سيبقى هذا الانقلاب في
مصر يقدم ما يبدو مستعصيًا على الفهم والتفسير، ولذلك فإن الحكم بإعدام 529 مصريًا من مناهضي الانقلاب جلهم من المواطنين العاديين، وبعضهم موتى أو خارج مصر منذ ما قبل الثورة، لن يكون الأخير من أفاعيل الانقلاب الموغلة في
البطش، والبالغة حدودًا قصوى من الجنون، كما أنه لم يكن الأول، سواء بالنسبة للمؤسسة القضائية، أو بالنسبة لبقية أجهزة ومؤسسات الدولة المصرية، أو حتى بالنسبة للمشهد المصري العام بكل مكوناته وصوره.
ومنذ اليوم الأول للانقلاب؛ توقع كاتب هذه السطور، بأن تكون الطريق في مواجهة الانقلاب والعمل على إسقاطه طويلة وشاقة ودامية، ولا يجوز فيها إلا توقع الأسوأ والأكثر جنونًا، وانتظار المزيد من الانكشاف للبنية الجوهرية التي تنهض في داخل الدولة المصرية، وينبني عليها كل هذا البطش والاستخفاف بالكرامة الآدمية، والعمى بالقوة والسطوة والقدرة على القهر، وهي توقعات يزيدها قوة الدعم الخليجي من ناحية، والإرادة الدولية باحتواء حركة الثورات العربية وما تنبئ عنه من إمكان التحرر من الهيمنة الغربية، من ناحية أخرى.
وبالرغم من أن حكم الإعدام الجماعي هذا لا يتسم بتلك الفرادة، إذا وضعناه إلى جانب كل الموبقات التي اقترفتها السلطات الانقلابية، فإنه لا يخلو من دلالات خاصه حين النظر إليه في زمانه الذي جاء فيه، من بعد تسعة شهور على الانقلاب الذي لم يستقر ولم يتمكن من الإجهاز على الحراك الثوري الجاد والحقيقي، ووضعه في سياق واحد مع كل الأحداث التي تدل على ضيق المنظومة الإقليمية التي تبنت هذا الانقلاب ودعمته وجعلته قضيتها الأولى، أو بصيغة أدق جعلت من القضاء على جماعة الإخوان المسلمين على وجه الخصوص، ومجمل تعبيرات ما يعرف بالإسلام السياسي، والجماعات الجهادية، قضيتها المصيرية.
بالنظر إلى هذا الحكم في هذه السياقات المتضافرة كلها، فإن دلالاته الراهنة الأهم تلك التي تؤكد نجاح الحراك الثوري في عرقلة الانقلاب ومنعه من تحقيق الاستقرار المطلوب وحرمانه من الاستفادة من كل الخطوات التي اجترحها لتثبيت شرعيته، وكان الفضل في ذلك كله إلى استمرار هذا الحراك الذي تجاوز كل أصناف البطش الرهيب التي تعرض لها، ولم يتراجع أمام محاولات السلطات الانقلابية لخلق أمر واقع مستند إلى شرعيات جديدة، ولذلك كان لا بد من الزيادة والتنويع في ابتداع أشكال جديدة من الإرهاب والتخويف والابتزاز والضغط لكبح هذا الحراك الثوري.
تفترض السلطات الانقلابية أن هذا النوع من الأحكام من شأنه أن يشكل رادعًا للجماهير الثورية، وأن يخلق رأيًا عامًا يحمّل جماعة الإخوان المسلمين المسؤولية عن حياة هؤلاء المواطنين بإصرارها على مواجهة الانقلاب وعدم الاعتراف بالأمر الواقع، وتدرك هذه السلطات النزعة المحافظة الكامنة في جماعة الإخوان المسلمين، وحساسيتها للرأي العام، وحرصها على صورتها التي اجتهدت في تثبيتها منذ أربعين عامًا على الأقل، وعلى هذا فلا يبدو دقيقًا ذلك التحليل المزمن الذي يرد أفعال سلطات الانقلاب دائمًا إلى الرغبة في جرّ جماعة الإخوان المسلمين إلى العنف.
هذه الإرادة المتوحشة في اجتثاث جماعة الإخوان المسلمين؛ وبعيدًا عن التحليل الآني لهذا الحكم، وفي حال لم نغفل صورة السلطات الانقلابية كأدوات لقوى إقليمية ودولية أخرى، إضافة إلى مصالحها وأهدافها الخاصة بطبيعة الحال، وحينما نجد أن دول الخليج على وجه الخصوص تقدم رغبتها في القضاء على الجماعة، على كل خصوماتها ومعاركها ومخاوفها الأخرى، حتى على معاركها مع إيران وملحقاتها، فهذا يعني أن القوى الاستعمارية وأدواتها الإقليمية تخشى من صعود إسلامي حقيقي محمول على حركة تاريخية كبرى من شأنه أن يهدد هيمنة القوى الاستعمارية، ويخلخل بنية المنظومة الإقليمية التي أوجدتها، وهو الأمر الذي يحتم على تلك القوى الطاغوتية الاستعجال والمبادرة لضرب هذه الحالة الصاعدة في مهدها وعدم التهاون في ذلك أبدًا.
فهذه القوى، ومن ضمنها السلطات الانقلابية، في موضع دفاع بالقدر الذي تبدو فيه في موضع هجوم، وهي بذلك تسابق الزمن وتحامي عن مصيرها القلق، ولأنها تستنفر اليوم كل إمكاناتها الضخمة في شل حركة المستضعفين دون أن تحقق بذلك النجاح الذي يكافئ هذه الإمكانات، فإن ثمة ما يشير إلى قوة تنطوي عليها حركة المستضعفين، وإمكان دائم على مواجهة القوى الطاغية مهما تدججت بالبطش والرعب والإرهاب، ومن ثم فإن الواجب القائم الآن في اكتشاف هذه القوة والإمكانات وتطويرها وتعظيمها، ومن ذلك تطوير هذه الحركة الثورية، والتقدم بها خطوات إلي الإمام بما يتجاوز حالة الرتابة القائمة إلى مزيد من المبادرة والفعل.