كتب توماس فريدمان: لو تتبّعتم النقاشات حول أوكرانيا، لتنبّهتم إلى ثلاث
وجهات نظر، فثمّة من يستغلّ الأزمة للسخرية، وآخرون يستخدمونها لتعزيز وجهات نظر مسبقة، وغيرهم يحاولون أن يروا إن كان ما يحصل سيعُلِمنا بأمور جديدة عن عالمنا اليوم.
وبالنسبة إلى من يستغلّ الأزمة للسخرية، يروق لي ما كتبه سيث مايرز، عندما قال «مع أنّ أوكرانيا تصدّرت جميع الأخبار في الأسابيع القليلة الماضية، كشف استطلاع أن 64 من الطلاب الأميركيين لم يجدوا أوكرانيا على الخريطة، وقد أفاد فلاديمير بوتين قائلاً: قريباً، لن يجدها أحد على الإطلاق».
أمّا بالنسبة إلى من يحاول تعزيز وجهات نظر مسبقة، تتكرّر في الصحف حجّة تفيد بأنّ استيلاء بوتين على القرم يعكس عودة إما لسياسة القوة التقليدية التي سادت القرن التاسع عشر، أو للحرب الباردة ولا شكّ في أنّ من اعتقد أنّ العولمة طغت على هذا النوع من الجغرافيا السياسية هو ساذج تماماً.
وبالنسبة إلى من يؤمن بمنحى فكريّ جديد، تحيّرني حجّة صدرت عن الصحفية الروسية الأميركية ماشا غيسين، وأخرى عن نادر موسوي زاده، وهو مستشار جيوسياسي وكاتب عمود في وكالة «رويترز»، بطرق مختلفة، ومفادها أن بوتين يمثّل نوعاً جديداً من القادة الهجناء، الذين يستغلّون أدوات العولمة ومنافعها لترويج ما اعتبره موسوي زاده «خيارات استراتيجية للاعتراض المباشر على قيم الغرب ومصالحه»، أو كما كتبت غيسين في «واشنطن بوست«: «إنّ
روسيا تعيد بناء نفسها كقائدة العالم المناهض للغرب... وهي تماماً وجهة نظر الشعب الروسي حول الأحداث في أوكرانيا، التي تفيد بأنّ الغرب يسيطر فعليًّا على العالم، ووحده الجيش الروسي قادر على الوقوف بين المواطنين الغافلين في الدولة السلافية، والمثليين الوافدين باتّجاههم من بروكسل».
أما أنا، فأرى أنّ الترابط العالمي الراهن بين الاقتصاد والتكنولوجيا عاجز طبعاً عن جعل الحرب مفهوماً بائداً فالبشر سيفاجئونك على الدوام بيد أن العولمة اليوم تفرض قيوداً فعلية تحدّد معالم الجغرافيا السياسية أكثر مما نظن. وقد أوردت «أسوشيتد برس» الأسبوع الماضي من موسكو أنّ «أحدث الأرقام تشير إلى خسارة روسيا رؤوس أموال خارجة بقيمة 70 مليار دولار في الأشهر الثلاثة الأولى من العام، أي ما يزيد على مجمل رؤوس الأموال الخارجة من البلاد خلال العام 2013»، وهو أمر لم يفوّته بوتين طبعاً.
ولتعزيز وجهة النظر السابقة، سأشير إلى موقف فريد جدّاً عن الرواية قدّمه مايكل ماندلباوم، خبير السياسة الخارجية في «جونز هوبكنز»، وقد جادل قائلاً في كتابه الجديد، بعنوان «الطريق إلى الازدهار العالمي»، أنه على الرغم من عدم إلغاء الاقتصاد العالمي للجغرافيا السياسية، لا شكّ في أنّه يعتّم عليها عالمياً، في ما يُعتبَر أيضاً مفتاحاً للتعتيم على بوتين.
وفي كتابه، يشرح ماندلباوم (المشارك في تأليف كتاب سابق) أن المسألة ليست مرتبطة بالخيارات، فالجغرافيا السياسية لم تختف يوماً، وإن أصبحت العولمة أهم شأناً منها. وما يحصل هو أنّ ازدهار العولمة يتطلّب سوقاً تسمح القوّة ببثّ الاستقرار فيه. وقد وفّرت بريطانيا هذا النموذج في القرن التاسع عشر، وتعتمده الولايات المتحدة حتّى اليوم، وستضطر إلى مواصلة الاعتماد عليه، حتّى لو أصبح بوتين من المسالمين النباتيين.
ولكن مهلاً، فماندلباوم قال في إحدى المقابلات: «إنّ بوتين ليس مخلوقاً غريباً من الماضي، بل هو نتاج العولمة، شأنه شأن المشاركين في دافوس».
ومن المعلوم أنّ بوتين يترأس دولة نفطية. ولولا النمو الذي أنتجته العولمة في أسواق العالم، وعائدات الطاقة التي يدرّها على
روسيا، لكان بوتين والنخبة الحاكمة التي تشكّل قاعدة نفوذه يعيشون من صادرات الفودكا والكافيار. وبوتين لن يستطيع الصمود من دون العائدات التي توفّرها له العولمة لاستماله شعبه والجمهوريات السوفياتية السابقة إليه.
وفي ما سبق توجيهات حول كيفيّة «إنهاء البوتينية»، وفقاً لماندلباوم، «وهو أمر لن تقتصر منافعه على العالم، ولكن ستشمل أيضاً، وخصوصاً، الدولة الروسيّة. أما الأدوات لتحقيق ذلك، فاقتصادية بشكل أساسي، وتقضي بمنع النخبة الحاكمة من النفاذ إلى النظام المالي الغربي، وبالحد من عائدات الطاقة المتدفقة إلى خزائن بوتين».
إنّه نوع جديد من الاحتواء. فعندما كان الاحتواء عسكرياً بشكل أساسي خلال الحرب الباردة، كانت الولايات المتحدة تتحمّل جزءاً غير متناسب من العبء الغربي. أمّا الآن، وبعد أن بات الاحتواء اقتصاديّاً «فسيضطر الأوروبيون إلى المساهمة أكثر»، وفقاً لماندلباوم»، الذي أضاف قائلاً «إن الألمان سيضطرون إلى الحدّ من بيع آلات التشغيل والسيارات لروسيا، ويُرغَم الفرنسيون على خفض كمّ الأسلحة التي يبيعونها لنظام بوتين أو على وضع حدّ كلّي لذلك، في حين يضطر البريطانيون إلى منع النخبة الحاكمة الروسيّة من استغلال لندن كملعب ومركز لتبييض الأموال. والأهم هو أنّ الأوروبيين سيضطرون إلى فطم أنفسهم من الغاز الروسي».
أما نحن الأميركيين، فسيكون علينا تسديد ضرائب طاقة أغلى، في سبيل الترويج لمنحى تحفّظي، وتوسيع قطاع الغاز الطبيعي والطاقة المتجددة بطرق أكثر أماناً، فينخفض بالتالي الطلب على النفط العالمي ويتراجع كمّ الأموال التي يتلاعب بها بوتين. وسيتسنّى لنا أن نهزم هذا الرجل غداً من دون طلقة نارية واحدة، إن أبدى جميعنا استعداداً للتصرّف، بدلاً من مطالبة نسبة 1 في المائة من المشاركين في الجيش بتولّي الأمور برمّتها، وبوتين يعتقد أنه بالتحديد الأمر الذي لن نجرؤ عليه.
وقال ماندلباوم إنه «في عصر العولمة، حيث تتّخذ أدوات الجغرافيا السياسية طابعاً اقتصادياً أكبر، من الضروري أن يضحّي الجميع قليلاً بدلاً من أن تتخلى قلّة منا عن الكثير ليتسنّى لنا حفظ النظام العالمي الذي تسود فيه قيمنا». وليست القرم امتحاناً لقدرة العولمة على صقل معالم العالم اليوم، فهذه القدرة متجلٍّية للعيان منذ الأساس. بل هو امتحان لنعرف إن كان الغرب سيستغلّ هذا النظام لرسم معالم الأحداث على طريقتنا».
(الوطن القطرية)