداً.
لا بأس فنحن في زمن الركاكة.. والفكاكة.. مع الاحتفاظ لبراءة الاختراع للفريق السيسي لاصطلاح " الفكاكة".